ديوان شاعر البروة الشّعبيّ أسعد عطاالله (العثور على ديوانه، سيرته، ومضمون الديوان وقيمته) / يوسف ناصر

        ديوان شاعر البروة الشّعبيّ أسعد عطاالله (العثور على ديوانه، سيرته، ومضمون الديوان وقيمته)                                    
         لا أحبّ لقلمي أن أجري به على غير طبعه وهواه، وما اعتدت أن أكلّفه الكتابة يومًا في شأن شاعر أو أديب إلاّ حين يطرق بابي حقّ له عندي وسبب. بيدَ أنّ جلال هذا الموضوع وقيمته، وما لشاعر البروة الشعبيّ من حقّ في الاحتفاء به بمناسبة عثوري على كنزه الدّفين، ديوانه الضائع منذ قرابة قرن كامل بعد البحث الدؤوب عنه وقتًا طويلًا، إضافة إلى ما اخترم الشاعر من عوادي الدهر التي بخَست الشاعرَ حقّه، كلّ ذلك يحكم عليّ أن أنوّه به عرفانًا لفضله، وإجلالًا لشاعريته، وتقديرًا لأبناء قريته الأحبّاء في شخص واحد من شعرائهم، كان عندليبهم الصّدّاح وبلبلهم الغرّيد، وقد قضى سحابة عمره يشدو في أفراحهم، ويتغنّى بذكر مآثرهم، إلى أن بدّدت الأيّام شملهم، وخرج بينهم لاجئًا يقاسمهم بؤس الرحيل عن الوطن الحبيب.
            وأصل الحافز في البحث عن ديوان الشاعر يعود إلى أنّ الصديق البروفيسور قسطندي شوملي، أستاذ الأدب المقارن في جامعة بيت لحم، دعاني يوم كنت أعمل محاضرًا للّغة العربية في جامعة القدس لأقدّم دراسة في "مؤتمر الأدب الشعبي في فلسطين" الذي عُقد في الجامعة شهر أيّار عام 2010 أتناول فيها الشعر الشعبيّ في الجليل من مختلف جوانبه، وقد أعددت في حينه دراسة وافية في هذا الموضوع الواسع مستعينًا بما يسعفني من المراجع والمصادر، ومعتمدًا في ذلك على أخبار وحكايات تلقّفها الآباء من الأجداد في قرى الجليل الأعلى، مع تقصّي أخبار أولئك الشعراء الذين نهضوا بهذا الفن إبّان عهد الانتداب البريطانيّ، إضافة إلى أولئك الذين واصلوا إحياءه بعد ذلك العهد إلى يومنا هذا. 
               كان أسعد عطاالله علمًا معروفًا بنباهة صيته بين أعلام الشعر الشعبيّ في قرى الجليل إبّان عهد الانتداب البريطانيّ. وكان واحدًا في كوكبة من الشعراء الشعبيّين الذين عمَروا قرى الجليل بأشعارهم وأفعموها بأناشيدهم في مختلف المناسبات والاحتفالات. وفوق ذلك، انفرد عن شعراء عهده بأنّه الوحيد بينهم من ترك ديوانَين من الشعر في هذا الفنّ. وإنه لمن دواعي العجب والأسف أنّ الديوان الأوّل الذي أتناوله في مقالي، كالديوان الثاني قد ضاع، وقد محت يد الأيّام كلّ أثر له بين الناس! فطفت أفتّش عنه في كلّ موضع دونما كلال ويأس، يساعدني في تعقّب أثره نجلي الحبيب إياس الباحث والمحاضر في قسم اللّغة العربيّة في الجامعة العبريّة، حتّى جاءتني البشرى أخيرًا من حيث لم أتوقّع، وعثرت على نسخة واحدة منه بعنوان "نشأْ الفنّ" في مكان مجهول كان الكتاب فيه يوشك أن يمّحي أثره، لولا أنّي تداركته بالبحث وقتًا طويلًا. ولشَدّ ما كانت دهشتي حين وجدت نسخة الديوان تكشف النقاب عن ديوان آخر للشاعر "سيصدر قريبًا بعنوان "محيط الفن"! راجيًا في هذا الديوان المفقود أن تعينني الأيام، وأهتدي إليه مثلما اهتديت إلى توأمه.
           لا أستطيع في هذا المقام أن ألمّ بتفاصيل سيرة الشاعر كاملةً سوى أنّه ولد في قرية البروة، ونشأ في كنف عائلة صغيرة، وقد أنهى أولى سنوات تعليمه في مدرسة قريته التي أقامها الرّوس آنذاك في القرية كسائر المدارس التي أقاموها في عدد من القرى العربيّة في فلسطين. وما إن اصلبّ عود الشاعر حتّى نزعت نفسه إلى الشعر، ونبغ في نظمه صدر العقد الثالث من عمره. وبحكم ذكائه وفطرته وتقدّمه في المعرفة قياسًا بمستوى التعليم في ذلك العهد، سرعان ما ذاع صيته ولمع اسمه بين أقرانه من الشعراء الشعبيّين من أبناء عهده. ومّما زاد في توقّد جذوته في فنّ العتابا خاصّةً، مشاركته شعراء لبنان الذين كانوا يؤمّون عكّا للاحتفال في مهرجان عيد المولد النبويّ الذي كان يُقام كلّ عام في هذه المناسبة، إذ كان غناء الميجانا والعتابا لدى أولئك الشّعراء اللّبنانيين هو الغالب في هذه الاحتفالات. أذكر منهم شاعر الزجل الكبير أسعد فغالي، الملقّب بشحرور الوادي، ويوسف حاتم، وعبّاس نجم الحومينيّ، وأسعد سعيد صعب، وإلياس شاكر قسطنطين وغيرهم، شأنهم في ذلك شأن غيرهم من الشّعراء والأدباء الذين كانوا يَفِدون إلى البلاد كأحمد شوقي، ومعروف الرصافي، وجورجي زيدان، وخليل مطران، وميخائيل نعيمة، وغيرهم.
            وممّا يشهد على المنزلة الرفيعة التي بلغها الشاعر أسعد عطاالله في هذا الفن أنّ الشّاعرين اللّبنانيّين الكبيرين يوسف حاتم وعبّاس نجم الحومينيّ المذكورَين كانا زاراه في منزله في البروة بعد اختتام الاحتفالات في المناسبة المذكورة. وحسْبُ الشاعر أسعد عطاالله في زيارة هذين الوعْلين شهادةً له على طول باعه في هذا الفن، وأنّه من الأنداد والعرانين المعدودين في هذا المضمار.                                                        
       ولمـّـا أزرى الشعر بالشّاعر، وقد اشتدت كظّة الأيّام عليه بالفقر والعوز الشديدين، انتقل بأسرته في منتصف سنوات العقد الرابع من القرن الماضي إلى حيفا طلبًا للرزق، وعمل هناك خادمًا (قندلفت) في كنيسة الروم الأرثوذكس في حيفا. وحين بدأت أحداث النكبة تتوالى في حيفا، وما صاحبها من أعمال قتل وشغب، خفّ الشاعر إلى قريته، وهي عنده مناط القلب، يرجو فيها الأمن والسلامة ، ويقيم في مضافة الأب الجليل الخوري جبران الخوري نوّر الله ضريحه، فيجد نفسه إذْ ذاك في قريته "كالمستجير من الرمضاء بالنار"! والناس في رعب وهلع ممّا يصدمهم من خطر الرحيل! وممّا يخلع القلب في هذا الظرف العصيب أنّ الشاعر ساعة أيقن أنْ "ليست عشيّات الحمى برواجع" و"أنّ الركب مرتحل" لا محالة، و" لا يطيق وداعًا" لتراب الوطن، وقد "شُدّت لطيّات مطايا وأرحل" أخذ "يقبّل ذا الجدار وذا الجدارا " مودّعًا، ويطلق صائحًا آخر بيت من العتابا قاله في قريته على رواية شاهدة عيان فاضلة يوثق بروايتها:
           كفاني قهر يا دنيا كفاني    ظلمني الدهر وعاوجهي كفاني
            دعوني قبل ما ألبس كفاني   دعوني تأعفِــرْ وجهي بالتّراب 
ومن قريته حطّ به الترحال مع أسرته في قرية رميش جنوب لبنان، ومن هناك أقام في قرية جلّ الذيب قرب بيروت، ولم يمض على إقامته هناك سوى عامين حتى وافاه أجله غمًّا، وفي تلك الديار أقام "ما أقامَ عسيبُ" ! ولم يتجاوز منتصف العقد الخامس من عمره! 
لا أبغي في هذا المقال بعد هذا العرض القصير لسيرة الشاعر سوى تقديم استعراض موجز لديوانه الذي يستحقّ تحقيقًا لغويًّا شاملًا، ودراسة علميّة وافية، تتناول الديوان من مختلف مواده وخصائصه، وتتولّى طبعه، وإخراجه إلى القرّاء بأبهى حلّة وأجمل ثوب قشيب.  
        طبع الديوان في مطبعة النجاح في عكّا عام 1930، وقد سمّى الشاعر ديوانه "نشأْ الفنّ" (هكذا)، يعني بدايته.  
 قدّم الشاعر ديوانه بقوله:
            "بسم الله الحيّ القيّوم الذي ملكه لا يحول ولا يزول خالقًا الكون تامًّا من كل المخلوقات ومنهم جنس البشر الذي خلقت أيضًا أنا منه فله الحمد الوافر والشكر المتواتر. أما بعد فلما بلغ عمري ما ينوف عن ثلاثين سنة تعلقت في أمور الفن في أقوال العتابا ومن زود تجولي في بحرها جاش في فكري أقوال في شعر العتابا فعزمت أن أدرج ما تهيأ في فكري من الفنون حتى تسير في أنحاء البلاد. وهذا أوّل فتوح بدا منّي في أقوال العتابا. وسمّيت هذا الكتاب "نشأْ الفن" والسلام. أسعد يوسف عطاالله من البروة"
وفي الصفحة قبل الأخيرة من الكتاب يذكر "انتهى هذا الكتاب وسيليه عن قريب كتاب محيط الفن". ثم يذكر بعد ذلك:
"انتهى هذا الكتاب الأوّل وهو كتاب نشأ الفن وكان انتهاء نظمه في 20 آب سنة  1930. أسعد عطاالله من البروة".
ويُشار في الصفحة الأخيرة منه إلى أنّ  "ثمن النسخة 15 ملًّا فلسطينيًّا".
          وقد صدّر الشاعر الصفحة الأولى من ديوانه بصورة له في زيّه العربيّ بين بيتين من العتابا أحدهما من فوقُ والآخر من تحتُ يضمّنهما تعريفًا بنفسه وافتخارًا.
            يحتوي الديوان تسعة فصول، يشتمل أكثرها على الميجانا والعتابا التي يسمّيها الشاعر في الفصل الثالث العتابا "الهوائيّة"، وفيها يتغزّل الشاعر، ويعبّر عن جمال الحبيب وظلمه، وما يكابده من تباريح الشوق إليه، وما يعتلج في خاطره من أسى الفراق. 
من أمثلة ذلك في الميجانا قوله:
يا رايحين صوب الحبايب سلّمو     على ظريف الطول ربي سلمو
لعمل من الظلعين درجة سلمو     واعمل من الزندين عامود البنا
سبحان ربك بالمحاسن كمّلك   قلبي وفؤادي لجل حبك كمّلك
شفت البدر بيلوح داخل كمّلك والشمس تضحك من خروج التنتنا
ومن أمثلة عتابا الغزل قوله:
عجب! روس النواهد ليش فلّيت    مسكتا، نَفَرْ مني أبجري، فلّيت!
لمستا في نهودا تصيح فلّيت          العشق ما هو أرض تنبت اعشاب!
           أما النوع الثاني من العتابا فتلك التي يسمّيها الشّاعر في الفصل السّادس "العتابا الجبورية" وهي التي تنسب في أصل نشأتها إلى قبيلة الجبور في العراق على رأيٍ غير أكيد لأحد الدارسين، أو إلى الأصول السّريانيّة على رأي بعضهم. وفي هذا النوع من العتابا تلقى الشاعر فارسًا يكثر  الفخر بالشجاعة، والفروسيّة في الحرب، والتغنّي بالسيف والحصان على غرار ما نعرفه من أدب الفروسيّة والحماسة في الشعر الفصيح.
      وأبرز ما في الفصل السّابع من الديوان أنّ قريته حاضرة في وعيه، لا تبرح خياله، ويعبّر فيه عمّا يجيش في قلبه من حبّ لها، ويتغنّى بأهلها ويذكر عائلاتها، وبعضًا من أعيانها دونما استثناء من مسيحيّين ومسلمين، يذكر بين أولئك الشيخ محمد الكيّال، والخوري جبران الخوري الذي كان عماده وملاذه عند الشدائد، وأبو توفيق رضوان سكس جار الشّاعر:
من أمثلة ذلك:
ــــــ بلدنا ملجأ القصّاد والجاه          ومرفوعا القدر والشان والجاه
تحليل العسر لليسر والجاه           تفكفك لمعاضيل الصعاب 
ــــــ لادرجْ مدحها، والنظم بَرواي     بها منهل إلى الظمان برواي
انوجد فيكي ألا باجدار برواي      فطاحل كالأسود ابوسط غاب
ــــــ بلدنا عاليه بوسط راباي        وفيك محمد الكيّال راباي
بيدو لو لمس للماء راباي       صبّحْ كاللبن تحويل الميا
 ـــــ غرّب عابني درويش تغريب     يوسف كان يسن أحكام تغريب
وكل منها الشمس بامس تغريب   احمد يلتقي ضيوف المسا
ــــــ لـمْــدحْ حضرتك يا أب جُبران    صرت كاهن عن الدشمان جَبران
جدّك للخواطر كان جُبران    نقولا فكفك أمور الصعاب 
ـــــ بلغني البست ثوب العزّ حلّاك     يباهي عالمنيره اللطف وحلاك
إذا أقثم دجا الديجور واحلاك      جبينك عن بزوغ البدر ناب
ـــــ أبو توفيق نعم الجار جاراي     يصفح للمرء لو كان جاراي
أما تعلم بأنّ الفكر جاراي      بمدحو الّف الناظم عتاب
           إضافة إلى ذلك يتضمّن الديوان "العتابا الفراقية" في الفصل الثامن منه، على نحو ما يتضمّنه من عتابا "مخاطبة الدهر" في الفصل الأوّل، وفي كلا الفصلين تجد الشاعر حزينًا، كثير التشكّي والتبرّم بالحياة، ويندب حاله في التياع شديد لفجيعة ألـمّت به، قد تكون بابنه أو أخيه أو غير ذلك. ونتيجة لذلك تلقاه يكرّر في مطالع أكثر أبياته قوله "طعنّي الدهر سهمو" أو "حبابي شيّلون" أو "احبابي شيّلو"! 
من أمثلة ذلك قوله:
ـــ طعنّي الدهر سهمو طب فيَّ     رماني بالشمس من بعد فيَّا
زماني اتكيدني بالزور فيَّ        شرع تاحللت هذه لبواب 
وكقوله:
حبابي شيّلون بليل ونهار    عفقدو هلْ دمع العين وانهار
بقلبي لو وضعتو ابحور وانهار  مطفت نار وجدي والّهاب
أمّا الفصل التاسع والأخير من ديوانه فيتضمّن "مواويل بغداديّة" تقوم على النوع السباعيّ منها، والمكوّن من سبعة أشطر وهو المسمّى "البغدادي" والذي وصل البلاد من العراق، وكان معروفًا وشائعًا لدى الشّعراء اللّبنانيّين مرحلتئذ. ويبدو أنّ الشاعر امتطى ما يُدعى "بالموّال الأحمر" منه، مجاراة لهم، ولموافقته ما كان يقاسيه الشاعر من يأس وأسًى.
              إن لديوان الشاعر أسعد عطاالله قيمة كبيرة، وفائدة جمّة، إذ يقدّم للقارئ شاعرًا مطبوعًا غير متكلّف، تتبيّن في شعره "رونق الطبع ووشي الغريزة" وزجّالًا راسخًا في النّظم، ومقتدرًا على القوافي، ومتضلّعًا من لغته العربيّة بدليل استعمال الألفاظ الوعرة أحيانًا كالفدافد والعنادم وأقثمَ  والحندس والدّشمان وغير ذلك، كما يقدّم الديوان مادة غزيرة للدرس والتحقيق في مجال الشعر الشعبيّ الفلسطينيّ، ويعرض نموذجًا حيًّا من هذا النوع من الشعر في ذلك العهد، كما يعرض صورة أمينة للّغة العاميّة السائدة في تلك الفترة قبل قرن من الزمن، حيث تشتمل على كلمات وتعابير وجمل لها دلالات قديمة يجهلها أبناء الجيل الجديد. والديوان مع ذلك شاهد على ما يعتمل في وجدان العربيّ الفلسطينيّ في تلك الظروف القاسية من هواجس وهموم. 
    أخيرًا وفي موقف الاحتفاء بقيامة الشاعر من رقدة الغيب والنسيان، وعودة ديوانه من ذلك الموت الذي ربض عليه قرنًا وأخفاه، كأنّي بقلمي واقف بتهيّب وأسًى على قبر ذلك الشاعر اللاجئ حيث شطّ به المزار في بلاد الغربة، ويحني فوقه هامته ويذرف أدمعه، تقديرًا لهزار صدح على أيك الوطن، وشدا للفرح، وغرّد للحبّ أعوامًا، فتزحمه صروف الدهر، وتجور عليه جورًا تنوء بحمله الأنفس، فتحجب عنه الفرح والحبّ، وتشعل في نفسه غصّات من جمر، وتوقد في صدره نفثات من نار، فيدفن في بلاد غير بلاده حيث هناك تبلى عظامه في قبر بعيد عن الديار، لكنْ لا يبلى فيه شوقه ولا يَخمَد حنينه إلى تراب الوطن الحبيب.
                                           كفرسميع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق