الجُرْهُمِي التَّائِه/ حاتم جوعيه

مقدمة :إنَّ التاريخَ العربي القديم حافلٌ وزاخرٌ بالأساطير العربيَّة التي لم تأخذ حظها واهتمامها من الدراسة، حيث أهملها العلماءُ طويلا بحجّة أنها من آثارالجاهليَّة الأولى، وفي  هذا  المقال   سألقي  الضوءَ  على  إحدى القصص القديمة التي لا تخلو من أصل تاريخي لأجل ما  فيها من  تفاصيل  إنسانيَّة  تكشفُ  البذورَ الأولى  للرؤية  الشعبيَّة  للشعب العربي . 

مدخل : لقد عاشت على رمال الجزيرة العربيَّة شعوبٌ وقبائل  كثيرة في القدم ( الزمن الغابر(، وكوَّنت أحداثُ وخطوب الحياة عليها  ذخيرة ضخمة  من التاريخ الشعبي المتوارث والمنقول شفاهيًّا على ألسنةِ الرّواة الحفظة  له ، والذين تداولوهُ وتناقلوهُ، حتى تلقفهُ وأخذهُ منهم المفسِّرُون  وكتابُ التاريخ وأصحاب كتب الأدب والشعر والمدوِّنين .
        من هذه الأساطير التي وصلتنا عرفنا أمرَ هذه  الشعوب البائدة ( التي انقرضت)  في الجزيرة العربيَّة .  فتواريخُ وأخبار هذه الشعوب التي جاءتنا  ووصلتنا من  مصادر شعبيَّة، الكثير منها مليىء  بالأحداث الدراميَّة  الثريَّة   بالتعبيرعن العواطف البشريَّة، وصراعتها المستمرَّة، إمَّا  لحفظ  الإستقرار  داخل المجتمع  نفسه،أو التوازن بين كلّ  مجتمع على حدة وبين المجتمعات الأخرى  المجاورة  له .  وإمَّا بين الإنسان في هذه المجتمعات ، وبين القوى القاهرة  التي تتحكم  في وجودِهِ ، وفي  مصيرهِ ، والتي لم  يكن الإنسانُ  قد أدركها  وفهمها  بعد الفهم  الكافي . فسجل وتدوين  صراعاته وحروبه معها ،تلك الصراعات التي كانت تنتهي به دائما إلى نهاية تراجيديَّة فاجعة مؤلمة ..ممَّا يقرّبُ إلى أعيننا وأذهاننا كثيرا حقيقة وجود المادَّة الصالحة والملائمة لبناء دراميّ متكامل لم يكن  ينقصُهُ  إلا خشبة المسرح  ليدخلَ  العربُ عالمَ الإبداع المسرحي كغيرهم من الشعوب الأجنبيَّة .

مُلوك مكَّة:هنالك الكثيرمن الشعوب والقبائل البائدة التي لعبت دورا هامًّا في القدم..ومن هذه الشعوب الجراهمة ( بنو جُرهم)..وأهميَّة الجراهمة  أنهم كانوا ملوكَ مكّة،وقد تولّوا الملكَ على العديد من الشعوب البائدة،كانوا ملوكَ مكّة  تبعتهم  عملاق  وطسم  وجديس  ورائش  وقطور... وفي عهدهم  كثر العمران والبناء في مكّة، وكثرَ أيضا  وتزايدَ الحجيج، وغزوا عندما  ترسَّخَ  دعائم ملكهم،الكثيرمن البلدان والشعوب الأخرى مثل أرض الحبشة  واليمن  إلى أن تولَّى ملكهُم الحارث بن مضاض الجرهمي .
   فالجراهمة هم  ملوك مكَّة قبل قريش وخزاعة وسدنة الكعبة قبلهم ، ولهذا  يُمثل تاريخُهم  أمرا مهمًّا  رئيسيًّا  وحسَّاسا  في  حياةِ  الجزيرة العربيَّة  قبل الإسلام . ويمثّلُ  أيضا  نقطةَ التقاء  مهمَّة بين التاريخ  الأسطوري للجزيرة العربيَّة، والتاريخ  المُسَجَّل الذي  أثبتهُ  رجال التاريخ  بعد الإسلام ، ونقطة الإلتقاء  هذه  هي  التي  أصبحت  محور  التفات  المُفسّرين  ورجال  الأدب  والتاريخ .. بعد هذا  تتبلور في شخصيَّة  "عبيد بن شربة الجرهمي"  سمير ونديم  الخليفة معاوية بن أبي  سفيان الأموي .. فمعاوية  يستدعيه من اليمن ليقصَّ عليه قصصَ ملوك اليمن،وأخبار وأحداث الأمم البائدة،ويسجِّل كتَّاب أخبار ملوك اليمن هذه الأسمار كلها،وهي التي أمرَ الخليفة الأموي أن تُدوَّنَ  وتحفظ  في خزائنهِ .
  ولا أحدٌ يعرفُ أينَ ذهبت خزائنُ الكتبِ والملفات التي كان معاوية  يسجِّلُ  فيها أسمارَه.. وما كان يسمعهُ من حكايات العرب والشعوب البائدة. إنَّ كتبَ  الأدبِ تسجلُ أنهُ كان يقضي  ثلث ليلة  في سماع  الأسمار وتدوينها . إلا أنَّ كتبَ التاريخ ،رغم أنها تُدَوِّنُ هذه الحقيقة لا تذكرها  لنا . والسؤال هنا : أينَ ذهبت كتب الأسمار هذه التي دوَّنها كتّابُ معاوية ومؤرِّخوه ، ولولا المؤرّخ إبن هشام  الذي عاصر معاوية  والمجهود الذي  قام  بهِ  في  إعادةِ  صياغة الكتّاب، ما حفظ لنا من أسمار وحكايات عبيد بن شربة الجرهمي ما  يتداول او يتناقل من هذه الشعبيَّات التي استفاد منها كتّابُ السير الشعبيَّة والحكايات المختلفة .
       من أبرز الشخصيَّات الجرهميَّة التي نقلها ابنُ هشام هي شخصيَّة آخر ملوك  الجراهمة  " الحارث بن  مضاض  الجرهمي"  ملك  مكة  الذي  تاهَ  ثلاثمئة عام في الجزيرةِ العربيَّة .
 ويروي المؤرّخُ "وهب بن منبه " في كتابه "التيجان " أخبارَ الحارث على لسان الياس بن مُضر. ويقولُ في صفحة (180) من التيجان نقلا عن الإمام علي بن  أبي  طالب :  ( إنهُ  حدثَ  يوما  في غربةِ  الحارث  بن  مضاض الجرهمي  قال : أخبرنا عبد مناف عن  أبيه  عبد المطلب  انهُ  قال : أدركنا الحكماء والمُعَمّرين وأهل الآثار بالعلم الأول من أهل  تهامة  يذكرون غربة الحارث بن مضاض المتوّج، فكلٌّ قد وضعَ الحديثَ إلى الياس بن مضر ..)  ..  وإلياس هذا يتحدثُ  نقلا عن عمِّهِ إياد بن نزار بن معد  بعد أن سألهُ عن أصل مالهِ فحكى له حكاية لقائهِ بالحارثِ الجرهمي  وما انتهى  بهِ اللقاء من  ثراءٍ فاحش وأثارَ أسئلة  أهلهِ ، وأثارَ أسئلة  الناس كلها الذين كانوا يعرفون عنهُ انهُ لم يملك من حطام الحياة إلاّعشرة أبعرة ( جمال )  يكريهم  للحجيج ، ويتقوَّتُ من هذا الكراء ، وحين  سألوهُ  حكى عن  لقائهِ  الأخير  بالحارث الجُرهمي  التائه ، وهو يعودُ  بعد  تيههِ العظيم  الذي استمرَّ  ثلاثمئة عام ... عادَ  لا يدري أحدٌ من أين ، وإنّما إياد بن نزار ..انهُ  قادَهُ إلى قبرهِ ومستقرّهِ الأخير،وان الثمنَ الذي تقاضاهُ لهذه الرحلةِ كان الثّراء والغنى الفاحش الذي أثارَ أسئلةَ أهلهِ وجميع الناس .
   إنَّ حكاية  إياد بن  نزار التي يحكيها عن الحارث الجرهمي ولقائهِ بهِ تبدأ بصحبتهِ لهُ على إبلهِ العشرة من المدينة حيث التقاه ، وانطلقا إلى مكة  حيث كانت وجهتهُ ،( يحيدُ بعيرًا ، فيحملهُ على بعير آخر ، حتى ( تحيدُ ) الأبعرةُ كلها ، من عبء حملهِ ونقل  جثّتهِ.. فما  يصل مكة  إلا وقد (حادت) الأبعرةُ العشرةُ  كلها .. ولا ندري هنا ماذا يقصدُ المؤرِّخُ " وهب "  بكلمة (  حادت ) هذه ، ولعلّها  تعني عجزَ عن حمل الثقل الكبير الذي يحملهُ ، وإياد يصفُ الحارثُ الجُرهمي  كما جاءَ في النصّ بقولهِ  في " ص 181 من التيجان" : ( إنّهُ شيخٌ  كالنخلةِ السّحوق  ولحيتهُ  تناطحُ  ركبته ، فراعني ما رأيتُ  من عظم جسمهِ .. فلمَّا دنا  منّي، قلتُ يا شيخ عندي حاجتكَ . قالَ : أدنُ منِّي  يا بنيّ فدنوتُ منهُ فوضعَ يدَهُ على منكبي، فكأني أحسُّ يدَهُ على عاتقي كالجبل .. ) .  عادَ الحارثُ من  غربتِهِ  وتيههِ الطويل  شيخا  ملتحيا  ضخمَ  الجثّةِ   أعمى يبحثُ عن من  ينقلهُ  إلى نهايتهِ .
   ويقولُ إياد عن كيفيَّةِ  لقائهِ  بهِ إنَّهُ كان في المدينةِ  يبحثُ عمَّن يُكرِي إبلهُ ، فلم يجد أحدًا ، وكادَ  اليومُ  يمضي  دونَ ان يجدَ بغيتهُ إلى أن سمعَ  صوتا  كالرعدِ  ينادي ويقولُ : أيُّها الناس من  يحملني  إلى  البلدِ الحرام  ولهُ  وقر جملهِ درًّا  وياقوتا وعقيانا . فتبعَ الصوتَ  فوجدَ هذا الشيخ  الذي  يعدُ  بالدّرِّ والياقوت والعقيان  ، فحملهُ على إبلهِ  حتى مكة  و لا يعرفُ  إياد  شخصيّة هذا الشيخ الضّخم الجثّة الذي ( تحيدُ ) الأبعرة تحته واحدا  إثر الآخر، حتى يصل  بهِ  إلى جبل المطابخ على  حدود مكة ، فيسألهُ  الشيخ : إذا  كان إلى جوارهما من  يسمع حديثهما، فلمَّا  يتأكَّدُ أنهما لوحدِهما  يسألهُ  الحارثُ  إن كان يعرفُ من هو ، وعندما  يجيب بالسَّلب ، يقولُ  لهُ الحارثُ : أتدري مَن أنا ..؟.. أنا الحارث بن مضاض بنُ عبد المسيح  بن نفيلة بن عبد المدان  بن حشرم  بن عبد  ياليل  بن  جرهم بن قحطان  بن  هود النبي، كنتُ ملكَ مكة  وما  ولاها . 
      إذن هذا هو نسبُ الملك الحارث بن مضاض الجرهمي ملك مكّة  الذي تاهَ  ثلاثمئة سنة  ولا أحدُ يعرفُ  أينَ ذهبَ ..وعادَ أخيرًا  في نهايةِ المطاف    وأيّامِهِ الأخيرة ليحملهُ إياد بن  نزار متع الحجيج إلى مكة  لينتهي بهِ  مطافه الدرامي إلى قبرهِ  وراحتهِ الجسديَّة بعد عناء عظيم .
بداية التيه :  إنَّ حكاية  الحارث الجرهمي التي أورَدَها  "وهب" منقولةٌ عن عليِّ بن أبي طالب  كرَّم الله  وجهه  نقلا عن عبد  مناف .. عن أبيهِ عبد المطلب..الي يرويها بدورِهِ عن الحكماء والمُعَمِّرين وأهل الآثار بالعلم الأول من أهل تهامة. إنها إذا حكاية متناقلة  في المأثور الشعبي القديم ، يتداولونها جيلا  بعد جيل ، مع أنَّ هذه القصَّة شعبيَّة وأسطوريَّة إلاّ أنَّ إسناد  ذكرعلي بن أبي طالب  في روايتها ورفع الحديث إلى جدّ عبد المطلب  بن هاشم ، قد  أدخلَ هذه القصَّة الشعبيَّة في عداد الأخبار التاريخيَّة  الموثوقة التي  تُرو ى في كتبِ التاريخ القديم .  فهي تعتبرُ إذا  خبرا تاريخيًّا صادقا  مُثبتا  لا يقفُ أحدٌ عندهُ  ليناقشَ مدى صحَّته  وصدقه التاريخي ، وتصبحُ حكايةُ  الحارث الجرهمي ملك مكّة  وتيهه ثلاثمئة عام  مقبولة عند المؤرِّخين . 
     والجديرُ بالذكر أنَّ الرواية  تُروَى بأكثر من طريقةٍ  وأسلوب  حتى عند المؤرِّخ الواحد كوهب بن منبه ..حيث  يرويها مرّتين، مرَّة عند الحديث عن  تابوت داود بن سليمان ( العهد ) حين هزمَ  داود جليات  الجبَّار ، وجاءَ  في القرآن الكريم  وقتلَ  داود جليات ، من سورة البقرة  الآية 250، 251  وما  قبلها ) ، وهذه الآيات تقصُّ  قصَّة  تابوت بني إسرائيل في قولهِ  تعالى ( ما وردَ في القرآن ) الآية 248  من السورة نفسها : " وقالَ  لهم  نبيُّهُم  إنَّ  آية ملكهم أن يأتيكم التابوتُ فيهِ سكينة من ربِّكم  وبقيَّة ممَّا تركَ آلُ موسى  وآل هارون تحملهُ الملائكةُ إنَّ في ذل  لآية  لكم إن كنتم  مؤمنين ". وتبدأ حكايةُ وهب  بقصَّة جالوت ملك  كنعان الذي قام ملكهُ  بالشام ونصرَهُ  بنو حام بن نوح ، كما نصرهُ  القبط  بن كنعان  من أرض بابليون ..واتسعَ ملكهُ  وقويَ  أمرُهُ ، فنافسهُ عليهِ  بنو إسرائيل، وكان عليهم  طالوت ( شاول) ملكا، وكان  نبيُّهم آنذاك داود عليه السلام فأمرَهم  داود بالجهاد وقتال جالوت .. فتقاعسَ الإسرائيليُّون في  القتال ورفضوا  طاعة طالوت الملك . هذا  ويحكي وهب  بقيَّة  القصَّة  التي نقلها  المفسِّرون  فيقولُ : إنَّ بني  إسرائيل خافوا  جالوت وجيشَه  فثبتَّ النبي داود  قلوبَهم ، وأمرَهم  بالسير مع طالوت  وأمرَهُ النبي داود ان يحملَ  التابوت الذي فيه السكينة  فسارَ بين  يديهِ وقالَ لهُ داود :  إنَّ  اللهَ  أنزلَ فيهِ السَّكينة وأسكنها  قلوبَكم، وزلزلَ أكبادَ  بني ماريع  وقذق فيها الرعبَ . فجعلَ طالوت  التابوت بين يديهِ  كما تسيرُ العربُ بالرايات، وكما تسيرُ العجمُ  بالفيلة ، فحُمِلَ  التابوتُ على ( الغنائم ) ..وحين التقى الجمعان (  قتلَ داود  جالوت ملك كنعان )  . 
حكاية التابوت :الحكايةُ الأولى التي يوردُها وهب بن منبه  تتحدَّثُ عن تابوتِ السكينة او العهد، والذي يرويها هنا  ليس وهب بن منبه وإنما  محمد بن هشام ( مؤرّخ السير المعروف الذي عاش في العهد الاموي) الذي  أعادَ  صياغة الكتاب من جديد  وقدَّمهُ  لنا. وتنتقلُ الحكايةُ هنا من وهب إلى هشام  الذي يتدخَّلُ دائما في الكتب والمؤلفات التي  يقدِّمها، ومنها سيرة  بن إسحق  ليضيفَ ويستكملُ ما يشعرُ ويحسُّ انهُ ينقصُ النصّ الأصلي لجلاءِ وإيضاح  نقطة مهمَّة أغفلها  صاحبُ الكتاب  الذي يقدِّمُ لنا  نصَّهُ المعدَّل . ففي صفحة 179 من "التيجان" يقولُ صاحب الكتاب :( قالَ أبو محمد كان بنو إسرائيل  بعد داود وسليمان  يزحفون بذلك التابوت وذلك لما  حمي الوطيس  واستعر الوغى  ألقى  بنو  إسرائيل  القنا  من أيديهم التي يحملون  بها  تابوت  العهد  فسقطت،وحملت التابوت الملائكة فوق رأس النبي داود،حتى هزم الجبارين وقومهم )...وفي هذا تفسير لقوله تعالى " فهزمهم باذن الله " .  وهذه القصة متداولة عند المُفسّرين  عامة وليس فيها ذكر لسببِ تيه الحارث بن مضاض الجرهمي . ويكملُ  ابن  هشام  الحكاية  من مصادره  الشعبيَّة  أو التاريخية  المتوفرة  لديه ... فهو  لا يذكر لما  يحكيه  مصدرا -   إذ يقول : (  قال  أبو محمد : لم  يزل  بنو اسرائيل  يزحون بالتابوت حتى  كان في زمن الحارث بن مضاض الجرهمي )  .  فالعلاقة  إذا  بين  قصة   داود  وجالوت   وبين قصة الحارث الجرهمي هي  ذكر تابوت السكينة  - العهد . لأنَّ التابوت هو   سبب تيه  وتشرّد  الحارث الجرهمي  .  هذا ويستطردُ  ابن هشام  في قصةِ وهب بن منبه حتى يصلَ بنا إلى الحارثِ بن مضاض الجرهمي بعد  حكايةِ داود وجالوت  بمدة طويلة .
  ويقول ابنُ هشام : ( فبدّل  بنو اسرائيل بن داود وسليمان صلى الله  عليهما ، وانتحلوا على الزبور كتبا انتحلوها  ) .. ولهذا الأمر  يفقدُ  تابوتُ السكينة عندهم معجزته وعجائبَه وإن لم يفقد قداسته، فما زال يحوي الزبور. ويصلُ بنا المؤلفُ إلى المعركة بين مكة  وملكها يومئذ الحارث بن مضاض ، وبين بني اسرائيل ومعهم الروم  من أرض الشام، ويهزمُ الحارثُ الجيشَ المهاجم في المعركة، فيرمي  بنو إسرائيل بالتابوت ، كما تعوَّدُوا - لما بدَّلوا  فيه من صحف  - فتأخذه  قبيلتا جُرهم  وعملاق  وترميان  به  في مزبلة من مزابل مكه .. وقد نهاهُم وحذّرَهُم من مغبَّة  ذلك الحارثُ بن مضاض  ولم يستمعوا ..فأخذهُم الوباء .. فاستخرجَ الحارث التابوت ليلا  وعهد به إلى  هميسع بن ثبت بن قيدار بن اسماعيل  .     ويقول ابن هشام : (  وكان عنده  يتوارثونه  وارثٌ عن وارثٍ  إلى زمان  عيسى بن  مريم عليه السلام ، فانه  أخذه  من كعب  بن  نوى بن غالب .. ) .. إلى هنا ونحن في قصة  التابوت منذ بداياته  في عهد  داود إلى نهايته عندما يسترجعهُ عيسى عليه السلام .  ويتداولُ هذه القصَّة المفسّرون، وبالذات في  جزئها الأول المرتبط  بداود وجالوت . وينقلُ  بعضُ المؤرخين عن كتاب "التيجان "حكاية التابوت ومصيره.  لكن ابن هشام يستمرُّ في الحكايةِ وقد يكون  بتأثير الإسرائيليَّات التي غلبت على أخبار وتدوين  وهب بن  منبه ، أو لكي  يثبت معنى أنَّ  قداسة  الزبور  في  التابوت هي التي تحميه من الإهانةِ وكانت  تهدِّدُ بالعقاب والمرض والموت  كلَّ من يتجرَّأ على المساس بهِ، و لهذا حقّ الهلاك على جُرهم  وعملاق .
       وجاء في "التيجان " صفحة 180 : ( فلمَّا هلكت جرهم  وعملاق غمًّا  فنوا جميعا،ولم يبق من عملاق إلا عشرون رجلا فكانوا مؤمنين على دعوة اسماعيل  مع هميسع .. وثمانية  رجال من جرهم مع الحارث  بن  مضاض الجرهمي.وعندما رأى الحارثُ أنَّ قومَه هلكوا  تركَ ابنهُ عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي عند هميسع ، وخرجَ هاربا   يجولُ ويطوفُ في بقاع الأرض همًّا وغمًّا ووحشة وحزنا  لما  ألمَّ  ونزلَ بقوومِهِ من نوائب..وهكذا تغرَّبَ الحارثُ بن مضاض فترة طويلة  استغرقت  ثلاثمئة عام .  وهذه هي حكاية وهب الأولى  التي يرويها عن تغرُّبِ وتيه الحارث الجرهمي ثلاثمئة عام ، وتعتبرُ في  الأساس  واحدة  من  القصص  التي  احتاجها  المفسّرون   والمحللون   لفهم  الاحالات  القرآنيَّة  إلى  التاريخ  العربي  القديم ، وتاريخ الشعوب  البائدة   بالذات  من الجزيرة .  وتفسّرُ هنا السر ّ في  كون  جرهم  وعملاق من الشعوب  والقبائل البائدة .  وتلقي في الوقت  نفسه الضوءَ على ما  جاء  بآيات في  سورةِ المائدة التي سبق  ذكرها  من  صراع  بين حمير  برئاسة جالوت  وبني  إسرائيل  برئاسة طالوت . ونبُوَّة  داود عليه السلام ،  ونصر الله  لداود وقومه  بالتابوت المسمَّى بتابوت السكينة  أو  العهد .  وإذا كان المفسّرون  قد  اهتمُّوا  بقصَّة  وهب في جزئها  الأول ، فهم  لم  يهتمُّوا بإضافة ابن هشام في الجزء الثاني من القصّة .  هذا ويقدمُ لنا وهب بن منبه  حكاية أخرى، كما ذكرتُ ، يركزُ فيها الأضواءَ حول تيه الحارث الجرهمي ،وعودته الغامضة إلى مكة راكبا أبعرة إياد بن  نزار التي ( حادت)  واحدة  أثر أخرى  حتى عندما وصلوا  مكة  كانت الإبل  كلها  قد  تلفت . وتهمُّ هذه الحكاية الدارسَ  الشعبي  المختص  بالموروثِ  الشعبي القديم ، وتثيرُ شغفه وانتباهه من  حيث كونها  تمثلُ حلقة  مفقودة  في التناقل  للموروث  الشعبي  العربي القديم  السابق  للإسلام .   وهذه الحكاية التي  نحن في صددها  تكاد تكونُ  واحدة  من الحكاياتِ القلائل التي  وردت  كاملة  لتكشفَ عن  طبيعةِ الحكي  والسَّرد الشعبي  العربي القديم ،وتتفقُ الحكايةُ الثانية مع الأولى  في المحاور الرئيسيَّة التي تقومُ عليها القصَّة، فمثلا هناك معركة  بين الجراهمة والعماليق من ناحية، وبين إسرائيل من ناحية  أخرى، وينهزمُ  بنو اسرائيل ويرمون  بتابوتِ  السكينة ، فيقعُ  التابوت  فاقدا  فعله وسحره الأسطوري ، ويُرمى في مزابل  مكة ، ويستخرجهُ الحارثُ الجرهمي ، ويصابُ العماليق والجراهمة بالغمّ الذي يبيدهم، ويتيهُ الحارث ملكهم ثلاثمئة عام . لكن هنالك خلاق  بين الحكايتين  يتلخص في  إغفال  الجزء الأول  من الحكاية الأولى تماما في الحكاية الثانية، والإقتصارعلى معركة الجراهمة مع  بني اسرائيل  في عهد الحارث بن مضاض، ويتمثلُ أيضا  في أنَّ ملكَ جرهم  كان عمرو بن مضاض الأخ  الأكبر  للحارث  الجرهمي ، وأنَّ  مضاضا  الذي  تذكرهُ  الحكاية الأولى أنهُ بن الحارث،كان ابن أخيه الملك عمرو. كما أنَّ  مضاض بن عمرو يلعبُ في هذه الحكاية دورا دراميًّا رئيسيًّا مهمًّا، وإذا كان الحارث هو الروح  الهائمة في هذه القصّة الذي يحملُ عذابَ التّيه  والتشرُّد  لأمر لا يد له فيه ( فوق إرادته ) ، فإنَّ  مضاض  بن عمرو يمثلُ حجر الزاوية  في الحكايةِ  كلها من بدايتها إلى  نهايتها .  تبدأ الحكايةُ  قبل ولادةِ  مضاض بن عمرو ، بل  وقبل أن يتعرّفَ أبوهُ على أمِّهِ بزمن  قصير . وولادة  مضاض بن عمرو هنا  تاتي نموذجا  مصغرا للتقليد الشعبي الادبي  في تأليف ولادة البطل ، في السير الشعبيَّة  العربيَّة عامَّة، وفي الادب الشعبي العربي بشكل عام  ، فدائما يولدُ البطلُ في ظروف شاذة وغريبة ، تجعلُ من حدثِ الولادةِ نفسها إرهاصا  بما ستحملهُ  حياةُ  البطل من ظروفٍ  تراجيديَّة ، تميّزهُ عن غيره من الناس،من لحظة الولادة نفسها..والقصة في بدايتها يحكيها الحارثُ الجرهمي التائه العائد إلى مكة ( مسقط رأسه) بعد رحلة التيه الطويلة، وهو يمهّدُ لها بحكاية الظروف التي أدَّت إليها.. والظروف هي نفسها المعركة بن الجراهمة  والعماليق من ناحية ، وبني إسرائيل من ناحية اخرى  ولكنها هنا حكاية جديدة  تماما.. يقولُ الحارثُ الجرهمي- وهو يحكي لإياد بن نزار - :  ( كنا أهلَ تيجان ، نُعلِّقُ التاجَ يومًا على رؤوسنا، ويوما على الرياح  بالبيت العتيق ( الكعبة ) .. وأنه أتى رجل من بني إسرائيل بدُرٍّ وياقوتٍ  تاجرًا إلى  مكة ،واشترى الملكُ أخي عمرو بن مضاض، ما أتى  به من الدرّ والياقوت ، ونفض الملكُ التاج، وزادَ فيه العقيان والدرّ والياقوت وجعلهُ كالجن ) لكنّ التاجرَ الإسرائيلي أخفى  أحسنَ  ما  كان عنده  من  جواهر، وعرضها على بعض التجّار، فعلمَ الملكُ ، وأرسلَ يسألهُ لمَ فعلَ  ذلك، ولم يجبهُ الإسرائيلي إلا بأنهُ حرٌّ في مالهِ ، فصادرَ الملكُ ما كانَ معهُ وضمَّهُ إلى التاج .   ويقولُ وهب:( وإنَّ الإسرائيلي رصدَ الذي يحملُ التاج إلى البيت الحرام يوما ليُعلّقهُ  ، فعمدَ  إليهِ  فقتلهُ ، وأخذ التاج ، وركبَ نجيبا ، ورفعَ رأسهُ في أول الليل ، وأصبحَ الناسُ  فلم يدروا من ذهبَ  بالتاج ، واشتبهَ عليهم  الأمرُ ، حتى أتى الخبرُ اليقينُ من بيت المقدس ) ..فلما تأكدَ ملكُ الجراهمة من هذا أرسلَ  إلى "فاران" ملك بني إسرائيل يطلبُ منهُ ردَّ التاج لأنهُ مُلكٌ للبيتِ العتيق، يُعلّقُ عليه ،  وكان الردُّ غريبا  ولزجا ، وكان  الحوارُ بين الملكين  طريفا ...قال فاران ملك  بني اسرائيل : إني أعلقهُ على  بيت  المقدس  .  قال عمرو ملك الجرهم : إنَّ الله هو العنيّ ، فهل تسلبُ بيتا  لبيت ؟ .  قال فاران : نحن أهل كتاب ، أعلمُ بالله منك . فقال عمرو بن مضاض: أعلمُ الناس بالله من أطاعَهُ  ولم  يعصه ، ولم أرَ  بيتا  يسلبُ بيتا ، ولكن ملكا يسلبُ ملكا .  وهذا الحوار  الذي جرى بينهما  أدَّى بعد فترة  قصيرة إلى معركة ضارية .. دارت حول مكة  وأرباضها، وانتهت بهزيمة بني اسرائيل .  وتعقّبَ عمرو بن مضاض  المهزومين إلى بيت المقدس فاحتلها واسترجع التاج ليعلقه على رتاج الكعبة.
أهل مكة والضمير الشعبي : نحن نرى في الحكاية الثانية هذه  أنه لا وجود ولا ذكر أبدا لتابوت العهد - السكينة ، ولا  للملائكة الذين  يحملونه فوق رؤوس  بني إسرائيل  فيهزمون عدوَّهم ..وكما هو واضح  فالقصَّة  قد تحرَّرت هنا من الكثير من الإسرائيليَّات، التي شابت الحكاية الاولى . ويتضحُ جليًّا في الحوار الذي  وردَ هنا أنَّ أهل مكة  وهم على ( مذهب أهل إسرائيل )  ليسوا  أقلَّ  معرفة وإيمانا  في الله من  بني اسرائيل ، وانَّ مكة ، بيتهم الحرام  لا يقلُّ  أهميَّة  وقداسة  عن  بيت  المقدس  الذي يقدِّسُهُ  اليهودُ ( بنو إسرائيل ) . وجاءَ وصف المعركة كما أوردهُ وهب أو  لعلّهُ ابنُ هشام  في شكل وأسلوب  قصصيٍّ  كما  وصف  المعارك  بين  الفرسان في السير الشعبيَّة وحكايات السير والبطولة ، أن يتفوَّق فارسٌ بحكم  بطولتِهِ ومهارتهِ وشجاعتهِ على فارس آخر أقل منه  في هذا المحال . 
   وربَّما تأخذ الحكايةُ هنا موقفا معاديا  لبني اسرائيل، بحيث تتشابهُ في هذا الصدد مع  كثير من  الحكايات  الشعبيَّة  عامَّة  وألف  ليلة وليلة على  وجه الخصوص.وهنالك سيرة شعبيَّة مشهورة هي سيرة سيف بن ذي يزن قريبة جدًّا في بعض أحداثها  إلى قصَّة عمرو الجرهمي  وأخيه الحارث  والحرب التي  دارت  بينهم  وبين  بني إسرائيل   .    فقصة  سيف بن ذي يزن  نجدُ  في بدايتها الملك  ذا  يزن  الحميري، يخوضُ معركة  على أرض كنعان مع مغتصبيها من بني إسرائيل،تنتهي بانتصارهِ عليهم  وأسر قوَّادهم  وتتعرَّضُ    لهُ إحدى الجميلات  الفاتنات  من بني إسرائيل  وهي قمريّة  لتفتنهُ  وتسحرَهُ بجمالها، فيطلق الأسرى من شعبها  إكراما لها ويتزوَّجها. وتغدرُ به  قمريَّة ، بعد ذلك، حيث تدسُّ  لهُ حسكة مسمومة  في فراشه بعد قضائها في فراشه مدَّة  لا بأس بها اطمأنَّ فيها إليها وأمنَ شرَّها فيموتُ مسموما فتحاولُ قمريّة الفرار، لكن وزير ذي يزن  يلحق بها  ويعيدها  لتاخذ  جزاءَها  فتعلنُ هي ، بدورها أنها قد حملت من الملك وتحمل ابنه منه. فيمهلها مدَّة الحمل، ويتوِّجُ ابنها ملكا وهو في بطنها، فإذا ما وضعتهُ عفا عنها  لترضعَهُ.وبعدها تحاولُ قمريّة إهلاكَ  طفلها  في سلسلة من الحوادث  تذكرها  سيرة " سيف بن ذي يزن "  في  جزئها الأول كمقدمة خياليَّة  وشعبيَّة لمولد بطلها سيف .  وهذه الحكاية  نفسها  بكل  تضاريها  وجزئيَّاتها  تتكرَّر هنا  .  فالملك  عمرو  بن مضاض الجرهمي بعد  أن ينتصر على " فاران" وجيشه من بني  اسرائيل يرسلون إليه امراة منهم اسمها ( بره) بنت شمعون فتفتنه بسحرها وجمالها، وتدسُّ لهُ  حسكة مسمومة ويموت مسموما، ويقبضُ الحارثُ عليها ، فتخبرهُ بقصَّة  حملها ، ثمّ  تلدُ مضاضَ بن عمرو بن مضاض الجرهمي .  وممَّا  لا شكّ فيه أنَّ سيرة سيف بن ذي يزن  قد  تأثّرت بهذا الجزء من الحكاية ، إن لم يكن قد نقل إليها  نقلا ، فيما  نقل من السير الشعبيَّة من الحكايات الشعبيَّة العربيَّة القديمة المتداولة ،مدخلة إيّاها في نسيجها  وسردها الروائي الكبير .
      بعد موت عمرو بن مضاض الجرهمي يتولّى أخوهُ الحارث الملك على مكّة  وينتقم  من  بني إسرائيل . وهنا  تجيىء حكايةُ  تابوتِ  السكينة  لتأكيد حكاية  بني  إسرائيل  على   جرهم  وعملاق ، حيث  أوقعوهُم  في  الزاوية  بالتابوت دون قصد ، وحكاية  التاجر اليهودي الغشاش ، ثم  بعد  ذلك القاتل والسارق ، وحكاية الملك الإسرائيلي الغاصب والمدلس ، ثم حكاية بره بنت شمعون القاتلة والزوجة المحتالة، وفي النهاية تزوير بني اسرائيل للمزامير  ممَّا دنّسها  وأفقد  تابوت السكينة قداسته ، ثم  يسقط  في  يد جيش الجراهمة  فينهبونه ويتعرَّضون  للنقمةِ الإلهيَّة، حيث لم يكونوا  يعرفون قيمته وأهميَّته الدينيَّة ...وهذه الأشياء  والعوامل  تشيرُ إلى  موقف واضح في هذه الحكاية  الثانية التي يوردها " التيجان " لقصَّة الحارث الجرهمي من بني إسرائيل ، ومن الإسرائيليَّات المدسوسة في الحكاياتِ الشعبيَّة العربيَّة القديمة.. ومأساة الحارث وتيهه لا ترد بعد المعركة التي خاضها انتقاما لأخيه الملك،بل تأتي بعد المأساةِ التي دمَّرت حياة مضاض  بن عمرو  ابن أخيه  الذي  أحبَّهُ  كلَّ الحبّ  ورعاهُ كلَّ الرعاية مثل ولده . 
مأساة نادرة : إنَّ مأساة مضاض بن عمرو هي قصَّة  نادرة  في الأدب العربي القديم كلّه، وفي الأدب الشعبي خاصَّة ..ولعلها  وقفة وإطلالة مميَّزة  في الأدب العالمي أيضا..مضاض ابن الملك الراحل أحبَّ ميَّا  ابنة مهلل بن عامر من أشراف جُرهم ...وأسعدَ وأفرحَ هذا الحبُّ أباها، وأسعدَ ايضا عمَّه  الملكَ الحارث الجرهمي . واتفقا على اتمام  زواجهما ، لكنَّ الأقدارَ  تجيىءُ عكس هذا .  فيأتي  شهر رجب  وهو شهر من الأشهر الحرام ، فيتأجَّل  فيه الحديثُ عن الزواج  إلى  إنتهاء هذا الشهر. ويحدثُ أنَّ مضاضا  قد  اعتمرَ وطافَ، وبلغ ذلك  ميَّا  فأقبلت تعتمرُ وتطوفُ  بالبيتِ الحرام  متنكّرة  غيرة على مضاض أن  يتعرَّضَ لهُ مُتعرّض، ويحكي الحارث أنَّ قبيس بن سراج الجُرهمي  من  رهط  حقير  في  جرهم  كان  يهوى  ميّا ، وشاهدها  تعتمرُ وتطوف ، فمضى يطوف وراءَها  ليملأ  نظرَه منها . ويُدخل الحارث الملك  شخصيَّة  جديدة إلى القصَّة  هي  رقيَّة  بنت بهلول  الجُرهمي  والتي  كانت تطوفُ  في هذا اليوم الحارّ ، فتعطشُ عطشا شديدا   وتخاف على نفسها من الموتِ  واستحت أن  تقفَ لتشربَ  من سقاة  البيت ، فلما أبصرت مضاضا نادت به ليسقيها جُرعة ماء ، فناولها الماء ، فرأتهُ  ميّ ، فاشتعلَ قلبُها غيرة ، فسقطت  مغشيًّا عليها وهي ترتعدُ  ولا تدري ما هي فيهِ ، ولمَّا أفاقت  من غيبوبتها  ولَّت إلى منزلها  واشتكت إلى أبيها قائلة :( إنَّ مضاض ابن عمِّي  دعا  قلبي  فأجابهُ ، فلمَّا أجابَهُ  قذفَ  الهوى  خلفَ  النوى )  وبهذه  العبارة الشعريَّة يلخِّصُ الحارثُ الجُرهمي موقف مضاض النفسي ممَّا حدث،ويزيدُ عليه قولها  لأبيها : ( ورأيتُ  أنهُ  يبدّلُ حبًّا  بحبّ، وخطرا بخطر، ولم يبلغ والله خطرالبهلول،مهليل بن عامر ..ولا رقيّة  بنت البهلول ، ميَّا بنت مهليل بن عامر )  .   ويغضبُ ابوها هنا، فالمسألة هنا خرجت من قلب تبدَّل ، إلى مفاضلة ومفاخرة  بين الأصول والأنساب . ولهذا خطره الشديد عند العربي  الفخور بنسبه . ويزيد القصَّة  تعقيدا أنَّ " قبيس بن سراج " أتى ميَّا  فأشعلَ غيرتها  حيث ادَّعى أمامَها  أنهُ  سمعَ  في أثناء  الطواف  شعرا  تقولهُ رقيَّة  لمضاض ،  وشعرا يقولهُ مضاض لرقيَّة عندما كان يسقيها الماء .  وترجعُ للحارث الجُرهمي فيقول : (  فالتمستها حميّة  قول قبيس ، وجعلت تقبلُ بين خيام  الحيّ مرَّة  وتدبرُ مرَّة  أخر ، وهي في ذهول  لا تعلمُ  ما هي فيه ، ثمَّ تقول لأبيها :  نذرتُ  الله  نذرا  يا أبي  لترحلن  غدا  إلى  أهج  ذات الضال   وأنزل  مع جسر بن قين .  ويوافقها أبوها على رأيها ، فترحل ميّ  إلى حيّ أخوالِها  جسر بن قين . ويعلم مضاض  برحيل ميّ وما نقلهُ إفكا  لها  قبيس  فيخرج  طالبا  قبيسا، فيهربُ  قبيس ، ولم  يعرف  أحدٌ  أين  هرب... ولحق مضاض  بحيّ  ميّ  وهم  يرحلون  وحاولَ أن  يثني  ميّا  عن  عزمها على الهجرة ... ويوردُ الحارثُ الجُرهمي في هذا الموقف  الشعر  الذي  دارَ بين مضاض  وميّ ، وهو من أرقّ ما جاءنا  من الشعر الحواري قبل الإسلام . وتصرُّ مَيّ  على موقفها  وترتحلُ  لأرض أخوالِها .  وسارَ مضاض  ومعه  رفيقان يتعقّب  الركب  الراحل  ويلتقي بها مرّة  أخرى عندما  وقف الركبُ ليستريح  بموضع يقالُ  لهُ الحار . فقال مضاض :
( علام  قبستِ  النارَ  يا   أم  غالب         بنار  قبيس   حين  هاجتكِ   نارُهُ
  على  كبد   حرَّى   وأنتِ   عليمةٌ         بغيب  رفيق   لا  يبينُ   ضمائرُهُ 
  سألتكِ  بالرّحمن  لا تجعلي هوًى         عليهِ   وهجرانا ،  وحبُّكِ    جارُهُ
   فتجهَّمت ميّ  وولت غضبى وهي تقول : 
( أبى حسبي من أن يُهانَ وإن يكن         وقد   مدحت    فيه   العداةُ   ذليلا 
  فلمَّا  تساوى الحبُّ  والأمرُ مقبلٌ         عدلتَ   ولم   تظهر   إليَّ   جميلا
  رأيت مكاني حين وليت معرضا         إلى  حسب  البهلول   كان   قليلا )
   ومضت عنهُ ، فقال مضاض لصاحبهِ : والله  لا أشرب بعدها الماء  أبدا ،  واستعطفهُ  صاحباه  ولكنه  أبى ، ومضى  يجولُ  حتى غلبَ  عليه  العطش  فمات  .   ويقولُ الحارث  قاطعا  قصته التي يحكيها  لإياد بن نزار : وكنتُ أحاربُ بني إسرائيل عند  طور سيناء ، فلما رجعتُ من غزواتي، نعيَ  إليّ ،وأصبته ميِّتا، فدفنتهُ في هذه الصخرة التي تسمَّى موطن الموت.ثم يستأنف القصَّة  قائلا : أمّا  ميّ  فقد  لقيت رقيَّة بنت  البهلول ، فحكت  لها  ما حدث  فقالت لها : ظلمته يا ميّ ، بالله ما كان بيني  وبينه قط  سبب  ولا كلمته غير  استسقائي منه الماء ...فندمت " ميّ " على  ما كان  منها  في  أمر مضاض  وقد تأكدت من براءتهِ ( فبينما هي تسأل عنهُ وتلتمس من  لقيه إذ  نعيَ إليها ، فتوارت عن الحيّ ) وبحثت عنها ابنةُ عمِّها سلمى  فوجدتها ساكتتة  تنظر يمينا وشمالا  كأنها جنّت ، وقد  أصابتها  قسوة  منعت  الدموع من عينيها ، وآلت على نفسها  أن لا  تشرب ماءً ، حتى غشيها الموت ، فأوصت  سلمى   أن  يدفنوها إلى جوار حبيبها مضاض. وهنا  تنتهي هذه المأساة التي حكاها الحارث الجرهمي لإياد بن نزار وهم  وقوف على جبال مكّة ، قبل أن يتّجهَ  إلى قبرهِ لينهي مأساةَ  تيهٍ استمرَّ ثلاثمئة عام، وربَّما أن المؤرِّخ  وهبا  أرادَ أن  ينفي  كون سبب غربة  الحارث  ما جاء  في الحكاية  الاولى من  قصَّة رمي  تابوت السكينة  في  مزابل مكّة  وربَّما أرادَ أن يجعلَ من هذه المأساة  الفاجعة  سببا  إنسانيًّا واضحا   في ما  أصابَ  الحارث  بن مضاض  جعلته يترك مكة، ويخرج هائما على وجهه  ليتغرَّب ثلاثمئة  سنة. وعندما  يرجع   بعد التّيه الطويل  كانت هذه  القصَّة  الدراميَّة على  لسانهِ  فيحكيها لإياد  بن نزار الذي حملهُ على جمالهِ إلى قبره ومثواه الأخير .
التّيه للمرَّة الثانية : إنَّ الحكاية الثانية لتغرُّبِ  وتيه الحارث أقرب إلى القصَّة  المتكاملة  منها  إلى السرد  الذي عرفناه  في الحكايات  المجدّدة  في كتاب " التيجان " كله . ويستخدمُ  الكاتبُ هنا  بالإضافة إلى السَّرد المسبوك  التصوير الفنّي . فيلجأ  إلى لغة الحوار من أول القصَّة التي تبدأ بحكاية  إياد  وموت أبيه  وتوزيع ما  يملك على أولاده  فيكون  نصيب إياد  من الميراث تلك الإبل  التي يُكريها للحجيج . ويلتقي  بعدها بالحارث الجُرهمي  ويحملهُ إلى مكة، وعند وصولهما إلى مشارف مكة  يبدأ  الحوار بينهما ، في تجسيد لما يمكن أن نسمّيه حكاية المكان الخرافي فيذكرُ الحارث فيها أسماء الجبال المحيطة بمكة وسبب تسميتها في أثناء مرورهما بها، وترتبط هذه الحكايات  بمعركة جرهم  مع بني اسرائيل ...ولهذا تأتي حكاية هذه المعركة ، وحكاية تابوت السكينة ، وفناء جرهم الاسطوري . وتأتي بعدها  قصّة  مضاض بن عمرو   وميّ عشيقته  عنمدما يسمّي مكان لقائهما ، ومكان مدفنهما ، وتتلو هذه الحكاية  ثروة الجُرهمي  أولا أو  بالأحرى الكنز الكبير الذي عثرَ عليه  إياد في المقبرة التي ساقهُ  وأخذهُ  إليها الملك الحارث  لتكونَ  مقرَّهُ  الأخير ونهاية مطافه .
    ونحنُ  ندخل هنا أيضا في حكايات المكان الجغرافيَّة ، وحكايات  الكنوز المطلسمة المحروسة ، والحكايات الخرافيَّة عن المقابر القديمة ..حيث يدخل إياد  بن مضر والحارث الجرهمي  في مغارة  بعد أن  يرفع الحارث  بقوَّته العظيمة  الخارقة  صخرة عظيمة  تسدُّ  مدخلها ، ويسيران معا  في سرداب  والأفاعي  تصفر حولهما ، والخفافيش  تطير فوقهما ، وعندما  يصلان إلى حجرة صخريَّة واسعة يخرج عليهما  تنين ( أسود أحمر العينين  يجرُّ عرفه  ، ودارَ  وسطَ  الدار  فصارَ كالجبل العظيم ) ...ويتلفت إياد إلى جبل ، وسط الحجرة  من الدرّ  والياقوت  والعقيان  يخطفُ بصرَه  ويسبي  لبَّه ، فيُمسكُ الحارثُ بيدهِ  ، حتى  لا يخطفهُ التنّين ، ويقولُ لهُ  خُذ  وقرَ  جملكَ  من هذا الجبل ، ليسَ غير ، وإلا غلّكَ  التنين ، ويخرجُ قارورة ( الحارث )  يشربُ ماءَها  ثمَّ  يتّجهُ  إلى ناحيةٍ  بالحُجرة   يوجدُ بها أربعةُ  أسرَّة .. ثلاثة  منها عليها  ثلاثةُ رجال ، ويعرِّفهُ الحارث بهم .  فواحدٌ  لمضاض  أبي  الحارث  والثاني  لإبيهِ  جدّ  الحارث  والثالث  لجدِّه الأكبر  .. وبعدها  يرقدُ الحارثُ على السرير الخالي، ويرثي نفسَه  بشعر فيه يتحدث عن  الفناء المحكوم  بهِ على الإنسان مهما طال أجله، ثمَّ  يموت..ويحملُ إياد بن نزار ناقتهُ من الدرّ والياقوت والعقيان ، ويتأمَّلُ في الموتى ، فيرى  فوق كلِّ سرير ورقة تحملُ أبياتا  من الشعر تكرِّرُ  نفس ما قالهُ الحارث بن مضاض عن الموت والفناء ، قبل أن  يشربَ الحارثُ ما  في القارورة  فيموت .  ويخرجُ  إياد من القبر المطلسم  بالحيَّاتِ والتنين  سالما بكنزهِ .. وبعد خروجهِ  من الكهف  لم  يعد  بإمكانهِ الإهتداء  والرجوع إليهِ ، لأنه فقدَ كلَّ ما يرشدهُ إليه، ولم يعد يعرف له موضعا  رغم إغراء الثروة  الضخمة التي تركها وراءه  فيه  وتنتهي هنا صفحة الجُرهمي التائهة  وتبدأ حكايةُ  ثراء إياد بن نزار  التي يحكيها  كلما  سُئِلَ عن  مصدر وسرِّ  ثروته الكبيرة .   وهذه الحكايةُ الثانية  التي يوردها  وهب بن منبه  في " التيجان "  لا  تشير  إلى عنصر الفجيعة الأسطوري ، إلا إشارة المضطرّ لذكرها،من حيث كونها  وردت في سياق الحكاية الاولى كحقيقة من حقائق التاريخ المتناقل  عند العرب عن أحداث ما قبل الإسلام ، وهذا  ما  يدلّ  على وعي  وانتباه  ابن هشام ، ناقل  الكتاب  وراويه  الجديد  بمصدرها الإسرائيلي، وقد تكون من المدسوسات الإسرائيليَّة على أصحاب التفاسير  والسّير  قدّمت  إليهم  في  تضاعيف  الحديث  عن  الامم  البائدة ،  والأسباب التي أدَّت بهم إلى إبادتهم . بيد أنَّ هذه الحكاية الثانية  تحفلُ بزخم إنسانيٍّ بالغ العمق، وبالغ الشاعريَّة، في نفس الوقت،وتحفل الحكايةُ  بهجوم روائيٍّ  فنيٍّ على  بني إسرائيل  وأساليبهم  أفرادا  ونساءً  وملوكا في  وقت واحد  وتبدي عداءَهم  الدائم  لمكّة وأهل مكّة ، سواء كانوا من الجراهمة أو غيرهم  ممَّن تلاهم  من القبائل  في الحياة على أرض مكّة . وإنَّ فكرة  إبادة شعب  كامل  بحدِّ  ذاتها   فكرة  مأساويَّة   شاذّة   فاجعة  لا  يقبلها  الضمير الإنساني . وهذه الحكاية لا تحملُ كلَّ  المبرِّرات الدينيَّة  لإفناء  شعب ، لأنه ليس هناك  رسول يئسَ  من دعوة  الشعب للهداية ، ولا لعنة استنزلها على من كفرَ برسالتهِ..إنما هنا حربٌ بين شعب وشعب، يبادُ فيها المنتصر لكونهِ سخرَ من مقدّسات المهزوم ، رغم  أنَّ السخرية غير مقصودة على الإطلاق  حسب ما هو واضح من مجرى أحداث الحكاية الأولى،ومبرّر تماما  بسرقة التاج المرتبط  بالبيت العتيق  كما هو في الحكاية الثانية ... وجاءت الحكاية الثانية لتقدّمَ مبرِّرا إنسانيًّا للتيه الذي عاشه الحارث الجرهمي .  وتقدّمُ أيضا هذه  الحكايةُ ، مجموعة من الحكايات المتداخلة  المتوالدة على طريقة  ألف ليلة وليلة  في التأليف ، والمتشابكة على طريقة السير الشعبيَّة  العربيَّة  في الصياغة الفنيَّة .. والمرتبطة بالمأثور الشعبي العربي ، على طريقة حكايات الخرافة المستمدَّة من حكايات العشق  ومغامرات البطولة،وأساطير المكان .  وهذه  الحكاية  مرتبطة  بالعبادات  القديمة  والموروث  التاريخي الشعبي ، وبالإسطورة  التفسيريَّة (  تفسير إبادة  جُرهم  وغربة  الحارث )  ومرتبطة  بالأسطورة التعليليَّة  حييث  تعلل لأسماء  جبال  مكّة  وأراضيها، ومرتبطة أيضا بالأسطورة  التاريخيَّة لما  تحتويه من أحداثٍ  قديمة رسَّخت  وعمَّقت  وجودها في العقليَّة  الشعبيَّة العربيَّة  والوجدان الشعبي العربي . وتؤكّدُ هذه الحكايةُ للنقاد الروائيِّين  وجود  القصة العربيَّة  المتكاملة  ذات النسق  الفنّي  الخاص بها ، واللغة الشعريَّة الجميلة  الرائعة  التي تصاغ بها ، كما تستعين  بالتصوير والحوار،والتداعيات إلى جوارالسَّرد التقليدي، وتؤكّدُ ايضا وجود البدايات الأولى للدراما في الفنّ العربي القولي .
   وأريد أن أشيرَ في نهايةِ الدراسة أنَّ هنالك شبها كبيرا في حكاية مضاض  ومَيّ ، مع  الأصول  والأسس  الأولى التي استقى منها  شكسبير  مسرحيَّته "روميو  وجولييت ".  كما  دور القدر  واضح  هنا  ( حلول  الشهر الحرام  وتأجيل الزواج )  وتبدو عوامل  التباهي  والفخر بالنسب  ثمّ  عوامل الغيرة والحسد  وطبيعة الحرّ والعطش التي تسودُ البيئة وترسمُ كلها النهاية الفاجعة  التراجيديَّة لمضاض وميّ،وهي نفس النهاية لروميو وجولييت..التي رسمها شكسبير. والعناصر التي ذكرتها ، في هذا البحث جميعها ترسمُ  سرَّ الغربة التي  حكمت على  الحارث  بن مضاض الجرهمي  بالتيهِ  والتشرُّد  ثلاثمئة عام  بعيدا عن بلادهِ ووطنهِ، لا يعلمُ  أحدٌ  عن مكانهِ .. يقضي كلَّ هذه المدَّة  روحا  تائها في الجزيرة العربيَّة  تنشدُ العزاء حيث  لا عزاء، ثمَّ  ينتهي  به  المطافُ إلى المثوى الحتمي الذي ليس منه مفرّ ، إلى سرير في قبر  بجوار  أسرّة  تحوي رفات  آبائهِ وأجدادهِ من ملوك جرهم الذين حكموا مكّة قديما .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق