الأصدقاء لا يموتون/ د. بهية ابو حمد

جلستُ خلف مكتبي، يُعانقني صمت القانون الجاف، أخطُّ كلمة لصديقي الذي فقدّتهُ الشهر الفائت.
انه صديقي الوفي الذي كان يشاركني الآمي وهموم الحياة، فكان الضوء الذي يرشدني إلى الطريق المستقيم كلما تاهت بي الدروب.
انه الأخ الذي كان يعطيني الحلول الأسهل لأصعب المواقف. 
إنّه الراحل المحامي الأستاذ فواز حرب، ابن الأصل، بل سيد المواقف كما كان يحلو لي أن أناديهِ دائما. 
رحل أستاذي فوّاز بعد صراعٍ مع المرض، استيقظ من غفوته فجأة وطلب رؤيتي، فحضرتُ على الفور وفي عينيّ دمعة مكسورة.
لم أصدق ما رأيت عندما واجهته مريضا - انهار النسر الباسق  - 
رأيتُ جسداً ناحلاً، بل نسراً مكسورا يتقلب من الوجع ويرثي تحت جبروت المرض. 
تسألتُ  والحسرة خنقت صوتي، كيف لهامة كبيرة أن يصنع المرض بها ما صنع بصديقي الأستاذ فواز.. 
رفضتُ للحظة واقعه المرير، ولكن ناديت الله على عجل ليساعده، فقلت:  يا رب دخلك.
رفضتُ ضعفه، رفضتُ هزاله واصفراره، رفضتُ أن أتقبّل حاله هذا بعد أن كان يضّجُ بالقوة والحياة ويسمو بالمعرفة والحكمة.
أين النسر الجبار الذي عهدته؟ . لقد انهار الى الأبد.
إنها مسألة أيام، هكذا أبلغوني في المستشفى، لم أصدّق، أو ربما لا أريد أن أصدق، ورفضتُ كلّ النصائح الطبية التي تمنعني من وداعه.  
فكيف لرجل قانون أن ينهار أمامي هكذا؟
كيف يموت صديقي الوفي، الذي كان سيشاركني العمل كمحام في مكتبي الجديد الذي أعددته له بفرح كبير.
كيف سأنسى صوته الجهوري وهو يتردد صداه بين جدران المكتب وتحت قوس المحكمة؟
للأسف هذا الضوء قد خفت، وسينطفئ قريبا.
خرجتُ من غرفته، بكيت، وصرخ الألم من صدري، انتابني الخوف الذي لم أعهده من قبل ولم أرضخ له مسبقا.
سألتُ الله بكل قوة، أن يشافيه، فهو الوحيد القادر على تحقيق المعجزات. 
إنّه الوحيد الذي يعطي بلا سؤال، ويرحم ويستجيب بلا مقابل.
احنيتُ رأسي احتراماً لرهبة الموت،
ركعت..
وصليت راجية من الله أن يعود صديقي كما كان..
وضاعت أمنياتي أدراج الرياح -
لم أنجح.
نعم، لقد خسرت القضية يا أستاذي الكريم..
هذه المرة لم أربح، فقد كانت كل الأدلة ضدنا، فلم أستطع ابراز جوانب القضية المحكمة  بالشكل الصحيح وَكما عهدتني.
فقد كان مرضك ضد حلمي، وضد حياتك وبقائك معنا، وهو خصم لا مفر منه، فهو الخصم العنيد الذي لا يتراجع.
نم قرير العين يا أستاذي البارع، والمحامي اللامع، الذي أعطى للقانون معنى آخر. 
سأفتقدك.. 
سأفتقد وجودك وكلماتك الراقية عندما أكون حزينة، وافتقد نصائحك الصادقة الأخويّة.
وأقول للأيام:  
كم أنتَ قاسٍ أيّها الزمان.. 
كم أنتَ مؤلم أيّها المرض..
أسأل الله الخالق العظيم، أن يسكنك فسيح جناته.. 
كلمة أخيرة.. 
أستاذي فواز، أنت محظوظ، هل تعلم لماذا؟
لأنك ستلتقي بوالدي الذي افتقده أيضا كل يوم، بل كل لحظة.. 
أوصيك بأن تكن صديقا له، كما كنت صديقا لي.. 
وتذكر يا maître  هذا القول: 
Nemo Dat Quod Non Habet 
رحمك الله ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق