مشكلة سبراتلي.. المواقف الأمريكية والروسية/ د. عبدالله المدني

بعث لي احد القراء الأفاضل رسالة على بريدي الإلكتروني يستفسر فيها عن الأزمة الراهنة في بحر الصيني الجنوبي ومواقف كل من واشنطون وموسكو تجاهها. وقد فضلت أن أرد عليه من خلال هذا المقال، تعميما للفائدة.
"سبراتلي" هي مجموعة من الجزر الصغيرة في بحر الصين الجنوبي، لكل منها إسم مثل جزر "نانشا"، و"شيشا"، ودونغشا"، و"هوانغيان". هذه الجزر تدّعي الصين ومجموعة من الدول الآسيوية، مثل الفلبين وماليزيا وفيتنام وتايوان وبروناي، حق السيادة على كلها أو بعضها، نظرا لموقعها الإستراتيجي (ثلث الشحنات البحرية العالمية تعبر ممراتها)، وما يـُقال عن إحتواء باطنها على ثروات هائلة من النفط والغاز.
وحتى عام 1988 لم تكن الصين تولي إهتماما كبيرا بهذه الجزر، التي كانت مسرحا لموقعتين حربيتين في عامي 1974 و1988 ما بين القوات البحرية الصينية والفيتنامية، وإنْ كانت تمارس السيادة الإسمية عليها. لكنها بعد ذلك، وإنطلاقا من خططها لمد نفوذها نحو الجنوب، أرسلت بكين قواتها لإحتلال الجزر والتمركز فيها. وفي محاولة ذكية منها لضمان عدم تدخل  الأمريكيين في النزاع بحكم ارتباطهم باتفاقيات أمنية ودفاعية مع بعض الدول المعنية بالنزاع، ولاسيما تايوان والفلبين، منحتْ بكين بعض الشركات الامريكية حق التنقيب عن النفط والغاز في تلك الجزر. ولهذا السبب صمتت واشنطون طويلا عن الموضوع، بل أعلنت رسميا إلتزامها الحياد، وسط غضب حليفاتها الآسيويات اللواتي طالبن تارة بالتحكيم الدولي، وتارة أخرى بعقد حوار شامل في المنطقة، تشارك فيه كل الدول المعنية بالمشكلة إضافة إلى اليابان والولايات المتحدة، لمناقشة قضايا الحدود والمياه والأمن، والإستغلال المشترك لثروات بحر الصين الجنوبي.
في عام 2002 جرى التوقيع على مذكرة بين الأطراف المعنية بالنزاع، تحظر على أي طرف القيام بأية إجراءات أحادية استفزازية، وخصوصا إقامة المنشآت العسكرية فوق الجزر أو إستحداث ما يغير طبيعتها. لكن الصينيين لم يلتزموا بنصوص المذكرة وراحوا يتحايلون عليها عبر التذكير بأن الصين هي أقدم دول المنطقة، وأنها هي التي اكتشفت تلك الجزر منذ أكثر من ألف عام، ناهيك عن أنها توجد في نطاق بحر يحمل إسم الصين. كما أنهم اتهموا الفلبين ودولا اخرى بجر المنطقة إلى مشاكل لم تكن موجودة قبلا من خلال استيلائها بالقوة على نحو 40 بالمائة من الجزر والشعاب المرجانية في بحر الصين الجنوبي، بُعيد سماعها باحتمال وجود ثروات نفطية فيها. وقد دعم الصينيون وجهة نظرهم هذه بالزعم ان القوانين البحرية الدولية الحديثة، من تلك التي وقعوا عليها، غير صالحة للتطبيق في حالات تداخل الحقوق والمصالح، بل وتخلق مشاكل وتعقيدات إضافية، خصوصا حينما يسعى طرف دون الأطراف مجتمعة باللجوء إلى طلب التحكيم الدولي.  ولم ينس الصينيون في هذا السياق الإشارة إلى أن كل المعاهدات والوثائق التاريخية الخاصة بتحديد أراضي جمهورية الفلبين مثل: معاهدة واشنطون الأسبانية الأمريكية لعام 1900 والدستور الفلبيني الصادر قبل عام 1997 لم يحتو على ما يشير إلى أن أي جزيرة من جزر بحر الصين الجنوبي تدخل في نطاق الأراضي الفلبينية.
في عهد إدارة أوباما الحالية، التي أعلنت على لسان وزيرة خارجيتها السابقة هيلاري كلينتون، أن واشنطون تعتمد سياسة "الإستدارة"، بمعنى تحويل إهتمامها من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، إستبدلت الولايات المتحدة موقفها المحايد السابق من الأزمة، بموقف الإنحياز إلى جانب حليفاتها الآسيويات، وقامت بتزويد الأخيرة بأحدث أدوات القتال، وشرعت أيضا في إستمالة عدوتها الفيتنامية القديمة، وذلك في محاولة منها لمحاصرة النفوذ الصيني المتمدد. فتسببت بذلك في استفحال الأزمةأكثر من أي وقت مضى.
أما روسيا، التي وضعت منطقة آسيا/الباسيفيكي في المرتبة الرابعة لجهة أولويات سياساتها الخارجية، ولا توجد لها خلفية تاريخية مشتركة معها، فإنها أعربت مرارا عن إلتزامها الصارم بالحياد في أزمة بحر الصين الجنوبي، كما ناشدت جميع أطراف الأزمة على حل خلافاتها بالطرق الدبلوماسية. وموقف روسيا هذا دافعه هو الخوف من إنفلات الأمور ووقوع نزاع عسكري في المنطقة يجرها جرا إلى ما لا تريد الإنخراط فيه في ظل مشاكلها الحالية.
غير أن هناك عوامل أملت على موسكو مؤخرا أن تميل نحو بكين فيما يتعلق بهذا النزاع، على الرغم من أن هذا التغيير أحدث قلقا لدى هانوي التي هي إحدى الدول المطالبة بحق السيادة على الجزر، وفي الوقت نفسه إحدى أهم الحليفات الاستراتيجيات لموسكو في آسيا. ففي ابريل 2016 قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن بلاده لا تدعم تدويل النزاع في بحر الصين الذي تطالب به الدول الآسيوية، فما كان من بكين إلا و أن رحبت بهذا الموقف الذي أزعج الفيتناميين كثيرا.
وهناك اعتقاد أن هذا الموقف الروسي المتعجل ما هو إلا إنعكاس للإضطراب والخلل والتنافس السائد في العلاقات الروسية ـ الأمريكية، إضافة إلى أن نتائجه كانت عكسية! بمعنى أنه أظهر روسيا أمام الرأي العام الدولي في صورة الدولة المأزومة التي لم تجد حلا لأزماتها والعقوبات المفروضة عليها إلا بالإرتماء الكامل في أحضان الصينيين ودعم مواقفهم على حساب فيتنام التي هي أكبر مشتر في جنوب شرق آسيا للأسلحة الروسية بمختلف انواعها، وأكبر عميل لهم في مجال بناء محطات الطاقة النووية.
د. عبدالله المدني
* أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: يونيو 2016 
البريد الالكتروني: Elmadani@batelco.com.bh


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق