ماذا لو كان..... حقيقة؟/ الأب يوسف جزراوي

خرجتُ في وقتٍ كان قرص الشمس قد مال إلى الغروب، والليل أرخى سدوله، ناشرًا نجومه المتشحة بالسواد. لم اخرج في النهار، نزعت عني ثوب الكهنوت، لكي لا يحيط بي الناس ويتكأكأوا عليَّ ولربّما عرفوا ملامحي البغداديّة، وقد آثرتُ أن أغيّر ملابسي الكهنوتية السوداء التي تلازمني منذ عقدين والتي توشحت بها في بغداد. تزينتُ بملابس متبرجة بالوان قوس قزح، اضع على كتفيّ شالاً من قماش الحرير، والصقت شعرًا طويلاً مسترسلاً على رأسي، ورسمتُ لي ذقنًا غيّر ملامح وجهي، انتصبتُ بشموخ استعدادًا للمضي في جولة  بمدينة عُرفت في التاريخ بمدينة السلام، اسير بشوقٍ بِلا هوادة، كقطار يسير ولا يقف في المحطات!.
اتجول بروح عصرتها الهموم البغداديّة والاوجاع العراقيّة. رحلة تكشف خبايا النفس، تابعت سيري ودلّفتُ إلى احد الممرات، وعرفتُ من الناس أنني في "المنطقة الخضراء" ببغداد، تهللت اساريري فقصدت أوّل مبنى، طرقت الباب عدّة مرّات، لكن ليس من مجيب. همستُ في سري: ربّما ليس من أحدٍ في المبنى، ثمّ وقعت على مسمعي اصوات: لا تفتحوا يا حراس .... بلا شك أنه معارض ومتظاهر  شحاذ!.
نكستُ رأسي ومضيتُ نحو بيت أحد اعضاء البرلمان. طرقتُ الباب الموصد بحكمة، فظهر رّجلٌ  يتقدمه كرشه الكبير وراح يصرخ بي: آهٍ وكم آهٍ منكم، ماذا تريد. نحن لا نصرف الرواتب، كلنا فقراء، هاك 10 الالف دينار عراقي وليكفنا الله ازعاجك، واغلق الباب بوجهي منزعجًا!.
لسعني الأسى، ورحتُ أسأل الساسة واصحاب كراسي الحكم عن حال بغداد، فدلّوني إلى قلاعهم وتيجانهم المرصعة باللؤلؤ والمرجان، واشاروا إلى عروشهم الفخمة ومبانيهم الشاهقة التي اعتلوها على حساب الفقراء والابرياء، حسبهم انهم سيؤبدون فيها.
في صباح اليوم التالي سألتُ قادة الحراسات هناك عن عروس الشرق بغداد، فرايتهم مُدججين بالأوسمة والأسلحة واحاطت بهم الحمايات والعساكر من كلّ حدبٍ وصوب.
رمقتُ بنظري أحد القادة العسكريين، في الحال مدَّ يده إلى سلاحه وجرده من جرابه قائلاً: هذه هي.
امعنت النظر في السلاح، وإذا به مخضّب بالدماء.
صرختُ: كلا والف كلا! لأنني عرفتُ بغداد مبشرةً بالسلام وواحة للتسامح ونموذجًا للتعايش والآخاء.
صرخ وردّدوا معه، ارهابي، مجنون، وانهالوا عليَّ ضربًا.
جريتُ هربًا من عنفهم الذي شجّ رأسي وقيحَ جسدي الذي اصبح ينزف دمًا.
سادني احباط كبير، وقررت البحث عن بغداد في دور العبادة بكلّ مسمياتها، فيا هول الصدمة حين وجدتها منهمكة بامور سياسية وقومية وطائفية بحتة. لقد رأيتها منقسمة ترفض الوحدة، فدعوتهم بأن يعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
ـ ابعد عنا ايها الغريب، وقانا الله رأيك. بهذه العبارات زجروني!
أزمعتُ على الرحيل إلى حي الكرادة، وفيما أنا سائر مرّرتُ ببيوتٍ عديدة متشحة بلافتات سوداء، الناس منكوبة، وسمعت صوتًا بل صياحًا من أمّ ثكلى تنعي وحيدها، وأب مفجوع يبكي أبنته المفقودة!
خاب ظني ككلّ المرّات السابقة، اسرعث الخطى، ولكن أين سأذهب في هذه العاصمة الجريحة؟ فكرتُ في الذهاب إلى شارع أبي نؤاس، لأقبع في إحدى حدائقه، محاولاً الاسترخاء لأريح نفسي من عناء المسير. ولكن فظاعة المشاهد التي رأيتها ولسعات الحزن حرمتني من الإغفاءة والراحة. أخذت أصلي حتّى لاحت خيوط الليل.
سمعتُ وقع أقدام رّجلٍ يتقدم صوبّي، حدقتُ به، فقذفني بكلامٍ جارح: أيها الشحاذ ارحل في الحال. ألم تجد مكانًا اخر حتّى تجلس هنا.
جاء ليطرد المساكين من المكان، مُعلنًا بدء الحفل الذي يقيمه أحد الساسة.
شددت الرحال وأنا اتلصص النظر نحو مبنى، وإذا بالساسة  يتراقصون على ايقاع واهتزاز اجساد الراقصات، وهم يدسون النقود في نهودهن!!.
وهنت قدماي واشتعل رأسي شيبًا.  سرتُ على غير هدى حتّى قصدتُ أحد المحلات الفخمة، وسألتُ صاحبهُ التاجر الغني لعلّه يدلّني على بغداد التي اعرفها؟ فأصطحبني الى موضعٍ ليطلعني على ما تكدّس فيه من أموال وذهب وفضة. وراح يفاخر بغناه. في الحال همّ أحد الفقراء بالدخول، كان ينتعل حذاء قديمًا وقدماه متسختان، بل قُلّ قد اسودتا جرّاء السير في الطرقات للتسول، جاء ليرجوه حفنة من الدنانير.
عنّفه الغني، بعد أن امسكه من ياقة دشداشته النتنة: أيها الشحاذون، ألّا خلصنا الله من فقركم، اذهب من هنا وإلّا سلمتك للشرطة.
حلّ الصمتُ المطبق، وخرجتُ من صمتي متفوهًا: لقد عرفتُ العراق والعراقيين اغنياء القلب والنفس والكرامة، سخاؤهم وطيبتهما اهلتهم لمد يد العون لسابع جار. فهل أنت عراقي؟!!.
طرقتُ باب إحدى المكتبات، بحثًا عن بغداد. فأومأ إليّ صاحبها نحو أكداس الكتب قائلاً: ستجدها في بطون هذه المجلدات.
غادرت المكان وانا اترنح في الطرقات حتّى قادتني خطاي إلى جزيرة الأعراس، هناك رأيتُ الشبانّ يفترشون الحدائق بساطًا، يفوح منهم عبق الغزل. تهيبتُ كثيرًا وأنا أسألهم، وكادت الحنجرة تحجم عن النطق، لكنني لملمتُ نفسي مُخاطبًا إياهم: أبحث عن حبيبة تدعى بغداد. فوجدت نفسي في وضع لا أُحسد عليه حين قهقه الجالسون. اجابتني فتاة: هل اضعتها، لعلّها ماتت في الانفجار؟!. علق أحد الشباب: هل تاهت كطفلة؟ وقال آخر: ربّما هي مختبئة في مكانٍ ما؟ أو ركبت البحر وهاجرت؟. أم خطفتها المليشيات أو عصابات داعش؟. هكذا كانوا يُهرّجون ويضحكون كلّهم في وقتٍ واحد!.
توقفتُ لوهلة عن بحثي وخرجت أسير ليلاً واضعًا ذراعي فوق الأخرى بعد أن طفح الحزن في داخلي وغزا اليأس قلبي. تسكعتُ فوق جسور: السنك والجمهوريّة والصرافيّة  والآئمة،  تعبتُ وغفت عينيّ تحت جسر الطابقين.
لسعتني اشعة شمس الصباح، تثاقلت خطواتي حين طالعني منظر أناس كادحين، ينهضون مع بزوغ الفجر على صخب المولدات الكهربائيّة، بعد أن تقضّ مضاجعهم أصوات الانفجارات المدويّة. يستيقظون للذهاب إلى اعمالهم الشاقة، وهم يتثاوبون القهر في سيارات الأجرة، ويساومون التعب ويتحدون الموت.
في هذا الصباح لم يخرج الناس للعمل، بل للمظاهرات. سرتُ في ركابهم ضد فساد ساسة منطقة الخضراء، ابحث عن بغداد وسط الناس، هالني الأمر حين ايقنتُ أننا شعب مغرم بنفاق الحاكم (ليس الجميع لأنني ضد مرض التعميم)، لأن الشعب يثور ضدهم ثمّ يعود  فيصوت لهم!!.
طالعتني في الدروب صور السياسيين على لوحات كبيرة الحجم تشوه مباني بغداد! في الصور رأيتهم يبتسمون أو يضحكون علينا، عيونهم لا ترى ما يدور في شوارع بغداد والعراق من بؤس وموت وتعاسة اقتصادية وإنفلات أمني ودمار إنساني، لا يشعرون بعرق الكادحين ودموع المنكوبين. إنّ أكثر أولئك الساسة لا تخلو شعاراتهم من الكلام عن الشعب الكادح، ولكن هل من بينهم من استيقظ مرّة باكرًا وجاء ليرى بأمّ عينيه بؤس الناس ووجعهم؟!!.
لقد اصابتني دهشة قادتني إلى حد الانبهار وأنا أتأمل منظر الحشود وهي مجتمعة في ساحات بغداد، تتظاهر بالشعارات الرنانة، ضد عصابة تحكمهم بالعبارات الفضاضة. فالشعب الذي ينتخب الفاسدين والمحتالين واللصوص والخونة هو ليس شعبًا ضحية، بل شعباً متواطئاً!.
يا لخيبتي وفشلي وحزني، لقد ذهب بحثي وجهدي سدى، وعندما خاب ظني في العثور على بغداد، اطلقتُ بأعلى صوتي صرخةً قويةً، بحيث دوّت صيحتي في ارجاء بغداد، فحسبها الناس صوت ارهابي يدعو إلى التفجير ، فتشتتَ العباد!
هربتُ معهم وأنا اجر خلفي اذيال الخيبة، وكانت اجراس الكنائس واصوات المأذن وصلوات المندي لخطواتي حُراساً.
حينها صحوت من الحلم على انغام جرس منبه ساعتي، وعرفتُ أنني على سريري في صومعتي وليس في بغداد.

كان حلمًا، بلى والله كان حلمًا. بكيتُ بصمتٍ، لأن بغداد لا تفارقني حتّى في الأحلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق