في معمعة حمى تجديد الخطاب الديني التي نحياها اليوم، و الذي أرى أنه أمرا ملحا و كان قد أضحى مهما منذ زمن بعيد حقا، أود أن أتوقف عند بعض النقاط الهامة إن كنا فعلا جادين في تجديد الخطاب الديني، أو إن كنا نتوقع أية نتيجة ملموسة لها صدى من ذلك التجديد.
أولى النقاط هي، تجديد السلوك العام للمسلمين المعاصرين، و الذي قد يظن البعض أن تجديد الخطاب الديني وحده كفيلا بأن يغيره و إن كان هذا صحيحا و لكن جزئيا إلا أن تجديد الخطاب الديني لن يؤتي ثماره المرجوة في تغيير السلوك العام إن لم يعزز و يدعم بتغيير الواقع الاقتصادي و الإجتماعي الذي تحياه الغالبية الكاسحة من المسلمين، و إن لم يتم إيجاد آليات فعالة و ذكية و تقدمية – و ليست قهرية و سلطوية – للسيطرة على ظاهرة العولمة و ليس منع أو عزل المسلمين أو قمعهم، و إنما أعني تنشيط و تشجيع و تحفيز المسلمين على تفهم تلك الظاهرة و التعامل البناء معها، و استغلال منافعها و طرح رذائلها دون إملاء من أحد أو مؤسسة ما، إلا أن ذلك لن يتأتى إلا بتطوير الوعي العام، و الظروف الإقتصادية بصورة عامة.
لكن ما سبق طرحه في النقطة الأولى لن يتأتى بصورة فعالة و كذا تجديد الخطاب الديني بدون النقطة الثانية و هي، تجديد الفكر الديني نفسه و طريقة تفكير و تفاعل علمائنا مع العالم و الحياة و العلم نفسه و ليس مجرد المستجدات الحضارية و موروثات الإنسانية المعاصرة و الحديثة. هناك العديد من أصحاب الفكر السديد ممن يعلمون علم اليقين أن أزمة الإسلام ليست هي الإسلام في حد ذاته و لن تكون كذلك أبدا، و إنما أزمة الإسلام هي المسلمين، و المسلمين هم ضحايا علمائهم، و لا أنكر أنه هناك العديد من الأعمال الجليلة التي يقوم بها بعض علمائنا سواء في مصر أو في العالم الإسلامي كافة لكن المشكلة الحقيقية هي أنه هناك فجوة و هوة سحيقة بين العلماء و أعمالهم و منجزاتهم العلمية و الفكرية و بين العامة قاطبة في العالم الإسلامي. بمعنى أن أعمال الفئة القليلة من العلماء الأفذاذ لا تتخطى كونها أعمالا أكاديمية معقدة على الغالبية الكاسحة من عامة المسلمين بما يمنع الانتفاع و يزيد الفجوة بين ممن يأخذون على عاتقهم تجديد الخطاب الديني و بين جماهيرهم، حتى و لو نظرنا إليها على مستوى اللغة و المصطلحات المستخدمة في مثل تلك الأعمال سنجدها شديد التعقيد و التراكب على المسلمين من بسطاء التعليم – و ما أكثرهم – مما يدفعهم إلى إما نبذ تلك الأعمال سواء كانت مؤلفات، أو محاضرات أو غيرهما، أو ترديدهم الأعمى لما لا يفهمونه و لا يستوعبونه بما يوقعهم في الفهم المغلوط، أو التشدد، أو الإيمان الأعمى و الذي لا وجود و لا مكان له في الإسلام، ناهينا عن سلوك و طريقة تعامل من هم "محسبين علينا" علماء مع أسئلة و استفسارات شبابنا الحالي عن أمور كثيرة منها المعقدة حقا، فمنها الذي يكون عن ذات الله جل و على نفسه، و لا أعلم حقيقة، لماذا صنعوا ثم عمقوا تلك الفجوة ثم باتوا يذمون الأجيال الحديثة و ينعتوهم بضعف الإيمان و الإنحلال، و لا أنكر أن العديد منا أصبح متيما بالثقافة الغربية، و حتى بمساوئها و جانبها المظلم، لكن لا ألومهم حقا.
أعني أننا نفتقر و علماؤنا إلى الوسيط و إلى آلية تحويل الفكر الأكاديمي إلى مادة بسيطة و جذابة و فعالة و نقلها للعامة. أتكلم عن السينما، و الغناء و الفنون و كيفية توظيفهم لخدمة تلك الأغراض، أتكلم عن تدعيم و رفع كفائة أئمتنا و خطابئنا و علمائنا من الناحية النفسية و الثقافية و العقلية، أتكلم عن توظيف العلوم الحديثة مثل علوم التواصل، و ليس مجرد الخطابة ، و علم النفس، كافة العلوم التي تصنع متحدث و خطيب ناجح في عصرنا الحديث و ليس على طراز العصور الوسطى، و على أن تفرض كلياتنا و جامعاتنا و مدارسنا الدينية هذه المواد على الدارسين و الدعاة مع إلزامهم بدورات عملية في ذلك مع عدم إجازة من يرسب في مثل تلك العلوم و تطبيقاها العملية، و الكل بصراحة يعلم أن العديد من خطبائنا ما أن يشرعوا في إلقاء خطبهم المعصومة حتى يتساقط السامعين صرعى النوم أو الملل و كأنهم أصيبوا بغاز النوم الذي أطلقه الخطيب من فمه. و منا من يقرر حضور إحدى الدروس أو الخطب العصماء ثم يخرج نادما على ذلك، أو كارها لنفسه لأنه اكتشف بعد الدرس أنه كافر و ملحد منذ قرون!
النقطة الثالثة، تجديد طريقة تعليم الدين في مدارسنا و أسرنا، و لا أعني مجرد تجديد المناهج و استبدال منهج دراسي ديني قائم على الحفظ بمنهج دراسي ديني آخر قائم على الحفظ! و "كأنك يا أبو زيد" . ما هو الهدف من ذلك سوى إضاعة الوقت و الجهد و الموارد بطريقة عبثية ليس أكثر! إن لم تتحول المناهج الدراسية كافة بما فيها الدينية إلى فهم و سلوك و استيعاب، فلنصمت إلى الأبد. و لا أعلم كيف لنا أن نلوم أبناءنا و نقرعهم و نقزعهم و ننعتهم بضعف الإيمان و نلومهم و نعيرهم بكونهم كانوا حفاظا للقرآن أو لأجزاء منه متوهمين – علماءا و آباءا- أن ذلك وحده يكفي، لكن هل سألنا أنفسنا هل علمناهم أي شيء عن معاني تلك الأيات بعمق، عن فلسفتها، عن جمال النسق القرآني، و جمال اللغة، و تماسك سياق الأيات القرءانية و التي أحيانا تبدوا و كأنها منفصلة عن بعضها البعض حقا، و هذا ما يحاول العديد من الملحدين إقناع قليلي العلم به، هل فعلنا كل هذا و بسطناه أو قدمناه بصورة أفضل من التوك شو التي يأخذها أحد العلماء الكبار السن "فحت وردم" من أول الحلقة إلى آخرها، أو في خطبة من خطب غاز النوم و التي غالبا لا تناقش مثل تلك المواضيع، أو كتاب أكاديمي صعب اللغة و النسق و التكوين لأحد العلماء لكي ينال درجة الدكتوراه و الذي لا يفهم منه المسلم البسيط سوى إمضاءات علماء لجنة مناقشة الباحث! و في أحسن الأحوال تقديم فيلم تسجيلي إما رخيص، أو ممل، أو يفتقر لأي سمة من سمات العمل الفني المتقن و الجذاب لا يلبث المشاهد الشاب سوى إغلاقه بمجرد أن يبدأ المعلق تعليقه اللوزعي القديم الأسلوب و الأداء المتميز بانتهاء الصلاحية.
للأسف نسينا أن الملائكة سألت الله عز و جل عما كان يفعل بخلق آدم عليه السلام و أن السؤال هو حق منحه الله لمخلوقاته و ليس للإنسان فقط، و لن أتحدث عن حرية التعبير فحالها معروف، حتى إبليس - و هو من لعنه الله - سمح له الله و أذن له في السؤال و التساؤل، بل و استيفاء الرد احتراما من الله الخالق العالي المتعالي لحق مخلوقاته عليه بعدله و وفضله و رحمته و سموه. نسينا أن نبينا صلى الله عليه و سلم كان يحاور و يجادل بالتي هي أحسن، نسينا أن الله تعالى سمح للمشركين و كفار قريش بالسؤال عن ذاته و وصفه و رد عليهم على لسان نبيه.
إن لم يتعامل الخطاب الديني "المجدد" مع الأمور المعاصرة بصورة أكثر فعالية و جذبا و عقلانية، و على أسس علمية حديثة، و دراية بالفيزياء، و علم نفس، و البيولوجيا، و البيولوجيا التطورية،و الفنون، و العلوم الاقتصادية، و السياسية، و الطبية، و ما إلى غيره فإنا لله و إنا إليه راجعون، و أقول لهم ارحمونا و ارحموا أنفسكم، و وفروا طاقاتكم الجبارة التي ستكون منصبة على تجديد الخطاب الديني لمحاربة الفكر المتطرف و الجهادي و ليس أكثر و سيفشل تجديدكم شئتم أم أبيتم و للغريب أن علماء -الدين- الغربيين أصبحوا أكثر تجديدا و فعالية مما عليه كثير من علمائنا اليوم حتى و إن تتلمذوا على أيدي علمائنا هنا في دولنا العربية، إلا أنهم يعون ما لا لم نعد نعيه هنا و ما لا نستطيع أن نتحدثه أو نتفهمه و نحاكيه. للأسف أن أفضل المحاولات التي يقوم بها البعض هنا هو محاولة تطويع النص القرآني لينسجم مع إحدى النظريات العلمية و التي أحيانا ما تفشل و تستبدل و لا يجر علينا هذا المجهود سوى النقد المستحق، و أنا هنا لا و لم أعني ذلك، بل أعني أننا و علماؤنا لا يجب علينا أن نتوقف عند حد البحث في النص القرآني بل علينا أن نحول النص القرآني بصورة عصرية و جذابة إلى أسلوب حياة، علميا و فلسفيا و فكريا، و أن نطوع كل تلك المفردات لخدمة الإسلام و ليس العكس، و ليس بالتفسير العلمي للقرآن و فقط. و ليس بصورة لغوية أو تواصلية أو إعلامية سئمها شبابنا، و ليس بالكلام و الدعوة بالترهيب و جعل الإسلام عبئا ثقيلا على الجمهور و تصويره على أنه كثير الواجبات و الفروض و العقوبات و القواعد، و الأغرب أن من يفعل ذلك يدعي تمسكه بنهج النبي صلى الله عليه و سلم، متناسيا عمدا، أو ناسيا جهلا قصة الرجل الذي جاء يبايع الرسول الكريم على صلاتين اثنتين و لم ينهره الرسول بل بايعه و قبله. و نسي قصة الرجل الذي جاء يعلم الرسول أنه سيلتزم بالفروض دون النوافل، و لم يعنفه النبي و لم يقطع أمله في الجنة، و نسي أن الله تعالى قال لنبيه" و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك".
يفقد الكثير من الخطباء جماهيرهم بسبب المظهر حتى قبل المعرفة، و هذا معيب جدا في عصر ما بعد الحداثة سواء شئنا أم أبينا، كيف للعديد من شبابنا المعاصر و المنفتح على الثقافة الغربية و التي حقا ليست دائما ما تكون سئية أن ينجذبوا لشخص مظهره على طراز منتهي الصلاحية، ناهيك عما إن كان ليس مؤهلا أو لا يعي ما يقول بعمق، أو كثرت أخطاؤه و "فتيه" فيما يعلم و ما لا يعلم. كيف و إن كانت هناك تيرات دينية كاملة رافضة لأي تطور علمي على طول الخط، فمثلا كيف لنا أن نتخيل عالما يحاول إقناع علماء بيولوجيا بأن الخلق جاء منفصلا و منزلا، و هو تصور العصور الوسطى، و لا يريد أن يتعلم أي شيء عن البيولوجيا التطورية حتى لكي يعلم كيف ينتقدها وقس على ذلك أمورا معقدة أخرى مثل قضايا الخلق، و الكون، و الوجود و أسبابه و الهدف من الحياة، و علم السيكسولوجيا، و ما إلى آخره. أي إسلام هذا، و أي جيل من المسلمين نعد للمستقبل! و الذي نتخيل أننا نربيه تربية قرآنية منذ الصغر و لا يلبث أن ينصدم بكل هذا بعد انضمامه للجامعات مما يسفر عن إما رفضه لما يتعلم و يفضل أن يعيش في ظلمات الجهل مما يوقعه في التطرف و في أحسن الفروض يتعلم من أجل الحصول على الشهادة دون أدنى شغف لما يدرس و يصبح غير مفيد للإسلام و المسلمين، و إما رفض الدين و الخطاب الديني و الجحود و الإلحاد أحيانا، و في أحسن الحالات الفصل بين الدين و العلم و العصر و هذا لا يتوافق مع نهج الإسلام.
إننا أعجز عن تحويل الإسلام إلى مادة شيقة جسمانيا، و عقليا و روحيا كما هو الحال مع اليوجا، و ثقافة الفيدا، و التاي تشي، و غيرهم و اللذين باتوا يكتسحون الحضارة الغربية اكتساحا، و يعملون كأداة جذب شيقة للآخر و منهم من يعتنق أسلوب الحياة هذا أو حتى الديانة و الفلسفة، كل ذلك على الرغم من أن الإسلام يفيض بما يعالج أمور الجسد، و الصحة، و الحالة النفسية و المزاجية و الروحية، و الفكرية، لكننا نعجز عن مخاطبة الأخر بالمظهر و الشكل و المضمون، و ليس لدينا المتميزين في ذلك، كل ما نفعله هو "تعالى لما أرقيك" أو سبح مليون مرة، و لا أنكر فضل كل هذا لكن هذا ليس ما ينتظره الآخر خاصة الغير مسلم و لا حتى العديد من شبابنا في المرحلة الأولى لجذبهم أو إعادة تشكيل ثقافتهم، إن ما ينتظروه هو أساليب لتغييرات و تمرينات و تدريبات للتغيير العام و الخاص، هكذا أضحى العالم يتكلم هذه اللغة من العملية، إذا ما يجب أن يحدث قبل الرقيا و الذكر هو إعادة صياغة أو حتى استحداث تمارين و ممارسات عقلية و نفسية مبنية على السلوكيات التي يعلمها الإسلام و علينا إيجاد الطرق العملية لتصميم نماذج لذلك، و ليس علينا أن نعلن في بادئ الأمر أن هذا من الدين و لا يجب أن نتكلم نفس اللغة القديمة بل علينا شرح ذلك بصورة عصرية و لغة علمية و عملية شيقة ثم ستأتي المرحلة الثانية و التعريف بالإسلام الذي سيكون الجمهور الغربي أو المسلم المعاصر قد فهم جيدا أنه دين عصري و عظيم . لكن و للأسف لا يزال علماؤنا المحمومين بالخطاب الديني يهرولون خلف محاربة الفكر المتطرف فقط، و لا يزال باقيهم مدفونا في الكتب التي يعجز الكثر عن قراءتها!
hady.hamdy@gmail.com
أولى النقاط هي، تجديد السلوك العام للمسلمين المعاصرين، و الذي قد يظن البعض أن تجديد الخطاب الديني وحده كفيلا بأن يغيره و إن كان هذا صحيحا و لكن جزئيا إلا أن تجديد الخطاب الديني لن يؤتي ثماره المرجوة في تغيير السلوك العام إن لم يعزز و يدعم بتغيير الواقع الاقتصادي و الإجتماعي الذي تحياه الغالبية الكاسحة من المسلمين، و إن لم يتم إيجاد آليات فعالة و ذكية و تقدمية – و ليست قهرية و سلطوية – للسيطرة على ظاهرة العولمة و ليس منع أو عزل المسلمين أو قمعهم، و إنما أعني تنشيط و تشجيع و تحفيز المسلمين على تفهم تلك الظاهرة و التعامل البناء معها، و استغلال منافعها و طرح رذائلها دون إملاء من أحد أو مؤسسة ما، إلا أن ذلك لن يتأتى إلا بتطوير الوعي العام، و الظروف الإقتصادية بصورة عامة.
لكن ما سبق طرحه في النقطة الأولى لن يتأتى بصورة فعالة و كذا تجديد الخطاب الديني بدون النقطة الثانية و هي، تجديد الفكر الديني نفسه و طريقة تفكير و تفاعل علمائنا مع العالم و الحياة و العلم نفسه و ليس مجرد المستجدات الحضارية و موروثات الإنسانية المعاصرة و الحديثة. هناك العديد من أصحاب الفكر السديد ممن يعلمون علم اليقين أن أزمة الإسلام ليست هي الإسلام في حد ذاته و لن تكون كذلك أبدا، و إنما أزمة الإسلام هي المسلمين، و المسلمين هم ضحايا علمائهم، و لا أنكر أنه هناك العديد من الأعمال الجليلة التي يقوم بها بعض علمائنا سواء في مصر أو في العالم الإسلامي كافة لكن المشكلة الحقيقية هي أنه هناك فجوة و هوة سحيقة بين العلماء و أعمالهم و منجزاتهم العلمية و الفكرية و بين العامة قاطبة في العالم الإسلامي. بمعنى أن أعمال الفئة القليلة من العلماء الأفذاذ لا تتخطى كونها أعمالا أكاديمية معقدة على الغالبية الكاسحة من عامة المسلمين بما يمنع الانتفاع و يزيد الفجوة بين ممن يأخذون على عاتقهم تجديد الخطاب الديني و بين جماهيرهم، حتى و لو نظرنا إليها على مستوى اللغة و المصطلحات المستخدمة في مثل تلك الأعمال سنجدها شديد التعقيد و التراكب على المسلمين من بسطاء التعليم – و ما أكثرهم – مما يدفعهم إلى إما نبذ تلك الأعمال سواء كانت مؤلفات، أو محاضرات أو غيرهما، أو ترديدهم الأعمى لما لا يفهمونه و لا يستوعبونه بما يوقعهم في الفهم المغلوط، أو التشدد، أو الإيمان الأعمى و الذي لا وجود و لا مكان له في الإسلام، ناهينا عن سلوك و طريقة تعامل من هم "محسبين علينا" علماء مع أسئلة و استفسارات شبابنا الحالي عن أمور كثيرة منها المعقدة حقا، فمنها الذي يكون عن ذات الله جل و على نفسه، و لا أعلم حقيقة، لماذا صنعوا ثم عمقوا تلك الفجوة ثم باتوا يذمون الأجيال الحديثة و ينعتوهم بضعف الإيمان و الإنحلال، و لا أنكر أن العديد منا أصبح متيما بالثقافة الغربية، و حتى بمساوئها و جانبها المظلم، لكن لا ألومهم حقا.
أعني أننا نفتقر و علماؤنا إلى الوسيط و إلى آلية تحويل الفكر الأكاديمي إلى مادة بسيطة و جذابة و فعالة و نقلها للعامة. أتكلم عن السينما، و الغناء و الفنون و كيفية توظيفهم لخدمة تلك الأغراض، أتكلم عن تدعيم و رفع كفائة أئمتنا و خطابئنا و علمائنا من الناحية النفسية و الثقافية و العقلية، أتكلم عن توظيف العلوم الحديثة مثل علوم التواصل، و ليس مجرد الخطابة ، و علم النفس، كافة العلوم التي تصنع متحدث و خطيب ناجح في عصرنا الحديث و ليس على طراز العصور الوسطى، و على أن تفرض كلياتنا و جامعاتنا و مدارسنا الدينية هذه المواد على الدارسين و الدعاة مع إلزامهم بدورات عملية في ذلك مع عدم إجازة من يرسب في مثل تلك العلوم و تطبيقاها العملية، و الكل بصراحة يعلم أن العديد من خطبائنا ما أن يشرعوا في إلقاء خطبهم المعصومة حتى يتساقط السامعين صرعى النوم أو الملل و كأنهم أصيبوا بغاز النوم الذي أطلقه الخطيب من فمه. و منا من يقرر حضور إحدى الدروس أو الخطب العصماء ثم يخرج نادما على ذلك، أو كارها لنفسه لأنه اكتشف بعد الدرس أنه كافر و ملحد منذ قرون!
النقطة الثالثة، تجديد طريقة تعليم الدين في مدارسنا و أسرنا، و لا أعني مجرد تجديد المناهج و استبدال منهج دراسي ديني قائم على الحفظ بمنهج دراسي ديني آخر قائم على الحفظ! و "كأنك يا أبو زيد" . ما هو الهدف من ذلك سوى إضاعة الوقت و الجهد و الموارد بطريقة عبثية ليس أكثر! إن لم تتحول المناهج الدراسية كافة بما فيها الدينية إلى فهم و سلوك و استيعاب، فلنصمت إلى الأبد. و لا أعلم كيف لنا أن نلوم أبناءنا و نقرعهم و نقزعهم و ننعتهم بضعف الإيمان و نلومهم و نعيرهم بكونهم كانوا حفاظا للقرآن أو لأجزاء منه متوهمين – علماءا و آباءا- أن ذلك وحده يكفي، لكن هل سألنا أنفسنا هل علمناهم أي شيء عن معاني تلك الأيات بعمق، عن فلسفتها، عن جمال النسق القرآني، و جمال اللغة، و تماسك سياق الأيات القرءانية و التي أحيانا تبدوا و كأنها منفصلة عن بعضها البعض حقا، و هذا ما يحاول العديد من الملحدين إقناع قليلي العلم به، هل فعلنا كل هذا و بسطناه أو قدمناه بصورة أفضل من التوك شو التي يأخذها أحد العلماء الكبار السن "فحت وردم" من أول الحلقة إلى آخرها، أو في خطبة من خطب غاز النوم و التي غالبا لا تناقش مثل تلك المواضيع، أو كتاب أكاديمي صعب اللغة و النسق و التكوين لأحد العلماء لكي ينال درجة الدكتوراه و الذي لا يفهم منه المسلم البسيط سوى إمضاءات علماء لجنة مناقشة الباحث! و في أحسن الأحوال تقديم فيلم تسجيلي إما رخيص، أو ممل، أو يفتقر لأي سمة من سمات العمل الفني المتقن و الجذاب لا يلبث المشاهد الشاب سوى إغلاقه بمجرد أن يبدأ المعلق تعليقه اللوزعي القديم الأسلوب و الأداء المتميز بانتهاء الصلاحية.
للأسف نسينا أن الملائكة سألت الله عز و جل عما كان يفعل بخلق آدم عليه السلام و أن السؤال هو حق منحه الله لمخلوقاته و ليس للإنسان فقط، و لن أتحدث عن حرية التعبير فحالها معروف، حتى إبليس - و هو من لعنه الله - سمح له الله و أذن له في السؤال و التساؤل، بل و استيفاء الرد احتراما من الله الخالق العالي المتعالي لحق مخلوقاته عليه بعدله و وفضله و رحمته و سموه. نسينا أن نبينا صلى الله عليه و سلم كان يحاور و يجادل بالتي هي أحسن، نسينا أن الله تعالى سمح للمشركين و كفار قريش بالسؤال عن ذاته و وصفه و رد عليهم على لسان نبيه.
إن لم يتعامل الخطاب الديني "المجدد" مع الأمور المعاصرة بصورة أكثر فعالية و جذبا و عقلانية، و على أسس علمية حديثة، و دراية بالفيزياء، و علم نفس، و البيولوجيا، و البيولوجيا التطورية،و الفنون، و العلوم الاقتصادية، و السياسية، و الطبية، و ما إلى غيره فإنا لله و إنا إليه راجعون، و أقول لهم ارحمونا و ارحموا أنفسكم، و وفروا طاقاتكم الجبارة التي ستكون منصبة على تجديد الخطاب الديني لمحاربة الفكر المتطرف و الجهادي و ليس أكثر و سيفشل تجديدكم شئتم أم أبيتم و للغريب أن علماء -الدين- الغربيين أصبحوا أكثر تجديدا و فعالية مما عليه كثير من علمائنا اليوم حتى و إن تتلمذوا على أيدي علمائنا هنا في دولنا العربية، إلا أنهم يعون ما لا لم نعد نعيه هنا و ما لا نستطيع أن نتحدثه أو نتفهمه و نحاكيه. للأسف أن أفضل المحاولات التي يقوم بها البعض هنا هو محاولة تطويع النص القرآني لينسجم مع إحدى النظريات العلمية و التي أحيانا ما تفشل و تستبدل و لا يجر علينا هذا المجهود سوى النقد المستحق، و أنا هنا لا و لم أعني ذلك، بل أعني أننا و علماؤنا لا يجب علينا أن نتوقف عند حد البحث في النص القرآني بل علينا أن نحول النص القرآني بصورة عصرية و جذابة إلى أسلوب حياة، علميا و فلسفيا و فكريا، و أن نطوع كل تلك المفردات لخدمة الإسلام و ليس العكس، و ليس بالتفسير العلمي للقرآن و فقط. و ليس بصورة لغوية أو تواصلية أو إعلامية سئمها شبابنا، و ليس بالكلام و الدعوة بالترهيب و جعل الإسلام عبئا ثقيلا على الجمهور و تصويره على أنه كثير الواجبات و الفروض و العقوبات و القواعد، و الأغرب أن من يفعل ذلك يدعي تمسكه بنهج النبي صلى الله عليه و سلم، متناسيا عمدا، أو ناسيا جهلا قصة الرجل الذي جاء يبايع الرسول الكريم على صلاتين اثنتين و لم ينهره الرسول بل بايعه و قبله. و نسي قصة الرجل الذي جاء يعلم الرسول أنه سيلتزم بالفروض دون النوافل، و لم يعنفه النبي و لم يقطع أمله في الجنة، و نسي أن الله تعالى قال لنبيه" و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك".
يفقد الكثير من الخطباء جماهيرهم بسبب المظهر حتى قبل المعرفة، و هذا معيب جدا في عصر ما بعد الحداثة سواء شئنا أم أبينا، كيف للعديد من شبابنا المعاصر و المنفتح على الثقافة الغربية و التي حقا ليست دائما ما تكون سئية أن ينجذبوا لشخص مظهره على طراز منتهي الصلاحية، ناهيك عما إن كان ليس مؤهلا أو لا يعي ما يقول بعمق، أو كثرت أخطاؤه و "فتيه" فيما يعلم و ما لا يعلم. كيف و إن كانت هناك تيرات دينية كاملة رافضة لأي تطور علمي على طول الخط، فمثلا كيف لنا أن نتخيل عالما يحاول إقناع علماء بيولوجيا بأن الخلق جاء منفصلا و منزلا، و هو تصور العصور الوسطى، و لا يريد أن يتعلم أي شيء عن البيولوجيا التطورية حتى لكي يعلم كيف ينتقدها وقس على ذلك أمورا معقدة أخرى مثل قضايا الخلق، و الكون، و الوجود و أسبابه و الهدف من الحياة، و علم السيكسولوجيا، و ما إلى آخره. أي إسلام هذا، و أي جيل من المسلمين نعد للمستقبل! و الذي نتخيل أننا نربيه تربية قرآنية منذ الصغر و لا يلبث أن ينصدم بكل هذا بعد انضمامه للجامعات مما يسفر عن إما رفضه لما يتعلم و يفضل أن يعيش في ظلمات الجهل مما يوقعه في التطرف و في أحسن الفروض يتعلم من أجل الحصول على الشهادة دون أدنى شغف لما يدرس و يصبح غير مفيد للإسلام و المسلمين، و إما رفض الدين و الخطاب الديني و الجحود و الإلحاد أحيانا، و في أحسن الحالات الفصل بين الدين و العلم و العصر و هذا لا يتوافق مع نهج الإسلام.
إننا أعجز عن تحويل الإسلام إلى مادة شيقة جسمانيا، و عقليا و روحيا كما هو الحال مع اليوجا، و ثقافة الفيدا، و التاي تشي، و غيرهم و اللذين باتوا يكتسحون الحضارة الغربية اكتساحا، و يعملون كأداة جذب شيقة للآخر و منهم من يعتنق أسلوب الحياة هذا أو حتى الديانة و الفلسفة، كل ذلك على الرغم من أن الإسلام يفيض بما يعالج أمور الجسد، و الصحة، و الحالة النفسية و المزاجية و الروحية، و الفكرية، لكننا نعجز عن مخاطبة الأخر بالمظهر و الشكل و المضمون، و ليس لدينا المتميزين في ذلك، كل ما نفعله هو "تعالى لما أرقيك" أو سبح مليون مرة، و لا أنكر فضل كل هذا لكن هذا ليس ما ينتظره الآخر خاصة الغير مسلم و لا حتى العديد من شبابنا في المرحلة الأولى لجذبهم أو إعادة تشكيل ثقافتهم، إن ما ينتظروه هو أساليب لتغييرات و تمرينات و تدريبات للتغيير العام و الخاص، هكذا أضحى العالم يتكلم هذه اللغة من العملية، إذا ما يجب أن يحدث قبل الرقيا و الذكر هو إعادة صياغة أو حتى استحداث تمارين و ممارسات عقلية و نفسية مبنية على السلوكيات التي يعلمها الإسلام و علينا إيجاد الطرق العملية لتصميم نماذج لذلك، و ليس علينا أن نعلن في بادئ الأمر أن هذا من الدين و لا يجب أن نتكلم نفس اللغة القديمة بل علينا شرح ذلك بصورة عصرية و لغة علمية و عملية شيقة ثم ستأتي المرحلة الثانية و التعريف بالإسلام الذي سيكون الجمهور الغربي أو المسلم المعاصر قد فهم جيدا أنه دين عصري و عظيم . لكن و للأسف لا يزال علماؤنا المحمومين بالخطاب الديني يهرولون خلف محاربة الفكر المتطرف فقط، و لا يزال باقيهم مدفونا في الكتب التي يعجز الكثر عن قراءتها!
hady.hamdy@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق