بزوغ مدرستي البصرة والكوفة النحويتين نشأة النحو العربي ( الحلقة الثانية)/ كريم مرزة الأسدي

أقرَّ العلماء تسمية قواعد اللغة العربية باسم (النحو) استباقاً لكلمة الإمام (ع) ، وقامت النهضة النحوية بالبصرة قبل الكوفة حيث كان في أهلها ميل بالطبيعة إلى الاستفادة من هذا الفن اتقاءً لوباء اللحن الزاري بصاحبه (38) ، هذا الوباء الذي تفشى بالبصرة لكونها مرفأ بحرياًعلى استعداد  لاستقبال أجناس متعددة من الأجانب  ، ولكن سكن إلى جوارهم عرب أقحاح اهتموا باللغة العربية كردّ فعل لهذا اللحن حفاظاً عليها من الضياع والاندثار ، وساعدهم على ذلك الاستقرار السياسي  .
 أمّا الكوفة فهي ثغر من ثغور البادية العربية تفد إليها القوافل العربية ،  فانشغلت برواية الشعر العربي  وأخبار العرب إرضاءً للأرستقراطية البدوية التي ظلـّت  مسيطرة على الحياة الاجتماعية فيها (39) ،  ولم تكن الكوفة تتصور أنها في يوم ستحتاج إلى قواعد لضبط لسانها ، وخفف حماسها أيضاً انشغالها بالاضطرابات السياسية والصراعات الدموية ،  فضربت بهذا (النحو) بداية عرض الحائط ، وتركت البصرة توأمها تسعى إليه وتنهض به ،  فقام أبو الأسود الدؤلي بمهامه على أكمل وجه ،  وهذا صحيح نسبياً , فيعتبر هو الرائد الأول بلا منازع الذي سار على هدي الإمام (ع) ورشده ، ولكن نحن لم نعد أبا الأسود الدؤلي والإمام (ع) طبقتين مستقلتين ، وشرعنا بالطبقة الأولى من تلاميذ الرائد الدؤلي الثاني . فاستلم زمام الأمر بعده رجال :

الطبقة الأولى من المدرسة البصرية ، وأهمهم :

1 - عنبسة بن معدان المهري (الفيل) (ت 100 هـ / 718م) ، وهو من أبرع أصحاب أبي الأسود ، وإن ميموناً الأقرن أخذ عنه بعد أبي الأسود ،  فرأس الناس بعد عنبسة وزاد في الشرح  ، ثم توفي  وليس من أصحابه مثل الحضرمي الآتي ذكره (40)  .
2 -  نصر بن عاصم الليثي ( ت 89 هـ / 707م) ،  قال الزهري : إنـّه ليفلق بالعربية تفليقاً  ،وينعته القفطي بأنبل القوم ،  و كان فقيهاً عالماً بالعربية فصيحاً (41) .
3 - عبد الرحمن بن هرمز ( ت 117 هـ / 735 م) ،  هو أبو داود الأعرج ،  مولى لبني هاشم ، مات مرابطاً بالأسكندرية ، كان أحد القرّاء عالماً بالعربية ، وأعلم الناس بأنساب العرب  (42) .
    4 - يحيى بن يعمر  العدواني ( ت 129 هـ / 747م) , يكنى أبا سليمان، كان عالماً بالعربية والحديث  من فصحاء العرب ، أصبح قاضي مرو ،  لحن الحجاج في القرآن الكريم  عندما  ألحّ عليه سائلاً ،  أتجدني ألحن؟ فقال : الأمير أوضح من ذلك ، فقال : عزمت عليك لتخبرني أألحن؟ قال يحيى: نعم ، فقال له : في أي شيء؟ فقال : في كتاب الله ، فقال: ذلك أشنع ،  ففي أي شيء من كتاب الله؟ قال قرأت  " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم " (43) فرفعت أحب وهو منصوب ، العدواني أراد (أحب ) خبر كان , فغضب عليه الحجاج ،  وقال له : لا تساكنني ببلد أنا فيه , ونفاه إى خرسان فمات فيها.  
لم يدرك أحد من هؤلاء الدولة العباسية التي انبثقت  (132 هـ / 750 م) ، وكان جل اعتمادهم على ما حققوه في صدورهم ورواياتهم بلسانهم ، فلم تنبت بينهم فكرة القياس، ولم يدركوا عصر الترجمة ،  ولا الفلسفة اليونانية ولا المنطق الهندي وما إليهما  ،  ولم تقوَ حركة التصنيف لديهم ،  نعم قد عاصرهم خامسهم وهو :
5 -عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت 117 هـ /735 م)  ،  وهو أبو بحر، كان ملماً بالعربية والقراءة ، إماماً فيهما ، وكان شديد التجريد للقياس  ،  ويقال : إنه أول من علل النحو ،  وقد  نقل في حقـّه أبو الطيب اللغوي بأنـّه " أعلم أهل البصرة وأعقلهم ففرع النحو وقاسه " (44) ، والحقيقة  أنه مولى لآل الحضرمي   ، وآل الحضرمي من موالي بني عبد شمس بن عبد مناف ،   ومن المضحك لمّا هجاه الفرزدق قائلاً :
فلو كان عبد الله مولى هجوتهُ
ولكنَّ عبد الله مـــــولى مواليا
وكان عبد الله هذا كثيراً ما يرمي الفرزدق باللحن , فقال للفرزدق على هذا البيت  : لقد لحنت أيضاً في قولك (مولى مواليَ ) ، كان ينبغي أن تقول ( مولى موال ٍ) ، وهذا تحرش من الحضرمي بالفرزدق ، إذ سيبويه استشهد بهذا البيت على أن بعض العرب يقولون ( مررت بجواري) بالفتح ،  كما جاء في بيت الفرزدق ، والألف في بيته للإطلاق ،  وهذا لا يُخفى , بل يزيد أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس ( ت 338 هـ / 949 م) ،  وهو محسوب على البصريين : " أراد موالٍ ٍ فحرك الياء وفتحها لأنها مفاعل  ومفاعل لا ينصرف كما لا ينصرف مساجد " (45)  ، أطلنا المقام مع هذا المولى الحضرمي ،  لأنه كان حلقة الوصل بين الطبقتين الأولى والثانية البصريتين ، إذ سلـّم الراية إلى تلميذه الأول من الطبقة الثانية البصرية في النحو ،  وأهم رجالها :

 1 - عيسى بن عمر الثقفي ( ت 149هـ / 766 م) ،  كنيته أبو سليمان ،  كان ثقة عالماً بالعربية والنحو والقراءة ،  وقراءته مشهورة  (46) ،   وهذا الرجل الثقفي هو صاحب الكتابين في النحو ( الجامع) و (الإكمال) ،  وفيهما يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي :
ذهــب النحو جميعــــــاً كلـّهُ
 غير ما أحدث عيسى بن عمرْ
ذاك (إكمالٌ) وهـــذا (جـــامعٌ)
فهما للنــــــاس شمسٌ وقمرْ (47)

2 - أبو عمرو بن العلاء ( ت 154 هـ /771 م ) ،  واسمه زبان - على الأغلب -  بن العلاء بن عمار المازني التميمي  ، أخذ أيضاً عن أبي أسحاق الحضرمي كالثقفي  ،  و لكنه كان أوسع علماً بكلام العرب ولغاتها وغريبها من أستاذه ،  فابن العلاء هو العالم المشهور في علم القراءة واللغة والعربية ،   أحد القرّاء السبعة ، وصاحب التصانيف الكثيرة   مدحه الفرزدق  ، وكلاهما ينسب إلى تميم ، ويعده ابن خلكان في (وفياته ) :
 " وهو في النحو في الطبقة الرابعة من علي بن أبي طالب " ،  وهذا صحيح نسبياً ،  ولكن نحن لم نعد أبا الأسود الدؤلي والإمام  طبقتين مستقلتين ، وشرعنا بالطبقة الأولى من تلاميذ الرائد الدؤلي المستنير بهدي الإمام ورشده ، ويكفي أبو العلاء فخراً أنه أستاذ الخليل بن أحمد الفراهيدي  ،  ويونس بن حبيب البصري وهما رجلا الطبقة الثالثة البصرية ،  وأخذ عنه أبو محمد بن علي المبارك اليزيدي البصري من رجالات الطبقة الرابعة (48) .
3 - الأخفش الأكبر ،  أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد  ( ت 177 هـ / 793م) (49) : ولد بهجر في البحرين (التسمية السابقة )  ،  وكان مولى قيس بن ثعلبة ،  انتقل إلى البصرة وسكن فيها ، وأخذ عن سابقه أبي عمرو  ،  ينعته (الذهبي ) شيخ العربية  ، ويذكر تخرج به سيبويه ،وحمل عنه النحو واللغة ، و لولا سيبويه الذي لم يغفل أساتذته لما اشتهر، فكثيرا ما يذكره في (الكتاب) راوياً عنه  بقوله : حدثني أبا الخطاب ،  وأخذ عنه عيسى بن عمر النحوي، وأبو عبيدة معمر بن المثنى ،  وغيرهما , وكان أول من كتب  تفسير الأشعار بين السطور ،  وانفرد بنقل الألفاظ اللغوية، فهو من أئمتها ،  ولكن ضاعت مؤلفاته فمن الصعوبة أن نفقهَ آراءه اللغوية .
وقد تشدّد ابن أبي أسحاق الحضرمي ، وتلميذه عيسى بن عمر الثقفي في نقطتين أساسيتين وهما :
 1 - القياس : وهو مصدر قايس بين الشيئين أي قدر ،  وهوالمصطلح العلمي : تقدير الفرح بحكم الأصل ،  ولابدّ له من أربعة أركان : أصل وفرع  وعلة وحكم ،  وبعد استخدام  القياس عُدَّ من الأسس المنهجية في النحو والفقه كما سنورد .
2 - السماع  : وهو الرواية ، وذلك  أن يكون الراوي سمع نفسه ما يرويه عن غيره  ،  والسماع من اللغة هو الأخذ المباشر للمادة اللغوية عن الناطقين بها ،  وهذه المباشرة هي التي تفرق عن السماع والرواية ،  وبناءً على هذا  الواية عامة ،  والسماع خاص لا يصدق إلا على المشافهة .
مدرستان للنحو العربي : البصرية والكوفية - بعد بزوغ شمس المدرسة النحوية الكوفية :

وقد بقيت مدرسة البصرة على نهجها  المتشدد في (النحو)  ، على حين مدرسة الكوفة لم يبزغ فيها هذا العلم إلى حدّ الآن بشكل منهجي  ،  وإنـّما اتجهت إلى (الفقه) حيث برزت مدرسة ( الرأي والقياس ) عندما افتقدت الدليل من القرآن والسنة القطعية ،  إذ لم تعتمد على أحاديث الآحاد ، وتشبثت بـ (قاعدة الملازمة)  في علم الأصول التي تقول  : " كل ما يحكم به العقل يحكم به الشرع ،  وكل ما يحكم به الشرع يحكم به العقل " (50) ،   ويعتبر إبراهيم النخعي رأس مدرسة الرأي والأجتهادية في العراق ،  وهو شيخ حماد بن أبي سليمان ( ت  120 هـ / 738 م )(51) ، وحماد شيخ أبي حنيفة (ت 150 هـ / 767 م ) الذي أخذ أكثر علمه عنه (52) , وتزعم الأخير  مدرسة الكوفة الفقهية برأيها وقياسها ،  وقابلت هذه المدرسة مدرسة الحديث في الحجاز  (المدينة  المنورة ) لكثرة الصحابة والتابعين فيها حينذاك ، وشرعت بعامر الشعبي الذي اختلف مع النخعي في توجهه ،  وتوّجت مدرسة الحديث بمالك بن أنس (ت 179 هـ / 795م) .
وبعد أن تفرغت  مدرسة الكوفة  لـ(الفقه)، وضمت  منزلته الرفيعة لها ، وانتهت الصراعات السياسية التي لبست لباس الدين فيها، واستقرت الأمور ،  وهاجر الأعاجم الأجانب إليها ،  فزداد اللحن على لسانها ،  فتنبهت أنها تخلفت عن لغتها ونحوها ،  وكان لهما دور عظيم في الأدارة وبلاط  الخلافة وشرف السيادة ،  ولمّا تميّز أبو عمرو بن العلاء صاحب التصانيف الكثيرة ،وتلميذه يونس بن حبيب (من الطبقة الثالثة البصرية) , وكانا متساهلين في القياس , ومعظمين لما يرد عن العرب ،  فتأثرت بهما  مدرسة الكوفة تأثراً ملحوظاً ،  لأن هذا هو توجه اللغويين والنحويين  الكوفيين ،  فسار بهذا التساهل إلى مدرسة  الكوفة أبو جعفر بن الحسن الرؤاسي الكوفي ليبذر بذور اللغة والنحو فيها ،  فتلاقف  رعايتها  رجال الطبقة الأولى من الكوفيين الّذين انشقوا عن رجال الطبقة الثالثة البصرية ،   لتصبح المدرسة  مدرستين متوازيتين متصارعتين علمياً إلى حين ،  وأنا لا أميل إلى الأجتهاد المنفتح في النحو واللغة ،  لأنهما يضيعان في معمته ،  وإنما للقياس المنفتح بتعقل ودراسة وروية ،  أما الأجتهاد في الفقه فهو بالأساس مقيد بالقران والسنة والإجماع، وللفقه رجاله المتخصصون العقائديون .

المدرستان النحويتان البصرية والكوفية حسب تقابل طبقتيهما :
   
أ - الطبقة الثالثة البصرية  : تتميز هذه المرحلة البصرية ببداية النضوج ،  فبعد النشأة المبكرة للظواهر الإعرابية ، والتركيبية للجملة ،  توجه الالتفات إلى العوامل النحوية وعللها ، والاستفادة من الاعتماد على القياس الذي سبقهم الفقهاء إليه ،  والانتباه إلى التراث الشعري الجاهلي وأهميته في رفد اللغة والنحو، والاستشهاد به في المفاصل المهمة  , ويتجلى رمزان بصريان شامخان من هذه الطبقة , وهما :  
1 - الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي أبو عبد الرحمن ( 174 هـ / 790 م ) : نسبه البعيد  يعود إلى فراهيد بن شبابة بن مالك بن فهم بن غنم من قبيلة أزد القحطانية ،  وهذا الـ (مالك) حكم الأنبار ،  وصيّرها  عاصمة له ،  وملك الحيرة ،  ولكن (خليلنا ) من أزد (عُمان) , فولد فيها سنة (100 هـ /718 م) ،  سيد أهل الأدب قاطبة في علمه وزهده وعبادته ونبل أخلاقه وسماحة روحه ، وكثرت الروايات التي تؤكد هذه الخصال ، فحكى عنه تلميذه النضر بن شميل، أنه أقام في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال. كما كان سليمان بن حبيب بن أبى صفرة والي فارس والأهواز يدفع له راتباً بسيطاً يعينه به ، فبعث إليه سليمان يوما يدعوه إليه، فرفض وقدم للرسول خبزاً يابساً مما عنده قائلاً : ما دمت أجده فلا حاجة بي إلى سليمان، فقال الرسول : فما أبلغه عنك؟ فقال من قصيدة:
أَبلِغ سُلَيمانَ أَنّي عَنهُ في سَعَةٍ
     وَفي غِنىً غَيرَ أَنّي لَستُ ذا مالِ
سَخّى بِنَفسي أَنّــي لا أَرى أَحَــداً
     يَموتُ هَزلاً وَلا يَبقى عَلى حــالِ
الرِزقُ عَن قَدَرٍلاالضَعفُ يَنقُصُهُ
     وَلا يَزيدُكَ فيـــهِ حَولُ مُحتــــالِ
وَالفَقرُفي النَفسِ لا في المالِ نَعرِفُهُ
وَمِثلُ ذاكَ الغِنى في النَفسِ لا المالِ

كان فراهيدنا من تلامذة عيسى بن عمر ،  وأبي عمرو بن العلاء ،  وأخذ عنه سيبويه والنضر بن شميل والكسائي والأصمعي ، وهو أول من استخرج علم العروض ، وضبط اللغة ،  وأملى كتاب (العين) (53) , وهو أول معجم في اللغة العربية  , وله كتب أخرى مثل (العروض ) و (الشواهد) و (النغم) و (الإيقاع) ،  وهو من معاصري الرؤاسي ومعاذ الهراء الكوفيين ( ستأتي الترجمة للجميع تباعاً) ،  وتتلمذ على يديه سيبويه البصري ،  بل كان من أحب الناس إليه ،  قال ابن النطاح : "  كنت عند الخليل ابن أحمد , فأقبل سيبويه ،  فقاــل الخليل : مرحباً بزائر ٍلا يُملُّ ، قال أبو عمرو المخزومي - وكان كثير المجالسة للخليل - : ما سمعت الخليل يقولها إلا لسيبويه " (54)، وكان سيبويه إضافة إلى علمه :" شاباً جميلاً نظيفاً " (55) ،  ويعتبر إمام البصريين ،وطبقته البصرية الرابعة قادمة .
2 - يونس بن حبيب الضبي أبو عبد الرحمن ( 95 هـ - 183 هـ / 714 - 799 م) ،  (56) :  ولد في بلدة  (جَبّل) على دجلة في العراق ما بين بغداد  وواسط  ،  كان مولى لبني ضبّة ،  ولهذا أطلق عليه الضبي ، على أكثر الروايات , وأغلب الظن ،   ولو توجد روايات ضعيفة أخرى تنسبه لولائه  قبائل ثانية ، أو تزعم أنه من أصل أعجمي ،  وحتى هذا الـ (حبيب) رموه اسماً لأمه لا لأبيه ،  ظـُلِم الرجل في عصره واختفت أثاره ومؤلفاته المهمة التي قضى عمره المديد في تصنيفها ،  فلم يصل إلينا منها شيء  ،  ولكن من بعد عرف بـ (النحوي) ، لا الضبي  ، لأنه صاحب مدرسة كبيرة في النحو واللغة , أشاد بضخامته العلمية أساطين هذه العلوم , ورموزها الخالدون ،  ذكر المؤرخون سبعة من تصانيفه  : (معاني القرآن الكبير) و (معاني القرآن الصغير) ،  تناول فيهما المسائل النحوية للآيات القرآنية ،  و كتب ( النوادر الكبير ) و (النوادر الصغير) ،  و(الأمثال) ، و ( القياس في النحو) ، و (اللغات) (57) .
 أخد عن أبي عمرو بن العلاء والأخفش الأكبر  وحماد بن سلمة ،  و سمع من الأدباء وفصحاء الأعراب كما سمع من قبله ،  وقيل إنه لم يتزوج ولا تسرى ،  وأخذ عنه سيبويه وحكى عنه في كتابه ، وأخذ عنه أيضا ً أبو الحسن علي ّ بن حمزة الكسائي ،  وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء . 
وحكى محمد بن الجهم قال حدثنا الفراء قال أنشدني يونس النحوي من (الخيف) :
رب حلم ٍأضاعه عدم المال
 وجهل ٍغطى عليــــه النعيمُ
وحكى  الفراء عن يونس قال : كان عبد الملك بن عبد الله ينشد من (الطويل) :
 إذا أنت لم تنفع فـضــر فإنما
يرادُ الفتى كيما يضرُّ وينفــعُ
وحكى  أبو عمر الجرمي قال : رأيت يونس بن حبيب النحوي مــر ّ في المسجد فقام اليه رجل فسأله عن قوله تعالى { وأنى لهم التناوش من مكان بعيد} "سورة سبأ 52"، فقال بيده : التناوش التناول وأنشد لغيلان بن حريث الربعي من (الرجز) :
فهي تنوش الحوض نوشا ً من عـُـلا  *** نــوشــا ً بــه تــقــطــع أجــواز الـفـــلا
       مما أورده المرزباني في كتابه نور القبس :
قال الأصمعي: قلت ليونس: ما  أراد ذو الرمة بقوله  من الطويل :
وليلٍ كجلباب العــــروس ادَّرعتهُ
 بأربعةٍ والشخص في العين واحدُ
فقال يونس : لاأحسب الجنَّ تقع على ماوقع عليه وفطن له ، قوله : " وليلٍ كجلباب العروس " يقول : ليلٌ كقميص العروس في الطول لأن العروس تجرُ أذيالها ، " ادرعته " : لبسته، " بأربعة " : يعني نفسه وناقته وسيفه وظله يعني خيمته ، " والشخص في العين واحد " يقول: والإنسان واحدُ . (58)
تكلمنا عن يونس أكثر من الفراهيدي ،  إذ أوردنا  بعض الأمثلة بحقه ، لأننا توسعنا مع الأخير عندما تناولناه مفصلاً في معرض بحثنا المتتالي على حلقات في علمي العروض والقوافي .

ب - الطبقة الأولى الكوفية في النحو :

يلخص لنا الدكتور المخزومي ما ذهبت إليه المدرستان البصرية والكوفية بادئ أمرهما: " فيما كانت عناية الكوفيين تنصب على دراسة القراءات والفقه والحديث ، إذ كانت عناية البصريين تنصب على الدراسة اللغوية والنحوية ،  وما تستتبع من أقيسة وعلل, ومباحث علم الكلام " (59) وذلك يعود  من وجهة نظرنا ،  لأن الكوفة أصبحت عاصمة سياسية ودينية لفترة ، ثم إنها كانت أشدّ إلتصاقاً بالصحابة والتابعين ،  وأكثر إتصالاً بالبادية والقبائل العربية ، مما جعلها تعتز بتراثها وأرثها الديني المقدس ،  وتطويره حسب اجتهاداتها ورأيها ، وكذلك تفتخر بأصالة أهلها ،  بل رأت أنّ كلّ ما يتكلم به عربها صحيح لغوياً ونحوياً ، ويمكن الاعتماد عليه ،  أمّا البصرة  بعد اختلاطها بالأعاجم والأعراق وانفتاحها , دعت علماءها وأفذاذها لضبط لغتها وقياس نحوها على كلام العرب الأقحاح ،  ونبذ الشاذ في الآفاق ! ،  وهذا ما أشرنا إليه في المقدمة .
ولما وجد الرؤاسي بعد دراسته في البصرة الفرصة السانحة لبلورة فكرة تشكيل المدرسة النحوية الكوفية , وخصوصاً بعد أن لمح التساهل في القياس نسبياً ،  والميل لتعظيم مايرد عن العرب من بعض أقطابها ممن أشرنا إليهما سالفاً ،  رجع إلى الكوفة ،  وأصبح على رأس طبقتها الأولى اللغوية - النحوية (60) ، وأقطابها الثلاثة الكبار هم
:
1 - الرؤاسي أبو جعفر محمد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسي الكوفي النحوي ( ت 187هـ/803م) : سمي الرؤاسي لكبر رأسه ، تلميذعيسى بن عمرو ،  وأبي عمرو بن العلاء البصريين ،  إذ درس النحو على أيديهما ورجع إلى الكوفة فدرّسه ، و قال ابن الأنباري يحكى عن ثعلب إن الرؤاسي كان أستاذ الكسائي و الفراء ، وفي نزهة الألباء و بغية الوعاة إنه ابن أخي معاذ بن مسلم بن أبي سارة الهرّاء ، فالهراء عمه ،  وظن النجاشي أنه ابن عمه فابو سارة جد أبيه لا جده , و النسبة إلى الجد غير عزيزة في الكلام  , قال ابن النديم في الفهرست: إن الرؤاسي أول من وضع من الكوفيين كتابا في النحو و حكى ذلك ابن الأنباري عن ثعلب و عن المزهر للسيوطي ان اسم كتابه (الفيصل) (61) ، فكان أول  كتاب تداوله أهل الكوفة بينهم ،  لذلك وضعه ابن النديم على رأس نحاة الكوفة  (62) ،  وله عدة كتب أخرى  ككتاب (التصغير) , وكتاب ( معاني القرآن) وغيرها ،   وبعد أن أخذ النحو انصرف بالبحث عن الأبنية والتمارين إلى أن غلبت عليه الناحية الصرفية التي التفت إليها الكوفيون قبل البصريين، واسنبطوا للصرف كثيراً من القواعد حتى عدّهم المؤرخون الواضعين للصرف ، أما الصرف عند البصريين فكان في المحل الثاني . (63) .
2 - الهرّاء أبو مسلم معاذ بن مسلم بن أبي سارة النحوي الكوفي (ت 190 هـ - 806 م ) : وقيل توفي (187 هـ - 803 م) ، مولى الأنصار ،  ولقب بالهرّاء لأنه كان  نحوياً و تاجراً  في الكوفة يبيع الهراوي ،  وهي ثياب تـُستجلب من (هراة)  ،  فنسب إليها (64) ، ويعدّه  الجلال السيوطي في (المزهر ج2) ،  و(بغية الوعاة )   أول من وضع علم الصرف  ،  وينعته بالنحوي المشهور،  وذكر أنه كان مؤدب عبد الملك بن مروان ،  صنف في النحو كثيراً ،  ولم يظهرله شيء من التصانيف (65) ،  أخذ عنه الكسائي وغيره ،  وترجمه ابن خلكان وذكر له حكاية مع الكميت بن زيد الأسدي الشاعر المشهور ( قتل 126 هـ / 744م)  ،  ولكن الحموي غفله في (معجم أدبائه) وتتجسد أولية النحو الكوفي في الهرّاء وابن أخيه الرؤاسي بشكله المبسط .    
 3 - شيبان بن عبد الرحمن التميمي أبو معاوية (ت 164 هـ / 780 م) : النحوي المحدث المؤدب ، أصله من البصرة وسكن الكوفة وانتقل إلى بغداد , كان ثقة  درس في البصرة النحو والحديث ،وسكن الكوفة ،  وانتقل إلى بغداد ، وتوفي فيها , ودفن في  مقبرة الخيزران (66) ،  قال يعقوب بن شيبة : كان صاحب حروف وقراءات مشهوراً بذلك , والحقيقة بعض المؤرخين يشكك في علو مقدرته النحوية ،  ويذكرون أن لقبه (النحوي) يعود إلى نسبه لفخذ قبيلة لا للنحو العربي ،  فهو محدث مشهور ،   قال ابن حجر : شيبان بن عبد الرحمن التميمي مولاهم النحوي أبو معاوية البصري نزيل الكوفة ثقة صاحب كتاب يقال إنه منسوب إلى نحوة بطن من الأزد لا إلى علم النحو (67) ،   ولكن الخطيب البغدادي يذكر في (تاريخه) عن ( يزيد النحوي) المحدث قوله  :  هو يزيد بن أبي سعيد، وهو بطن من الأزد يقال لهم بنو نحو، ليسوا من نحو العربية، ولم يرو ِ منهم الحديث إلا رجلان، أحدهما يزيد هذا، وسائر من يقال له النحوي فمن نحو العربية ، شيبان بن عبد الرحمن النحوي، وهارون بن موسى النحوي، وأبو زيد النحوي (68)  .
 لم يكن النحو الكوفي خلال فترة طبقته الأولى ذا شأن يذكر , لا في عصره ،  ولا من بعده من عصور ،  فلم تصلنا من تصانيف رجاله شيء نستطيع أن نقيمه به ،   ولما نهض به الكسائي تلميذهم ،  ورفد الأخير تلميذه (الفرّاء) بعلمه  وحذقه ومهابته وقوة شخصيته وفطنته ة ،  قد وازى النحوالكوفي بصريّه , وفاقه سطوة ً وهيمنة ً طيلة عهود الرشيد والأمين والمأمون...ولم يخفت حتى موت (ثعلب) العملاق ،  فصال وجال طيلة قرن ونصف من الأعوام العباسية ضمن عصريها الأول والثاني . وإلى اللقاء بالآتي والتالي .   
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) راجع الطنطاوي :ص 24  م. س.
(39) خليف  , د. يوسف : ( حياة الشعر في الكوفة ) ص 260 - دار الكاتب العربي - 1968م - القاهرة .
(40) راجع , مراتب النحويين : أبو الطيب اللغوي  ، عبد الواحد بن علي  ص 30 - 31 - دار النهضة - مصر .
(41) نزهة الألباء .. : ابن الأنباري ص 8 م . س .
(42) المصدر نفسه .
(43) آية 24 سورة التوبة .
(44) (مراتب النحويين) : ص 12 م. س.
(45) (شرح أبيات سيبويه) : أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس  ، ت د. زهير غازي زاهد  ص 35  ، يذكر في هامش 2 - في الصفحة الشاهد للفرزدق  ط 1 - 1986م - مكتبة النهضة العربية .
(46) راجع  نزهة الألباء ...ص  12  ، مراتب النحويين : ص ص 21  ،  مصدران سابقان .
(47)  المصدران نفسهما .
(48) راجع , ( نزهة الألباء ..) : ص 15 ،  17 - (طبقات النحويين واللغويين ) : الزبيدي : ص 28 وما بعدها  - ( وفيات الأعيان : ترجمته - مصادر سابقة .
(49) وهنالك روايات أخرى تثبت وفاته (157 هـ / 774م) ،  الفرق شاسع بين التاريخين ، وتوجد رواية تذكر وفاته (172 هـ /788م) . تجد ترجمته في (طبقات الزبيدي) رقم 110 ، نزهة الألباء ..ص 53 ، و(المزهر..) للسيوطي  ج2 ص 313  م. س .
(50) ( دائرة المعارف الإسلامية ) : حسن الأمين  م 2 ص 510  - ط 5 - 1997 م دار المعارف للمطبوعات.
(51) راجع . الفهرست : ابن النديم ص 343 - العلمية - بيروت .
(52) د. خليف  :  ص 250 م . س.  نقلاًعن (تاريخ بغداد )  : للخطيب البغدادي ج 3 ص 324 , المخزومي : ص 32 م . س .
(53) يختلف الرواة في سنة وفاة الفراهيدي ، فتذهب إمّا ( 160 هـ /  776م) ، (170 هـ / 780 م) أو كما ذكرنا ، أو (175هـ / 791م) ، راجع ترجمته  : ( نزهة الألباء...) ص 29 ،  (مراتب النحويين) ص  27 وما بعدها , (طبقات  النحويين واللغويين) ص 43 . مصادر سابقة ، (وفيات الأعيان ) لابن خلكان، (سيرة أعلام النبلاء ) للذهبي ، و   
( Hitti: P . 242)   
 ( طبقات النحويين واللغويين) : ص 66 - 67 - دار المعارف بمصر ( 54(
  المصدر نفسه.(55)
(56) راجع لترجمته:
(التناولات النحوية عند يونس بن حبيب : د. آمان الدين محمد حتحات ،  ص 1 - 4  الموقع :
http://www.ugru.uaeu.ac.ae/UGRUJournal/UGRUJournal_files/sr4/3.pdf
( طبقات النحويين واللغويين) :  للزبيدي  ص 53 ، ( الفهرست ) :لابن النديم  ص 69  ، (مراتب النحويين )  ص 21 - 22  ،  (نزهة الألباء ..) ص 51 ،  (وفيات الأعيان ) : ج6 ص 245  ،  ( المدارس النحوية ) : شوقي ضيف  ص 28 - 29 .
(57) راجع (معجم الأدباء):  ج 20 ص 67  ،  (التحولات النحوية ...) ص 2 ،  (الفهرست ) ص 63  ،  ومصادر أخرى.
(58) المرزباني : نور القبس - أخبار يونس بن حبيب النحوي  ص 36 - مكتبة المصطفى الألكترونية .
(59) المخزومي ،  د. مهدي : ( مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو ) ص 21 - رسالة دكتوراه ،  ط2 - 1958م - مصر.
(60) علوم الأدب العربي  ستة : اللغة والصرف والنحووالمعاني والبيان والبديع ،  والثلاثة الأولى لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب دون الثلاثة الأخيرة ،  فأنه يستشهد فيها بكلام غيرهم من المولدين ،  لأنها راجعة إلى المعاني ، ولا فرق في ذلك بين العرب وغيرهم ،  إذ هو راجع إلى العقل. راجع (خزانة الأدب ) : عبد القادر البغدادي ج1 ص5 مطبعة الخانجي 1977م - القاهرة .
(61) راجع ( أعيان الشيعة) : السيد محسن الأمين ج1 ص 162- دار التعارف - 1983م - بيروت .
(62) (الفهرست : ابن النديم  ص 96 - الرحمانية بمصر.
(63) راجع ترجمته  في ( نزهة الألباء ) ص 34 - 35 - المعارف - بغداد 1959 م  ،  (بغية الوعاة ) ص 33 ط1- 1326 هـ ،  ( طبقات النحويين واللغويين)ص 135 ط1 - 1954 م - مصر.
(64) راجع ترجمته في ( نزهة الألباء)  : ص 34 , (طبقات النحويين واللغويين ) : ص 136 - مصادر سابقة .  
(65) (بغية الوعاة ) : السيوطي ص 393 - 394 - دار المعرفة - بيروت  ،  (وفيات الأعيان) : ابن خلكان  ص 130 - 132 -دار صادر - بيروت 
     (66) (أعيان الزمان  وجيران النعمان في مقبرة الخيزران ) :  وليد الأعظمي  ص 13 مكتبة الرقيم  2001م - بغداد .
(67) ( تهذيب التهذيب ) : ابن حجر العسقلاني ج4 ص 638 ، 328  دار صادر - بيروت .  
 (68) (تاريخ بغداد ) : الخطيب البغدادي , ج9  ص 272 - ترجمة 4835  ،  ( الأعلام) : خير الدين الزركلي  ج3 ص 263 راجع ترجمته .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق