يـُقال أنّ رئيس الحكومة الهندية "ناريندرا مودي" يهوى إتخاذ القرارات المفاجئة والصادمة، ويعتبرها "ضربة معلم" حتى وإنْ ووجهت بالانتقادات من خصومه ومنافسيه. وإذا كان قراره القيام بأولى زياراته الخارجية بعد توليه السلطة في عام 2014 إلى الصين، غريمة بلاده التقليدية إلى الشمال والتي تحتل آلاف الكيلومترات من الأراضي الهندية منذ عام 1962، هو أولى مفاجآته فإن آخرها هو ما حدث في الأسبوع قبل الماضي حينما راهن على رصيده السياسي فقام بزيارة مفاجئة إلى باكستان، غريمة بلاده التقليدية إلى الغرب، وهو في طريق عودته إلى نيودلهي من زيارة سريعة إلى كابول، بل واصراراه على تخطي البروتوكولات لزيارة نظيره الباكستاني نواز شريف في منزله بمدينة لاهور ومشاركته أفراحه بعيد ميلاده وزواج حفيدته.
في إعتقادي المتواضع أن حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم في نيودلهي اليوم، والموصوم بالتطرف والتشدد القومي الهندوسي هو الأقدر على فتح كوة في جدار العداء التقليدي ما بين البلدين المتجاورين ذات الحضارة الواحدة والتاريخ المشترك.أما حزب المؤتمر الهندي الذي حكم الهند في معظم سنوات ما بعد استقلالها فيبدو من الصعب عليه القيام بهذا الدور، على الرغم من صورته المعروفة كحزب سياسي علماني معتدل، وذلك لأن الباكستانيين لا يثقون فيه على خلفية أنه الحزب الذي كان على رأس السلطة في الهند خلال كل الحروب والمواجهات التي اندلعت بين البلدين، ناهيك عن أنه الحزب الذي وقف في وجه زعيمهم المؤسس محمد علي جناح قبل تقسيم الهند البريطانية.
وفي اعتقادي أيضا أن "بهاراتيا جاناتا" يريد أن يحفر إسمه في تاريخ الهند المعاصر كحزب قادر على قيادة مبادرات تاريخية تنهي عداوات البلدين المريرة، وبالتالي توفر أجواء السلام والإستقرار في جنوب آسيا الكفيلة بتنفيذ خطط ومشاريع "مودي" الإقتصادية والتنموية، التي إنْ نجحت فسوف تعزز من موقفه الداخلي وجماهيرته، خصوصا وأن حزبه يسيطر اليوم على غرفتي البرلمان بأغلبية مريحة يستطيع معها إتخاذ القرارات الصعبة دون مناكفة المعارضة التي ليس لديها سوى عدد قليل جدا من المقاعد البرلمانية.
وإذا ما رجعنا إلى الوراء قليلا لرأينا أن رئيس الحكومة الهندية الأسبق "أتال بيهاري فاجبايي"، الذي قاد الهند في التسعينات باسم "بهاراتيا جاناتا"، قام بشيء شبيه بما قام به مودي الأسبوع قبل الماضي، وذلك حينما استضاف زعيم باكستان السابق الجنرال برويز مشرف في نيودلهي وفي مسقط رأس الأخير في بلدة أجمير الهندية في عام 2005 وسط حفاوة بالغة، الأمر الذي سهل عملية إطلاقهما لما ســُمي في حينه بـ "دبلوماسية الحافلات"، في إشارة إلى تدشينهما لخط غير مسبوق للحافلات لنقل البضائع والأفراد بين البلدين عبر خط وقف إطلاق النار في ولاية كشمير.
غير أن المشكلة كانت على الدوام تكمن في جماعات الضغط في كلا البلدين من تلك التي تقتات على النزاع، وبالتالي لا تريد نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة.
فمثلما قوبلت دبلوماسية الحافلات، وزيارة نواز شريف إلى نيودلهي في مايو 2014 لحضور حفل تنصيب مودي بالانتقاد من قبل بعض المتشددين، فهاهي زيارة مودي المفاجئة لباكستان تنتقد أيضا من قبل بعض الأوساط الهندية قبل الباكستانية. بل أن حزب المؤتمر الهندي كان ـ لأسباب سياسية داخلية معطوفة على الغيرة من نجاحات خصمه ـ في مقدمة المنتقدين وحاول تأليب بعض المتشددين الهنود ضد رئيس حكومتهم.
نحن إذاً أمام معضلة تتكرر دائما. فما أن تلوح في الأفق بصيص أمل لدفن الإرث الثقيل الذي خلفه البريطانيون بـُعيد خروجهم من شبه القارة الهندية إلا ويجند المتشددون وأصحاب المصلحة من بقاء التوتر بين الجارتين على حاله كافة أسلحتهم ونفوذهم لتخريب المبادرات المشفوعة بالنوايا الطيبة والآمال العريضة.
لقد شبه البعض في البلدين زيارة مودي لباكستان، بزيارة الرئيس السادات للقدس رغم الفوارق الكبيرة بين الحالتين وعلى رأسها أن محور النزاع العربي الفلسطيني هو قضية فلسطين التي تختلف كليا عن محور النزاع الهندي الباكستاني المتمثل في قضية كشمير. فكشمير، على خلاف فلسطين، لم يـُهجـّر أهلها لصالح مهاجرين غرباء ناهيك عن أن شعبها منقسم حول مبدأ سيادة باكستان على إقليمهم. فبعضهم، ولاسيما الجيل الجديد الذي لم يعش حقب التقسيم والحروب المريرة، يتبنى فكرة التمتع بالحكم الذاتي الموسع ضمن الدولة الهندية، خصوصا في ظل بروز الهند كقوة عالمية صاعدة وحافلة بالفرص خلافا لوضعها قبل نصف قرن. والبعض الآخر يتمنى أن يرى كشمير دولة مستقلة ذات سيادة، لا تتبع الهند ولا الباكستان مستلهما في ذلك ما حققه البنغاليون لجهة بناء كيانهم المستقل، وقائلا أنه طالما نجح شعب باكستان الشرقية في تأسيس كيان ثالث في شبه القارة الهندية فلماذا لا يكون هناك في الأخيرة كيان رابع مستقل إسمه جمهورية كشمير.
والحال أن النزاع الهندي الباكستاني يشبه النزاع العربي الإسرائيلي في أمر واحد فقط هو أن كليهما من قضايا الفرص الضائعة التي تلعب أيادي المتشددين الخفية دورا في تأجيجهما وجمودهما.
ومصداقا لهذا الكلام هاهي قاعدة جوية هندية تـُهاجم وقت كتابة هذا المقال من قبل عناصر متشددة تابعة لما يسمى بـ "جيش محمد" المتمركز في باكستان.
*أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يناير 2016
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
في إعتقادي المتواضع أن حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم في نيودلهي اليوم، والموصوم بالتطرف والتشدد القومي الهندوسي هو الأقدر على فتح كوة في جدار العداء التقليدي ما بين البلدين المتجاورين ذات الحضارة الواحدة والتاريخ المشترك.أما حزب المؤتمر الهندي الذي حكم الهند في معظم سنوات ما بعد استقلالها فيبدو من الصعب عليه القيام بهذا الدور، على الرغم من صورته المعروفة كحزب سياسي علماني معتدل، وذلك لأن الباكستانيين لا يثقون فيه على خلفية أنه الحزب الذي كان على رأس السلطة في الهند خلال كل الحروب والمواجهات التي اندلعت بين البلدين، ناهيك عن أنه الحزب الذي وقف في وجه زعيمهم المؤسس محمد علي جناح قبل تقسيم الهند البريطانية.
وفي اعتقادي أيضا أن "بهاراتيا جاناتا" يريد أن يحفر إسمه في تاريخ الهند المعاصر كحزب قادر على قيادة مبادرات تاريخية تنهي عداوات البلدين المريرة، وبالتالي توفر أجواء السلام والإستقرار في جنوب آسيا الكفيلة بتنفيذ خطط ومشاريع "مودي" الإقتصادية والتنموية، التي إنْ نجحت فسوف تعزز من موقفه الداخلي وجماهيرته، خصوصا وأن حزبه يسيطر اليوم على غرفتي البرلمان بأغلبية مريحة يستطيع معها إتخاذ القرارات الصعبة دون مناكفة المعارضة التي ليس لديها سوى عدد قليل جدا من المقاعد البرلمانية.
وإذا ما رجعنا إلى الوراء قليلا لرأينا أن رئيس الحكومة الهندية الأسبق "أتال بيهاري فاجبايي"، الذي قاد الهند في التسعينات باسم "بهاراتيا جاناتا"، قام بشيء شبيه بما قام به مودي الأسبوع قبل الماضي، وذلك حينما استضاف زعيم باكستان السابق الجنرال برويز مشرف في نيودلهي وفي مسقط رأس الأخير في بلدة أجمير الهندية في عام 2005 وسط حفاوة بالغة، الأمر الذي سهل عملية إطلاقهما لما ســُمي في حينه بـ "دبلوماسية الحافلات"، في إشارة إلى تدشينهما لخط غير مسبوق للحافلات لنقل البضائع والأفراد بين البلدين عبر خط وقف إطلاق النار في ولاية كشمير.
غير أن المشكلة كانت على الدوام تكمن في جماعات الضغط في كلا البلدين من تلك التي تقتات على النزاع، وبالتالي لا تريد نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة.
فمثلما قوبلت دبلوماسية الحافلات، وزيارة نواز شريف إلى نيودلهي في مايو 2014 لحضور حفل تنصيب مودي بالانتقاد من قبل بعض المتشددين، فهاهي زيارة مودي المفاجئة لباكستان تنتقد أيضا من قبل بعض الأوساط الهندية قبل الباكستانية. بل أن حزب المؤتمر الهندي كان ـ لأسباب سياسية داخلية معطوفة على الغيرة من نجاحات خصمه ـ في مقدمة المنتقدين وحاول تأليب بعض المتشددين الهنود ضد رئيس حكومتهم.
نحن إذاً أمام معضلة تتكرر دائما. فما أن تلوح في الأفق بصيص أمل لدفن الإرث الثقيل الذي خلفه البريطانيون بـُعيد خروجهم من شبه القارة الهندية إلا ويجند المتشددون وأصحاب المصلحة من بقاء التوتر بين الجارتين على حاله كافة أسلحتهم ونفوذهم لتخريب المبادرات المشفوعة بالنوايا الطيبة والآمال العريضة.
لقد شبه البعض في البلدين زيارة مودي لباكستان، بزيارة الرئيس السادات للقدس رغم الفوارق الكبيرة بين الحالتين وعلى رأسها أن محور النزاع العربي الفلسطيني هو قضية فلسطين التي تختلف كليا عن محور النزاع الهندي الباكستاني المتمثل في قضية كشمير. فكشمير، على خلاف فلسطين، لم يـُهجـّر أهلها لصالح مهاجرين غرباء ناهيك عن أن شعبها منقسم حول مبدأ سيادة باكستان على إقليمهم. فبعضهم، ولاسيما الجيل الجديد الذي لم يعش حقب التقسيم والحروب المريرة، يتبنى فكرة التمتع بالحكم الذاتي الموسع ضمن الدولة الهندية، خصوصا في ظل بروز الهند كقوة عالمية صاعدة وحافلة بالفرص خلافا لوضعها قبل نصف قرن. والبعض الآخر يتمنى أن يرى كشمير دولة مستقلة ذات سيادة، لا تتبع الهند ولا الباكستان مستلهما في ذلك ما حققه البنغاليون لجهة بناء كيانهم المستقل، وقائلا أنه طالما نجح شعب باكستان الشرقية في تأسيس كيان ثالث في شبه القارة الهندية فلماذا لا يكون هناك في الأخيرة كيان رابع مستقل إسمه جمهورية كشمير.
والحال أن النزاع الهندي الباكستاني يشبه النزاع العربي الإسرائيلي في أمر واحد فقط هو أن كليهما من قضايا الفرص الضائعة التي تلعب أيادي المتشددين الخفية دورا في تأجيجهما وجمودهما.
ومصداقا لهذا الكلام هاهي قاعدة جوية هندية تـُهاجم وقت كتابة هذا المقال من قبل عناصر متشددة تابعة لما يسمى بـ "جيش محمد" المتمركز في باكستان.
*أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: يناير 2016
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق