ديوان ضوء آخر[1] نموذجاً
قد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن ورطة عنترة الشعرية "هل غادر الشعراء من متردم" هي وعي أوليّ بالعلاقة الجدلية بين فعلي الإبداع والتلقي. ولعله ليس من باب المبالغة القول إن ورطة عنترة هذه قائمة أبداً في وجدان الشاعر/ة تؤرقه حتى وهو يقول مع المتنبي "انام ملء جفوني عن شواردها". فقلّ أن نجد شاعراً شاعرة، إلا ويقلقه هَمّ الإتيان بنص مختلف لم يسبقه إليه الأولون. وقلة هم المبدعون الذين لا يهجسون عند إطلاق عمل جديد عما سيكون عليه رد فعل قراء أُشبِعت ذائقتهم الجمالية بهذا الكم الوفير من الاعمال المبدعة التي تفننت في فعل القول ولم تترك زيادة لمستزيد.
يجيب النقد، قديمه وحديثه، على هذا القلق، بالدعوة إلى إنشاء النص الممانع الثري الدلالات. فقديماً قال الجاحظ إن الشعر صياغة و ضرب من التصوير، وعليه بنى المعاصرون وقالوا: إن الصورة المركبة أرجح وزناً وأنفس قيمة من الصورة البسيطة، والصورة الشعرية الجيدة هي التي تكون أقل خطوراً على الذاكرة وأوسع نطاقاً في التخييل .. شرط أن لا تتنافر مع الذوق السليم[2]. وجاء في دلائل الإعجاز للجرجاني: "إذا أتاك (النص) ممثلاً ، فهو في الأكثر يتجلى لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمة في طلبه. وما كان منه ألطف (اكثر غموضاً) كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه أشد. ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له، والاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، وكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف"[3]. وحديثاً نصح غاستون باشلار المبدعين، بالتوجه مباشرة الى الصورة الشعرية، فهي عندما تكون أصيلة قادرة على تجاوز الأزمان والأمكنة والتاريخ[4]. وهي عند سيسل دي لويس رسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة[5]. ونفى الشاعر بول فاليري وجود معنى صحيح للنص ومعنى غير صحيح، فكل حقائق المحتوى تصبح في الفن ظواهر شكلية. ذلك أن المشاعر الجيّاشة، والصراعات الداخلية، بل والأفكار الفلسفية.. لا توجد في الشعر كما هي في الواقع، بل تتجسد في شكل فنيّ يحملها ويعبّر عنها[6]. "الشاعر الحاذق هو الذي يستطيع أن يحقق في نصه بكارة التصوير وبكارة الدلالة؛ فالصورة هي وسيلة الشاعر للتجديد الشعري والتفرد، ويقاس بها نجاحه في إقامة العلاقة المتفردة التي تتجاوز المألوف بتقديم غير المعروف. وأخالني مؤمنة أن شاعرنا اليوم أوفر حظاً من زميله عنترة، فالثراء المعرفي الذي يشهده عصرنا، ومسيرة التحديث التي بدأها خليل مطران بالثورة على أغراض الشعر البدوية واستكملها رواد التجديد بالثورة على القصيدة العامودية، زوّدا الشاعر برصيد مكنّه من تطوير تجربته الشعرية، وتجاوز مأزق "هل غادر الشعراء من متردم". كما أن التحرر من الوزن والقافية فتح المجال للشعراء بتفجير اللغة والذهاب بها الى دلالات تتعدى الشائع المألوف. ولعل أكثر الأشكال الشعرية إفادة من هذه الثورة هي قصيدة النثر. فهي بانفلاتها الكلي من الوزن والقافية استطاعت التركيز على ما في لغة النثر من قيم فنية واستغلتها لتخلق مناخاً "يعبر عن تجربة ومعاناة من خلال صور عريضة تتوافر فيها الشفافية والكثافة في آن واحد، وتعوض انعدام الوزن التقليدي فيها بإيقاعات التوازن والاختلاف والتماثل والتناظر معتمدة على الجملة وتموجاتها الصوتية بموسيقى صوتية تحس ولا تقاس"[7].
وقصيدة النثر التي قاومها الرأي العام الثقافي العربي وحاربها كثير من النقاد العرب عام (1953) عندما تبنتها مجلة الآداب البيروتية، لاقت قبولاً بصعود الشعر الفلسطيني الحديث والمقاوم في بفرعيه: شعر المقاومة في شمال فلسطين وشعر الثورة الفلسطينية في الفترة 1964-1994 وبصعود شعبية شعر نزار قباني في الحب والوطنية[8]. وحسب عز الدين المناصرة، فإن دفقة قصيدة النثر الثالثة جاءت عام (1954) بصدور مجموعة ثلاثون قصيدة لتـوفيـق صايغ. وروادهـا حسب موسوعـة ويكيـبـيديـا الحرّة، أربعة عشر شاعراً تقريباً هم: جبرا إبراهيم جبـرا، توفيق صايغ، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا، أدونيس، أنسي الحاج، فاضل العزاوي، عز الدين المناصرة، سرجون بولص، صلاح فائق، بول شاؤول، سليم بركات، عباس بيضون، بسّام حجّار. وتعثرت مسيرتها لعدة أسباب من بينها تبني مجلة شعر البيـروتيّة لها عام 1954 التي كان رئيس تحريرها على علاقة بمنظمة حرية الثقافة الأمريكية والتي ثبت أنها مؤسسة من مؤسسات المخابرات الأمريكية. ولم يعد الاعتبار لقصيدة النثر إلا مع بوادر ظهور العولمة مطلع تسعينيات القرن العشرين حيث حدث لها الانفجار الكبير تحت شعار ديمقراطية النشر. وصدر منها آلاف المجموعات. وبعد أن كان كتابـها يمتنعون عن المشاركة في مهرجانات الشعر العربية، بدأوا، يشاركون بغزارة لا مثيل لها. وأقيم لها العديد من المهرجانات، وكتبت فيها عشرات الرسائل والأطروحات الجامعية. وهكذا أصبحت قصيدة النثر هي السائدة والمسيطرة في الملاحق الثقافية للصحف والمجلات، ولم تعد مسألة شرعيتها موضع تساؤل[9].
من هذا الفيض الشعري انتقيت لورقتي هذه، ديواناً صدر حديثاً للشاعر اللبناني -الأسترالي، شوقي مسلماني بعنوان لغة الضوء[10].
ما إن ندخل ديوان مسلماني حتى يحضرنا قول الجرجاني السابق المنحاز إلى النص الممانع الذي لا تنفتح مغاليقه إلا لقارئ متانٍ، ذواق بالغريزة. النص الذي يقيم بينه وبين قارئه علاقة اشتهاء متبادل لما يثيره من شعور بالضياع والإرباك (ربما الى حد الملل) ويزعزع قواعده التاريخية والثقافية والنفسية، وكذا وثوقية أذواقه وقيمه وذكرياته، ويؤزم صلته باللغة على حد تعبير رولان بارث[11].
"مِن مكانٍ وفي زمان
بدأتْ قطرةُ الدمّ تدخل في طورٍ أوّل
وتماماً مثلما هذا يسبح
وذاك يركض
وهؤلاء يطيرون وأولئك يزحفون
وما بين الكلّ من تبادل في الأدوار
لأنّ القسوة ولأنّ الرقّة
واليومُ الأوّل
يحمل في أحشائه اليومَ الأخير
من مكان وفي زمان
الموتُ أطلَّ أوّلاً
وهذا من أسباب تسلّطه بهمجيّة
وكلّما اقتربَ ابتعد وكلّما ابتعدَ اقترب".
إنه نص مكثف الصورة، يلمح ولا يصرح، يغري خيالك بتعقب صوره فما أن يستقر ذهنك على تأويل حتى يعقبه تأويل آخر ينقضه أو يعززه دون الإتاحة لك بوضع الأصبع على معنى محدد. باختصار، إنه نص يقول بياضه أكثر مما تقول حروفه وألفاظه. إيماءات بسيطة (بدأت قطرة الدم تدخل يومها الأول. . . الموت أطل اولاً. . . وكلما اقترب ابتعد) تبطن تساؤلاً وجودياً حول العلاقة الجدلية بين الخلق والفناء. ورغم أن ظاهر اللفظ يوحي بالتقريرية وانغلاق المعنى (تماماً... لأن.. كلما) فإن تداعياته منفتحة على عدة تأويلات، فقد يستدعي قارئ/قارئة ما، مقولة سارتر الوجودية: ليس بمستطاع الله ولا الطبيعة البشرية ولا الوجود ولا علم الأديان ولا حتى الفلسفة أن تجيب على الأسئلة الأساسية للوجود[12]، بينما يستدعي آخر/أخرى عبثية المعري، في قصيدته "تعب كلها الحياة"، ليس فقط في موضوعها وفلسفتها الوجودية الحائرة امام الموت والحياة، وأحاسيسها الإنسانية العميقة، وانما أيضاً بأسلوبها البلاغي، وموسيقاها الداخلية الناشئة من طبيعة توالي الحروف ومخارجها. (قارن/ي البيت الأول من قصيدة المعري:
تعب كلها الحياة فلا أعجب إلا من راغب بازدياد
بافتتاحية مسلماني:
من مكانٍ وفي زمان/ بدأت قطرة الدم تدخل طورها الأول
لتستشعر/ي "رنة إعلان وإشارة الى مجال فسيح" في كلا الحالتين[13].
وفي فقرة: "الموتُ أطلَّ أوّلاً . . . وكلّما ابتعدَ اقترب"، استدعاء لما سماه الروائي الجزائري البير كامو بسخافة العالم[14]. وتحفز الثنائيات المتضادة: (يزحف/ يركض)، (الأول/ الأخير)، (القسوة/ الرقة. . .) ثنائيات تختصر نظريات فلسفية من ديانات وحضارات قديمة كمثل: النار والتراب، الخصب والموات، الخير والشر، الجنة والجحيم، العقاب والثواب. . . وقد يذهب الفكر بعيداً صوب جدال المدرستين القدرية والجبرية. وشخصياً، رحلت بي الذاكرة مع عبارة (اليوم الأول يحمل في أحشائه اليوم الأخير) إلى أيام الطفولة يوم لقننا الواعظ الديني ما أرهب طفولتنا: "تذكر يا إنسان أنّك تراب وإلى التراب تعود".
لا يقول النص أي من هذه التأويلات صراحة، وإنما يوحي بها محققاً بذلك جمالية التجاوب حسب ما قدمها لنا فولفغانغ إيزر. فحسب إيزر، قدم نص مسلماني "التشكيل التخطيطي" [15]schematic formation ومن خلاله نتج الموضوع الجمالي، بينما حدث النتاج الفعلي من خلال فعل التحقق. وبمعنى آخر فإن عمل مسلماني قام على دعامتين سماهما إيزر، القطب الفني والقطب الجمالي. الأول هو نص المؤلف والثاني هو التحقق الذي أنجزه القارئ/ة. وفي ضوء هذا التقاطب اتضح ان العمل ذاته لم يكن مطابقا لا للنص ولا لتحققه بل هو واقع في مكان ما بينهما. فإذا به نص فاعل بطبيعته لا يمكن اختزاله لا الى واقعه ولا الى ذاتية القارئ. وعندما مرّ القارئ عبر مختلف وجهات النظر التي يحملها النص وربط الآراء والنماذج بعضها ببعض، جعل العمل يتحرك ويتحرك هو أيضاً معه[16].
نقرأ في ديوان ضوء آخر مزيج من سريالية وحداثة حيث تتكثف العبارة ويستعصي المعنى مقارباً الأحجية (لا مكان لمن لا رأس فيه) كما نقرأ النص الملتزم الواقعي والمباشر. وفي كلا النقيضين ينحاز مسلماني إلى المهمشين، ورغم أن الشاعر يعيش في بيئة غربيّة منذ قرون، فمهمشوه ليسوا من أبناء تلك البيئة. ليسوا المثليين والهيبيين المشردين بالاختيار الذين يقطنون المنتزهات العامة ومحطات القطارات كما في كتابات زملائه الشعراء الأستراليين المتأثرين بالمدرسة النيويوركيّة، وإنما هم فقراء العالم الثالث المسحوقون بالحاجة، الباحثون بالأظفار والأسنان عن مأوى وفرصة أفضل للعيش. المضطهدون في أوطانهم، المساقون الى المنافي قسراً، المسحوقون بآلة الحرب غير المتكافئة. وهؤلاء موجودون في قصيدة مسلماني مرة بطريقة مباشرة: "طبائع الاستبداد"، "أنا أيضاً أحثّكَ لتعترف بجريمة إبادة اليهود الأوروبيين"، "لا ينسى ألن ركمان"، وأخرى بصورة شعرية ثرية الدلالات كما في قصيدة "الوجوه ذاهلة"
"الوجوه ذاهلة/ الحرارة فوق الأربعين
لا قطرةَ ماء/ مشهدٌ يتكرّر
شِباك صيّادي السمك/ في البحار البعيدة
لا تزال ترفع عظاماً بشريّة/ لا نفعَ بعدُ من رفعِ تقارير
للجهات الحكوميّة المعنيّة/ حرائق في الوجوه
من أثر خليط الملح والنفط/ من أثر نفاق العالم
لا تقل أنّي أسأتُ فهمك/ أنّك لا تكره
أنّ القلوب تقسو مرّات/ أنّك تطلق الرصاص
فوق رؤوسهم/ لترويعهم
لجماً للإكسودس/ فقط
قلْ أنّهم/ لا يشبهونك".
تنحو القصيدة منحى إنسنياً[17] يحترم كل ما هو إنساني أينما وجد[18]. تتعاطف مع المهمشين وتغضب على عليائية الأقوياء الذين يدَّعون زيفاً، حرصهم على مصلحة الضعفاء. ورغم أنـها قصيدة غائية، تروج لفكرة وعقيدة، غير أن ضغط الموضوع لم يمنعها من تحقيق الجمالية الشعرية.
هي في المبتدأ ليست من النوع السهل الذي ينقاد للقراءة السريعة، بل مربكة ولا تسير في نمط مستقيم. فجأة ودون سابق تمهيد، تنحرف من مشهد إلى ضده. وإذ يكون الكلام إخباراً ذو لهجة حزينة خفيضة، (وصف لصيادين وعظام بشرية وحرائق ونفاق العالم)، ينقلب فجأة إلى مخاطَب، يعنف ويوبِّخ ويتهم ويدحض ادعاءات. وتتعدد التأويلات. من هو هذا المخاطب المنافق المدعي غيرة على الإنسانية الذي يطلق النار رحمة بالناس وغيرة على مصالحهم، وليمنع عنهم تجربة النفي الجماعي المرير (الإكسودس). وقياساً على نظرية الجشطالت أو التأويل المتسق[19] حيث يكون القارئ/ة حاضراً في النص عند نقطة التقاء الذاكرة والتوقع، فإن تأويل القصيدة يختلف من قارئ لآخر. قد يستدعي القارئ العادي معتمداً على ما يعرفه من سيرة الشاعر الذاتية، إن موضوع القصيدة هو الباخرة تامبا التي منعتها السلطات الأسترالية من الرسو في مياهها الإقليمية وتسببت بموت معظم حمولتها[20]، بينما يحيلها قارئ تاريخاني، إذا صح التعبير، إلى التاريخ إذ ان في صور القصيدة دلالات تخرجها من معادلها المحلي الضيق إلى أفق لامتناهٍ في الزمان والمكان. (المشهد يتكرر) عبارة تحمل القارئ الى عصور بعيدة في التاريخ، إلى مئات الهجرات والمنافي التي عرفتها الإنسانية على مر تاريخها الطويل منذ عصر البداوة إلى يومنا هذا. وتعزز هذه الكونية لفظة إكسودس التي لا تنطبق على بضع عشرات من طالبي اللجوء كما في الباخرة تامبا. وفي قراءة جمالية للقصيدة نكتشف قدرة الشاعر الإبداعية التي مكنته من تضمين كلا الموضوع والأحاسيس التي تربطه بالموضوع. كلا الحقائق ونغمة التجربة. ونتيجة تزاوج الموضوع والإحساس برزت صورة أظهرت شبه كل منهما، حرّضت ذاكرة المتلقي على استحضار النكبة الفلسطينية وما رافقها من تزييف وخداع وطمس للحقيقة. والصورة تغري على القول إن الشاعر ما قصد إلا إلى هذه القضية بالذات.
قد لا يلتفت القارئ إلى قصدية القصيدة، ولكن قوى التخييل عنده على نحو يغلب "اللاوعي على الوعي، والتخيل على التصديق، [تجعله] ينفعل للتخييل إنفعالاً من غير روية لجهة الانبساط أو الانقباض".[21]
* * * *
"الشرارةُ
حظُّها عند ذروة جبلِ المعارِف.
الشرارةُ
تاجٌ على هامةِ جليلِ التراكم
وجليلِ النوع
الرأسُ كما أراه
جهةٌ للاستعداد
جهة لتسجيلِ هيئةِ الحقيقي
وليس الذي يعبر سريعاً
جهةٌ
تنظر بعينين
ذات قدرة
على القطْعِ والوصْل
وعندها الطبول
ليست المسألة في التكافؤ
بل في شرف المحاولة".
يختصر مطلع هذه القصيدة (الشرارةُ/ حظُّها عند ذروة جبلِ المعارِف) نظرية معرفية في الإشراق الشعري ترى ضرورة بناء معرفي واسع وتجربة حياتية ثرية وخيال خلاق وذهن متيقظ وقاد. نظرية كتلك التي شرحها سيسل دي لويس قائلاً: . . . ولكتابة بيت واحد من الشعر على المرء ان يرى مدناً عديدة واناساً واشياء. على المرء أن يتعرف على الحيوانات وأسراب الطيور والإشارات التي تفعلها الأزهار الصغيرة عندما تتفتح للصباح. على المرء أن يعود بفكره إلى أصقاع مجهولة. إلى مصادفات غير متوقعة، وإلى انفعالات توقعها منذ حينن إلى أيام الطفولة التي ما زالت غير واضحة، وإلى الأبوين اللذين جرحنا شعورهما عندما حاولا أن يقدما لنا بعض السرور الذي لم نفهمه .. لا بد من وجود ذكريات من ليالي الحب تختلف الواحدة عن الأخرى، وعويل النساء في المخاض .. لا بد ان يكون المرء قد صاحب اناساً يحتضرون وجالس الموتى في غرفة مفتوحة النوافذ والأصوات تتردد بنوبات. ومع ذلك فلا تكفي الذكريات، فالإنسان ينسى هذه الذكريات عندما تكون كثيرة وعلى المرء ان يملك الصبر لاستعادتها. وعندما تتحول إلى دم في دواخلنا، لنرى ونشير، لا يمكن ان نميز من انفسنا. آنذاك فقط قد يحدث انه في ساعة نادرة جداً تشرق الكلمة الأولى من القصيدة، في وسطها، وتنطلق منها[22].
ليس التكثيف وحده ما يميز هذه القصيدة، فالصور الشعرية المشغولة بدقة صباغ ماهر يجيد تخير أصباغه، ويتدبر أمر مواقعها ومقاديرها وحسن مزجها وترتيبها بطريقة غير مسبوقة، على حد قول الجرجاني، أمنت للقصيدة جدتها وحسن استقبالها عند المتلقي.
الشرارةُ/ حظُّها عند ذروة جبلِ المعارِف.
ففي تكنية (من الكناية) الشاعر عن الفكرة بالشرارة أعطاها قيمة معنوية لا تتمتع بها في الحقيقة. فالفكرة شيء ساكن ينمو على مهل في عتمة الدماغ، بينما الشرارة لماحة، مفاجئة، تنبثق من تحت الرماد الصامت صارخة معلنة عن قدومها، ولو أنه إعلان قصير ولكن له صدى وتجاوبات من الانبهار والتعجب تدوم بعد تلاشيه وتبعث تداعيات تختلف من متلقٍ لآخر. وتظهر دقة الصنعة بتوشية الصورة بلفظة "حظها" التي أخرجت الفكرة (الشرارة) عن وظيفتها الحقيقة لتعطيها معنى تخيليياً، فإذ هي كائن حي، يتعرض لدواعي الحظ لا مجرد شيء ما موجود في مكان ما. ثم يتبع الصورة الثانية صورة ثالثة هي قمة المعرفة، فإذا المعرفة ليست مجرد قيمة معنوية فكرية، وإنما هي شي حسي يدرك باللمس والبصر، له شكل يتألف من قاع وقمة. وقمته هي رأسه، انبل ما فيه، حيث يتربع هذا الشيء الجليل (الفكرة-الشرارة).
لا تخضع الصورة في هذه القصيدة لمنطق الزمان العادي، ولا تمتلك ماضياً انطولوجياً ومعرفياً مكتملاً، بل هي مهيأة باستمرار للانفلات من سيطرة البعد الواحد، فالشرارة بعد ان كانت في الصورة الأولى أمراً عادياً يخضع للحظ، قد يكون أو لا يكون، تبعتها صورة ثانية مجدتها وجعلتها تاجاً لأعلى ما تفتخر فيه الإنسانية جليل التراكم (المعرفي)، وجليل النوع. وفي صورة ثالثة نفى الشاعر ما نسبه للشرارة في الصورتين السابقتين وجعلها رهينة للرأس (الدماغ) الذي يختلف من مبدع إلى آخر وهي لذلك ليست دائماً جليلة وإنما هي محاولة عرضة للفشل والنجاح.
لن نستطيع إخضاع هذه الصورة للمنطق العقلي، وإنما علينا أن نتلقاها "مثل صدى، والصدى ليس مجرد تكرار. فحالما نموضع الصورة يتحتم علينا تخيلها مرة ثانية، لأن الصورة التي لا تفرض على الفكر إعادة تخيلها وتقويمها، لا تنهض إلا على جدول ذهني للرموز، تتماثل داخله الصورة مع الرمز"[23].
* * * * *
أسهب الناقد العربي القديم منذ كان الشعر شفاهة على قيمة البلاغة والفصاحة واسشتهد العرب بعبارة "القتل أنفى للقتل" كدلالة على القول الفصيح البليغ وعرفوها بقولهم إنها: "الإيجاز والاختصار وحذف فضول الكلام، حتى يعبر عن المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة. وهذا الباب من أشهر دلائل الفصاحة وبلاغة الكلام عند أكثر الناس، حتى انهم إنما يستحسنون في كتاب الله تعالى ما كان بهذه الصفة"[24]. وفي ذاكرة مسلماني الجمعية غرفة لهذه الحلية الإبداعية تجلت أكثر ما تجلت في قصائد قصيرة جداً كمثل:
"تدعوه إلى العقل
يدعوك إلى علم الكلام
* * *
القبضةُ
شديدةُ التملّك
وقاسية.
* * *
رحلة
من ذئب
إلى
كلب".
* * *
الحواسُّ
غيرها في المرّة الثانية.
* * *
على قدر العقل يعبر الغد
* * *
للغة مسلماني خاصية معينة، فهو يخرج بألفاظه عن معانيها المألوفة، يقيم علاقة جديدة بين الالفاظ لم يسبقه أحد إليها. وهي مع ذلك ليست مسرفة في الغموض. "رحلة من ذئب إلى كلب". تلاشت صورة الذئب التي نعرفه بها، وتلاشت صورة الكلب وخرجت لفظة رحلة عن معناها المجسد الى معنى عقلي، كأن تكون رحلة انسان خسيس يحاول أن يتسامى فيسقط في الأشد خساسة. وهكذا في بقية الصور اللاحقة، نحس كأنها الفاظ جديدة لم نعهدها من قبل. أصبحت تعني أشياء أخرى قد تختلف من قارئ إلى آخر، فالذئب قد يعني الذكاء وسعة الحيلة عند بعضهم والدناءة والمراوغة عند آخرين. وكذلك الكلب فقد يعني الوفاء للبعض ويعني الذلة لغيرهم.
* * * *
تحكم نصوص ضوء آخر رؤية مجتمعية نقدية تتخفى أحياناً في صورة شعرية ثرية الدلالات، وتبرز أحيانا ملتزمة الأدب المسؤول الذي أراده رئيف خوري دفاعاً عن الحقيقة على اعتبار أن الحقيقة ليست واقع الحال فقط بل هي الحال أيضاً[25].
من هذه الفئة نقرأ قصيدة بعنوان "جورج حبش"، ويبدو أنها كتبت تأبيناً لهذا الزعيم المعروف بإخلاصه للقضية الفلسطينية ونضاله في سبيلها
يغرينا مطلع القصيدة لقراءاتها في مناخات غاستون باشلار مستسلمين للقراءة السعيدة، نقرأ ونعيد فقط ما يرضينا مع قليل من كبرياء القراءة يمتزج بكثير من الانفعال[26]. وإذ ندخل القصيدة بمناخات باشلار هذه نطرب لرنين الصورة، فنتغاضى عن رمزيتها، ولا تعنينا ما تحمله من أبعاد تاريخية ووطنية ونضالية. لا يعنينا ماضي الشاعر ولا دوافع الصورة السيكولوجية ولا تراكماتها السابقة، بل تعنينا الصورة التي تتكلم لغتها الناشئة. الصورة المحكومة بحلم اليقظة الذي يتيح لنا إمكانية الولوج إلى ذواتنا بعمق حيث نستعيد طفولتنا في حمميتها.
"جورج حبش
ورقةُ السنديان الناعمة والجارحة
أوّلُ الشرر وأوّلُ اللهب
الفكرة التي تلت النكبة
سار على خطى السيّد المسيح
في أرض الشريعة وبحر الجليل
كان عذباً كأنهار بلاده
علقماً كناقف الحنظل في قفار اللدّ".
فشجرة السنديان التي تسكن لاوعي الشاعر كرمز للعراقة والصلابة والصمود، أمست غيرها عندما استعادها في حلم اليقظة وعاشها مرة ثانية في امكانياتها. أمست رمز المتناقضين الرقة والقسوة (ورقةُ السنديان الناعمة والجارحة). وجورج حبش ليس شجرة السنديان الرمز المستهلك في الاستعمال الجمالي وإنما هو ورقتها فقط. بهذا أخرج مسلماني صورته من النمطية والمبالغة إلى الحداثة برفق دون ان يبتـرها كلياً عن المتخيل الشائع لها.
فجأة ينقلنا مسلماني من مناخات باشلار إلى مناخات أدب الالتزام في قسمه الرسولي، فتتـراجع القيمة الجمالية للقصيدة لحساب صورتها النفعية بحيث تمسي أشبه بدستور سياسي.
"قال الحكيم جورج حبش:
’لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلّة السائرين فيه‘
’لا عذْر لمن أدرك الفكرة وتخلّى عنها‘".
ومع ذلك تبقى القصيدة محببة لطائفة كبيرة من القراء ترى الأدب ممارسة اجتماعية يلتزم فيها الشاعر بالدفاع عن الحقيقة، التي هي ليست واقع الحال فقط بل هي الحال أيضا كما يجب أن يكون. وتصور الحال كما يجب ان يكون، لا يشير الى نظرية في الأدب بل يشير الى وظيفة الكاتب في تصور أخلاقي للعالم والتصور الأخلاقي يتعامل مع مفهوم الحقيقة، لأن نقيض الحقيقة هو الكذب، والكذب، كما الحقيقة، لا يشرح الممارسات الاجتماعية، والأدب ممارسة اجتماعية مشروطة بجملة من الممارسات الاجتماعية[27].
"’تستطيع طائرات العدوّ
أن تقصف مدننا ومخيّماتنا
أن تقتلَ الأطفالَ والشيوخَ والنساء
لكنّها لن تستطيع
أن تقتل إرادة المواجهة فينا‘
’أنا مسيحيّ المولد
إسلاميُّ التربية، اشتراكيُّ الفكر‘".
وتبقى نصوص ضوء آخر لشوقي مسلماني تجربة شعرية ذات خاصية معينة يمتزج فيها الشاعر الرائي الخلاق الذاهب باللغة إلى أقصى تفجيراتها، بالأديب المسؤول تجاه عروبته وانسانيته ولا يعيبه إن جنح به حسه الوطني نحو الدعائي والمباشر أحيانا ما دام قادراً على لجمه ساعة يشاء.
المصادر والمراجع
الإمام، غادة. جاستون باشلار جماليات الصورة، ط/1، بيروت: التنوير، 2010
الإبراهيم، نوال. " طبيعة الشعر عند حازم القرطاجني"، فصول، مج/6، عدد/1 (أكتوبر- ديسمبر) 1985
إيزر، فولفغانغ, فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب (في الأدب)، ترجمة وتقديم، حميد لحمداني، الجلالي الكدية، فاس: المناهل، 1994
باشلار، غاستون. جمالية المكان، ترجمة غالب هلسا، ط/4، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1996
بوخليط، سعيد. "الظاهرتية الباشلارية أو حيوات الصورة الشعرية"، مدونة غاستون باشلار، الثلاثاء، 8 يوليو، 2014
الجرجاني، عبد القاهر. أسرار البلاغة، قرأه وعلّق عليه، أبو فهر محمود محمد شاكر، بدون طبعة، جدة: دار المدني، بدون تاريخ
حلّاق، محمد راتب. النص والممانعة، بدون طبعة، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999
الخفاجي، ابن سنان. سر الفصاحة، موقع الوراق
دراج، فيصل. "الانعكاس والانعكاس الأدبي"، ألف، عدد/10، (1990)
دي لويس، ســيسل. الصورة الشــعرية، ترجمة، أحمد نصيف الجنابى وآخرين، بغداد: دار الرشيد للنشر، 1982
سعيد، إدوارد. الأنسنية والنقد الديموقراطي، ط/1، ترجمة فواز طرابلسي، بيروت: دار الاداب، 2005
شرتح، عصام. "فاعلية التلقي ومسألة الكفاءة الأدبية من منظور نقدي"، تشرين، 1/7/2007
المناصرة، عز الدين. "إشكالات قصيدة النثر بعد أن هدأت العاصفة"، الكلمة، عدد/109 (مايو 2016)
مسلماني، شوقي. ضوء آخر، بدون طبعة، سدني- أستراليا: دار الفهد للنشر والتوزيع، 2015
ويلك، رينيه، وارين، أوستن. نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، ومراجعة حسام الخطيب، ط/3، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
مراجع أجنبيّة
مواقع الكترونية
[1] شوقي مسلماني، ضوء آخر، بدون طبعة، سدني- أستراليا: دار الفهد للنشر والتوزيع، 2015
وشوقي مسلماني شاعر لبنانيّ من مواليد1957 ، هاجر إلى أستراليا بعد حرب السنتين (1975_1976) صدر له: في الشعر: أوراق العزلة، 1995، حيث الذئب 2002، من نزع وجه الوردة 2005، لكلّ مسافة سكّان أصليّون 2009، محور مائل 2011، قبل الموجة التالية 2013، ضوء آخر 2015. وفي النثرله: كونين لطائف وطرائف كتاب عن حكايا ونوادر قريته في جنوب لبنان 2013، وأحمِرة وحُمُرات 2014 . (معظم كتبه صدرت في استراليا).
[2] محمد راتب حلّاق، النص والممانعة، بدون طبعة، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999، ص 36
[3] عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، قرأه وعلّق عليه، أبو فهر محمود محمد شاكر، بدون طبعة، جدة: دار المدني، بدون تاريخ، ص 139
[4] غادة الإمام، جاستون باشلار جماليات الصورة، ط/1، بيروت: التنوير، 2010
[5] ســيسل دي لويس، الصورة الشــعرية، ترجمة، أحمد نصيف الجنابى وآخرين، بغداد: دار الرشيد للنشر، 1982، ص 23 .
[6] أورده محمد راتب حلاق، "ممانعة النص. . لذة التلقي"، المفتاح، 18 نيسان، 2010، عن: رينيه ويلك وأوستن وارين. نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، ومراجعة حسام الخطيب، ط/3، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1985، ص 419
[8] عز الدين المناصرة ، "إشكالات قصيدة النثر بعد أن هدأت العاصفة"، الكلمة، عدد/109 (مايو 2016)،
[9] المصدر نفسه
[10] شوقي مسلماني، ضوء آخر، بدون طبعة، سدني- أستراليا: دار الفهد للنشر والتوزيع، 2015
[11] عصام شرتح، "فاعلية التلقي ومسألة الكفاءة الأدبية من منظور نقدي"، تشرين، 1/7/2007، نقلاً عن:
قد لا نجافي الحقيقة إذا قلنا إن ورطة عنترة الشعرية "هل غادر الشعراء من متردم" هي وعي أوليّ بالعلاقة الجدلية بين فعلي الإبداع والتلقي. ولعله ليس من باب المبالغة القول إن ورطة عنترة هذه قائمة أبداً في وجدان الشاعر/ة تؤرقه حتى وهو يقول مع المتنبي "انام ملء جفوني عن شواردها". فقلّ أن نجد شاعراً شاعرة، إلا ويقلقه هَمّ الإتيان بنص مختلف لم يسبقه إليه الأولون. وقلة هم المبدعون الذين لا يهجسون عند إطلاق عمل جديد عما سيكون عليه رد فعل قراء أُشبِعت ذائقتهم الجمالية بهذا الكم الوفير من الاعمال المبدعة التي تفننت في فعل القول ولم تترك زيادة لمستزيد.
يجيب النقد، قديمه وحديثه، على هذا القلق، بالدعوة إلى إنشاء النص الممانع الثري الدلالات. فقديماً قال الجاحظ إن الشعر صياغة و ضرب من التصوير، وعليه بنى المعاصرون وقالوا: إن الصورة المركبة أرجح وزناً وأنفس قيمة من الصورة البسيطة، والصورة الشعرية الجيدة هي التي تكون أقل خطوراً على الذاكرة وأوسع نطاقاً في التخييل .. شرط أن لا تتنافر مع الذوق السليم[2]. وجاء في دلائل الإعجاز للجرجاني: "إذا أتاك (النص) ممثلاً ، فهو في الأكثر يتجلى لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له، والهمة في طلبه. وما كان منه ألطف (اكثر غموضاً) كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه أشد. ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له، والاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، وكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف"[3]. وحديثاً نصح غاستون باشلار المبدعين، بالتوجه مباشرة الى الصورة الشعرية، فهي عندما تكون أصيلة قادرة على تجاوز الأزمان والأمكنة والتاريخ[4]. وهي عند سيسل دي لويس رسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة[5]. ونفى الشاعر بول فاليري وجود معنى صحيح للنص ومعنى غير صحيح، فكل حقائق المحتوى تصبح في الفن ظواهر شكلية. ذلك أن المشاعر الجيّاشة، والصراعات الداخلية، بل والأفكار الفلسفية.. لا توجد في الشعر كما هي في الواقع، بل تتجسد في شكل فنيّ يحملها ويعبّر عنها[6]. "الشاعر الحاذق هو الذي يستطيع أن يحقق في نصه بكارة التصوير وبكارة الدلالة؛ فالصورة هي وسيلة الشاعر للتجديد الشعري والتفرد، ويقاس بها نجاحه في إقامة العلاقة المتفردة التي تتجاوز المألوف بتقديم غير المعروف. وأخالني مؤمنة أن شاعرنا اليوم أوفر حظاً من زميله عنترة، فالثراء المعرفي الذي يشهده عصرنا، ومسيرة التحديث التي بدأها خليل مطران بالثورة على أغراض الشعر البدوية واستكملها رواد التجديد بالثورة على القصيدة العامودية، زوّدا الشاعر برصيد مكنّه من تطوير تجربته الشعرية، وتجاوز مأزق "هل غادر الشعراء من متردم". كما أن التحرر من الوزن والقافية فتح المجال للشعراء بتفجير اللغة والذهاب بها الى دلالات تتعدى الشائع المألوف. ولعل أكثر الأشكال الشعرية إفادة من هذه الثورة هي قصيدة النثر. فهي بانفلاتها الكلي من الوزن والقافية استطاعت التركيز على ما في لغة النثر من قيم فنية واستغلتها لتخلق مناخاً "يعبر عن تجربة ومعاناة من خلال صور عريضة تتوافر فيها الشفافية والكثافة في آن واحد، وتعوض انعدام الوزن التقليدي فيها بإيقاعات التوازن والاختلاف والتماثل والتناظر معتمدة على الجملة وتموجاتها الصوتية بموسيقى صوتية تحس ولا تقاس"[7].
وقصيدة النثر التي قاومها الرأي العام الثقافي العربي وحاربها كثير من النقاد العرب عام (1953) عندما تبنتها مجلة الآداب البيروتية، لاقت قبولاً بصعود الشعر الفلسطيني الحديث والمقاوم في بفرعيه: شعر المقاومة في شمال فلسطين وشعر الثورة الفلسطينية في الفترة 1964-1994 وبصعود شعبية شعر نزار قباني في الحب والوطنية[8]. وحسب عز الدين المناصرة، فإن دفقة قصيدة النثر الثالثة جاءت عام (1954) بصدور مجموعة ثلاثون قصيدة لتـوفيـق صايغ. وروادهـا حسب موسوعـة ويكيـبـيديـا الحرّة، أربعة عشر شاعراً تقريباً هم: جبرا إبراهيم جبـرا، توفيق صايغ، محمد الماغوط، شوقي أبي شقرا، أدونيس، أنسي الحاج، فاضل العزاوي، عز الدين المناصرة، سرجون بولص، صلاح فائق، بول شاؤول، سليم بركات، عباس بيضون، بسّام حجّار. وتعثرت مسيرتها لعدة أسباب من بينها تبني مجلة شعر البيـروتيّة لها عام 1954 التي كان رئيس تحريرها على علاقة بمنظمة حرية الثقافة الأمريكية والتي ثبت أنها مؤسسة من مؤسسات المخابرات الأمريكية. ولم يعد الاعتبار لقصيدة النثر إلا مع بوادر ظهور العولمة مطلع تسعينيات القرن العشرين حيث حدث لها الانفجار الكبير تحت شعار ديمقراطية النشر. وصدر منها آلاف المجموعات. وبعد أن كان كتابـها يمتنعون عن المشاركة في مهرجانات الشعر العربية، بدأوا، يشاركون بغزارة لا مثيل لها. وأقيم لها العديد من المهرجانات، وكتبت فيها عشرات الرسائل والأطروحات الجامعية. وهكذا أصبحت قصيدة النثر هي السائدة والمسيطرة في الملاحق الثقافية للصحف والمجلات، ولم تعد مسألة شرعيتها موضع تساؤل[9].
من هذا الفيض الشعري انتقيت لورقتي هذه، ديواناً صدر حديثاً للشاعر اللبناني -الأسترالي، شوقي مسلماني بعنوان لغة الضوء[10].
ما إن ندخل ديوان مسلماني حتى يحضرنا قول الجرجاني السابق المنحاز إلى النص الممانع الذي لا تنفتح مغاليقه إلا لقارئ متانٍ، ذواق بالغريزة. النص الذي يقيم بينه وبين قارئه علاقة اشتهاء متبادل لما يثيره من شعور بالضياع والإرباك (ربما الى حد الملل) ويزعزع قواعده التاريخية والثقافية والنفسية، وكذا وثوقية أذواقه وقيمه وذكرياته، ويؤزم صلته باللغة على حد تعبير رولان بارث[11].
"مِن مكانٍ وفي زمان
بدأتْ قطرةُ الدمّ تدخل في طورٍ أوّل
وتماماً مثلما هذا يسبح
وذاك يركض
وهؤلاء يطيرون وأولئك يزحفون
وما بين الكلّ من تبادل في الأدوار
لأنّ القسوة ولأنّ الرقّة
واليومُ الأوّل
يحمل في أحشائه اليومَ الأخير
من مكان وفي زمان
الموتُ أطلَّ أوّلاً
وهذا من أسباب تسلّطه بهمجيّة
وكلّما اقتربَ ابتعد وكلّما ابتعدَ اقترب".
إنه نص مكثف الصورة، يلمح ولا يصرح، يغري خيالك بتعقب صوره فما أن يستقر ذهنك على تأويل حتى يعقبه تأويل آخر ينقضه أو يعززه دون الإتاحة لك بوضع الأصبع على معنى محدد. باختصار، إنه نص يقول بياضه أكثر مما تقول حروفه وألفاظه. إيماءات بسيطة (بدأت قطرة الدم تدخل يومها الأول. . . الموت أطل اولاً. . . وكلما اقترب ابتعد) تبطن تساؤلاً وجودياً حول العلاقة الجدلية بين الخلق والفناء. ورغم أن ظاهر اللفظ يوحي بالتقريرية وانغلاق المعنى (تماماً... لأن.. كلما) فإن تداعياته منفتحة على عدة تأويلات، فقد يستدعي قارئ/قارئة ما، مقولة سارتر الوجودية: ليس بمستطاع الله ولا الطبيعة البشرية ولا الوجود ولا علم الأديان ولا حتى الفلسفة أن تجيب على الأسئلة الأساسية للوجود[12]، بينما يستدعي آخر/أخرى عبثية المعري، في قصيدته "تعب كلها الحياة"، ليس فقط في موضوعها وفلسفتها الوجودية الحائرة امام الموت والحياة، وأحاسيسها الإنسانية العميقة، وانما أيضاً بأسلوبها البلاغي، وموسيقاها الداخلية الناشئة من طبيعة توالي الحروف ومخارجها. (قارن/ي البيت الأول من قصيدة المعري:
تعب كلها الحياة فلا أعجب إلا من راغب بازدياد
بافتتاحية مسلماني:
من مكانٍ وفي زمان/ بدأت قطرة الدم تدخل طورها الأول
لتستشعر/ي "رنة إعلان وإشارة الى مجال فسيح" في كلا الحالتين[13].
وفي فقرة: "الموتُ أطلَّ أوّلاً . . . وكلّما ابتعدَ اقترب"، استدعاء لما سماه الروائي الجزائري البير كامو بسخافة العالم[14]. وتحفز الثنائيات المتضادة: (يزحف/ يركض)، (الأول/ الأخير)، (القسوة/ الرقة. . .) ثنائيات تختصر نظريات فلسفية من ديانات وحضارات قديمة كمثل: النار والتراب، الخصب والموات، الخير والشر، الجنة والجحيم، العقاب والثواب. . . وقد يذهب الفكر بعيداً صوب جدال المدرستين القدرية والجبرية. وشخصياً، رحلت بي الذاكرة مع عبارة (اليوم الأول يحمل في أحشائه اليوم الأخير) إلى أيام الطفولة يوم لقننا الواعظ الديني ما أرهب طفولتنا: "تذكر يا إنسان أنّك تراب وإلى التراب تعود".
لا يقول النص أي من هذه التأويلات صراحة، وإنما يوحي بها محققاً بذلك جمالية التجاوب حسب ما قدمها لنا فولفغانغ إيزر. فحسب إيزر، قدم نص مسلماني "التشكيل التخطيطي" [15]schematic formation ومن خلاله نتج الموضوع الجمالي، بينما حدث النتاج الفعلي من خلال فعل التحقق. وبمعنى آخر فإن عمل مسلماني قام على دعامتين سماهما إيزر، القطب الفني والقطب الجمالي. الأول هو نص المؤلف والثاني هو التحقق الذي أنجزه القارئ/ة. وفي ضوء هذا التقاطب اتضح ان العمل ذاته لم يكن مطابقا لا للنص ولا لتحققه بل هو واقع في مكان ما بينهما. فإذا به نص فاعل بطبيعته لا يمكن اختزاله لا الى واقعه ولا الى ذاتية القارئ. وعندما مرّ القارئ عبر مختلف وجهات النظر التي يحملها النص وربط الآراء والنماذج بعضها ببعض، جعل العمل يتحرك ويتحرك هو أيضاً معه[16].
نقرأ في ديوان ضوء آخر مزيج من سريالية وحداثة حيث تتكثف العبارة ويستعصي المعنى مقارباً الأحجية (لا مكان لمن لا رأس فيه) كما نقرأ النص الملتزم الواقعي والمباشر. وفي كلا النقيضين ينحاز مسلماني إلى المهمشين، ورغم أن الشاعر يعيش في بيئة غربيّة منذ قرون، فمهمشوه ليسوا من أبناء تلك البيئة. ليسوا المثليين والهيبيين المشردين بالاختيار الذين يقطنون المنتزهات العامة ومحطات القطارات كما في كتابات زملائه الشعراء الأستراليين المتأثرين بالمدرسة النيويوركيّة، وإنما هم فقراء العالم الثالث المسحوقون بالحاجة، الباحثون بالأظفار والأسنان عن مأوى وفرصة أفضل للعيش. المضطهدون في أوطانهم، المساقون الى المنافي قسراً، المسحوقون بآلة الحرب غير المتكافئة. وهؤلاء موجودون في قصيدة مسلماني مرة بطريقة مباشرة: "طبائع الاستبداد"، "أنا أيضاً أحثّكَ لتعترف بجريمة إبادة اليهود الأوروبيين"، "لا ينسى ألن ركمان"، وأخرى بصورة شعرية ثرية الدلالات كما في قصيدة "الوجوه ذاهلة"
"الوجوه ذاهلة/ الحرارة فوق الأربعين
لا قطرةَ ماء/ مشهدٌ يتكرّر
شِباك صيّادي السمك/ في البحار البعيدة
لا تزال ترفع عظاماً بشريّة/ لا نفعَ بعدُ من رفعِ تقارير
للجهات الحكوميّة المعنيّة/ حرائق في الوجوه
من أثر خليط الملح والنفط/ من أثر نفاق العالم
لا تقل أنّي أسأتُ فهمك/ أنّك لا تكره
أنّ القلوب تقسو مرّات/ أنّك تطلق الرصاص
فوق رؤوسهم/ لترويعهم
لجماً للإكسودس/ فقط
قلْ أنّهم/ لا يشبهونك".
تنحو القصيدة منحى إنسنياً[17] يحترم كل ما هو إنساني أينما وجد[18]. تتعاطف مع المهمشين وتغضب على عليائية الأقوياء الذين يدَّعون زيفاً، حرصهم على مصلحة الضعفاء. ورغم أنـها قصيدة غائية، تروج لفكرة وعقيدة، غير أن ضغط الموضوع لم يمنعها من تحقيق الجمالية الشعرية.
هي في المبتدأ ليست من النوع السهل الذي ينقاد للقراءة السريعة، بل مربكة ولا تسير في نمط مستقيم. فجأة ودون سابق تمهيد، تنحرف من مشهد إلى ضده. وإذ يكون الكلام إخباراً ذو لهجة حزينة خفيضة، (وصف لصيادين وعظام بشرية وحرائق ونفاق العالم)، ينقلب فجأة إلى مخاطَب، يعنف ويوبِّخ ويتهم ويدحض ادعاءات. وتتعدد التأويلات. من هو هذا المخاطب المنافق المدعي غيرة على الإنسانية الذي يطلق النار رحمة بالناس وغيرة على مصالحهم، وليمنع عنهم تجربة النفي الجماعي المرير (الإكسودس). وقياساً على نظرية الجشطالت أو التأويل المتسق[19] حيث يكون القارئ/ة حاضراً في النص عند نقطة التقاء الذاكرة والتوقع، فإن تأويل القصيدة يختلف من قارئ لآخر. قد يستدعي القارئ العادي معتمداً على ما يعرفه من سيرة الشاعر الذاتية، إن موضوع القصيدة هو الباخرة تامبا التي منعتها السلطات الأسترالية من الرسو في مياهها الإقليمية وتسببت بموت معظم حمولتها[20]، بينما يحيلها قارئ تاريخاني، إذا صح التعبير، إلى التاريخ إذ ان في صور القصيدة دلالات تخرجها من معادلها المحلي الضيق إلى أفق لامتناهٍ في الزمان والمكان. (المشهد يتكرر) عبارة تحمل القارئ الى عصور بعيدة في التاريخ، إلى مئات الهجرات والمنافي التي عرفتها الإنسانية على مر تاريخها الطويل منذ عصر البداوة إلى يومنا هذا. وتعزز هذه الكونية لفظة إكسودس التي لا تنطبق على بضع عشرات من طالبي اللجوء كما في الباخرة تامبا. وفي قراءة جمالية للقصيدة نكتشف قدرة الشاعر الإبداعية التي مكنته من تضمين كلا الموضوع والأحاسيس التي تربطه بالموضوع. كلا الحقائق ونغمة التجربة. ونتيجة تزاوج الموضوع والإحساس برزت صورة أظهرت شبه كل منهما، حرّضت ذاكرة المتلقي على استحضار النكبة الفلسطينية وما رافقها من تزييف وخداع وطمس للحقيقة. والصورة تغري على القول إن الشاعر ما قصد إلا إلى هذه القضية بالذات.
قد لا يلتفت القارئ إلى قصدية القصيدة، ولكن قوى التخييل عنده على نحو يغلب "اللاوعي على الوعي، والتخيل على التصديق، [تجعله] ينفعل للتخييل إنفعالاً من غير روية لجهة الانبساط أو الانقباض".[21]
* * * *
"الشرارةُ
حظُّها عند ذروة جبلِ المعارِف.
الشرارةُ
تاجٌ على هامةِ جليلِ التراكم
وجليلِ النوع
الرأسُ كما أراه
جهةٌ للاستعداد
جهة لتسجيلِ هيئةِ الحقيقي
وليس الذي يعبر سريعاً
جهةٌ
تنظر بعينين
ذات قدرة
على القطْعِ والوصْل
وعندها الطبول
ليست المسألة في التكافؤ
بل في شرف المحاولة".
يختصر مطلع هذه القصيدة (الشرارةُ/ حظُّها عند ذروة جبلِ المعارِف) نظرية معرفية في الإشراق الشعري ترى ضرورة بناء معرفي واسع وتجربة حياتية ثرية وخيال خلاق وذهن متيقظ وقاد. نظرية كتلك التي شرحها سيسل دي لويس قائلاً: . . . ولكتابة بيت واحد من الشعر على المرء ان يرى مدناً عديدة واناساً واشياء. على المرء أن يتعرف على الحيوانات وأسراب الطيور والإشارات التي تفعلها الأزهار الصغيرة عندما تتفتح للصباح. على المرء أن يعود بفكره إلى أصقاع مجهولة. إلى مصادفات غير متوقعة، وإلى انفعالات توقعها منذ حينن إلى أيام الطفولة التي ما زالت غير واضحة، وإلى الأبوين اللذين جرحنا شعورهما عندما حاولا أن يقدما لنا بعض السرور الذي لم نفهمه .. لا بد من وجود ذكريات من ليالي الحب تختلف الواحدة عن الأخرى، وعويل النساء في المخاض .. لا بد ان يكون المرء قد صاحب اناساً يحتضرون وجالس الموتى في غرفة مفتوحة النوافذ والأصوات تتردد بنوبات. ومع ذلك فلا تكفي الذكريات، فالإنسان ينسى هذه الذكريات عندما تكون كثيرة وعلى المرء ان يملك الصبر لاستعادتها. وعندما تتحول إلى دم في دواخلنا، لنرى ونشير، لا يمكن ان نميز من انفسنا. آنذاك فقط قد يحدث انه في ساعة نادرة جداً تشرق الكلمة الأولى من القصيدة، في وسطها، وتنطلق منها[22].
ليس التكثيف وحده ما يميز هذه القصيدة، فالصور الشعرية المشغولة بدقة صباغ ماهر يجيد تخير أصباغه، ويتدبر أمر مواقعها ومقاديرها وحسن مزجها وترتيبها بطريقة غير مسبوقة، على حد قول الجرجاني، أمنت للقصيدة جدتها وحسن استقبالها عند المتلقي.
الشرارةُ/ حظُّها عند ذروة جبلِ المعارِف.
ففي تكنية (من الكناية) الشاعر عن الفكرة بالشرارة أعطاها قيمة معنوية لا تتمتع بها في الحقيقة. فالفكرة شيء ساكن ينمو على مهل في عتمة الدماغ، بينما الشرارة لماحة، مفاجئة، تنبثق من تحت الرماد الصامت صارخة معلنة عن قدومها، ولو أنه إعلان قصير ولكن له صدى وتجاوبات من الانبهار والتعجب تدوم بعد تلاشيه وتبعث تداعيات تختلف من متلقٍ لآخر. وتظهر دقة الصنعة بتوشية الصورة بلفظة "حظها" التي أخرجت الفكرة (الشرارة) عن وظيفتها الحقيقة لتعطيها معنى تخيليياً، فإذ هي كائن حي، يتعرض لدواعي الحظ لا مجرد شيء ما موجود في مكان ما. ثم يتبع الصورة الثانية صورة ثالثة هي قمة المعرفة، فإذا المعرفة ليست مجرد قيمة معنوية فكرية، وإنما هي شي حسي يدرك باللمس والبصر، له شكل يتألف من قاع وقمة. وقمته هي رأسه، انبل ما فيه، حيث يتربع هذا الشيء الجليل (الفكرة-الشرارة).
لا تخضع الصورة في هذه القصيدة لمنطق الزمان العادي، ولا تمتلك ماضياً انطولوجياً ومعرفياً مكتملاً، بل هي مهيأة باستمرار للانفلات من سيطرة البعد الواحد، فالشرارة بعد ان كانت في الصورة الأولى أمراً عادياً يخضع للحظ، قد يكون أو لا يكون، تبعتها صورة ثانية مجدتها وجعلتها تاجاً لأعلى ما تفتخر فيه الإنسانية جليل التراكم (المعرفي)، وجليل النوع. وفي صورة ثالثة نفى الشاعر ما نسبه للشرارة في الصورتين السابقتين وجعلها رهينة للرأس (الدماغ) الذي يختلف من مبدع إلى آخر وهي لذلك ليست دائماً جليلة وإنما هي محاولة عرضة للفشل والنجاح.
لن نستطيع إخضاع هذه الصورة للمنطق العقلي، وإنما علينا أن نتلقاها "مثل صدى، والصدى ليس مجرد تكرار. فحالما نموضع الصورة يتحتم علينا تخيلها مرة ثانية، لأن الصورة التي لا تفرض على الفكر إعادة تخيلها وتقويمها، لا تنهض إلا على جدول ذهني للرموز، تتماثل داخله الصورة مع الرمز"[23].
* * * * *
أسهب الناقد العربي القديم منذ كان الشعر شفاهة على قيمة البلاغة والفصاحة واسشتهد العرب بعبارة "القتل أنفى للقتل" كدلالة على القول الفصيح البليغ وعرفوها بقولهم إنها: "الإيجاز والاختصار وحذف فضول الكلام، حتى يعبر عن المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة. وهذا الباب من أشهر دلائل الفصاحة وبلاغة الكلام عند أكثر الناس، حتى انهم إنما يستحسنون في كتاب الله تعالى ما كان بهذه الصفة"[24]. وفي ذاكرة مسلماني الجمعية غرفة لهذه الحلية الإبداعية تجلت أكثر ما تجلت في قصائد قصيرة جداً كمثل:
"تدعوه إلى العقل
يدعوك إلى علم الكلام
* * *
القبضةُ
شديدةُ التملّك
وقاسية.
* * *
رحلة
من ذئب
إلى
كلب".
* * *
الحواسُّ
غيرها في المرّة الثانية.
* * *
على قدر العقل يعبر الغد
* * *
للغة مسلماني خاصية معينة، فهو يخرج بألفاظه عن معانيها المألوفة، يقيم علاقة جديدة بين الالفاظ لم يسبقه أحد إليها. وهي مع ذلك ليست مسرفة في الغموض. "رحلة من ذئب إلى كلب". تلاشت صورة الذئب التي نعرفه بها، وتلاشت صورة الكلب وخرجت لفظة رحلة عن معناها المجسد الى معنى عقلي، كأن تكون رحلة انسان خسيس يحاول أن يتسامى فيسقط في الأشد خساسة. وهكذا في بقية الصور اللاحقة، نحس كأنها الفاظ جديدة لم نعهدها من قبل. أصبحت تعني أشياء أخرى قد تختلف من قارئ إلى آخر، فالذئب قد يعني الذكاء وسعة الحيلة عند بعضهم والدناءة والمراوغة عند آخرين. وكذلك الكلب فقد يعني الوفاء للبعض ويعني الذلة لغيرهم.
* * * *
تحكم نصوص ضوء آخر رؤية مجتمعية نقدية تتخفى أحياناً في صورة شعرية ثرية الدلالات، وتبرز أحيانا ملتزمة الأدب المسؤول الذي أراده رئيف خوري دفاعاً عن الحقيقة على اعتبار أن الحقيقة ليست واقع الحال فقط بل هي الحال أيضاً[25].
من هذه الفئة نقرأ قصيدة بعنوان "جورج حبش"، ويبدو أنها كتبت تأبيناً لهذا الزعيم المعروف بإخلاصه للقضية الفلسطينية ونضاله في سبيلها
يغرينا مطلع القصيدة لقراءاتها في مناخات غاستون باشلار مستسلمين للقراءة السعيدة، نقرأ ونعيد فقط ما يرضينا مع قليل من كبرياء القراءة يمتزج بكثير من الانفعال[26]. وإذ ندخل القصيدة بمناخات باشلار هذه نطرب لرنين الصورة، فنتغاضى عن رمزيتها، ولا تعنينا ما تحمله من أبعاد تاريخية ووطنية ونضالية. لا يعنينا ماضي الشاعر ولا دوافع الصورة السيكولوجية ولا تراكماتها السابقة، بل تعنينا الصورة التي تتكلم لغتها الناشئة. الصورة المحكومة بحلم اليقظة الذي يتيح لنا إمكانية الولوج إلى ذواتنا بعمق حيث نستعيد طفولتنا في حمميتها.
"جورج حبش
ورقةُ السنديان الناعمة والجارحة
أوّلُ الشرر وأوّلُ اللهب
الفكرة التي تلت النكبة
سار على خطى السيّد المسيح
في أرض الشريعة وبحر الجليل
كان عذباً كأنهار بلاده
علقماً كناقف الحنظل في قفار اللدّ".
فشجرة السنديان التي تسكن لاوعي الشاعر كرمز للعراقة والصلابة والصمود، أمست غيرها عندما استعادها في حلم اليقظة وعاشها مرة ثانية في امكانياتها. أمست رمز المتناقضين الرقة والقسوة (ورقةُ السنديان الناعمة والجارحة). وجورج حبش ليس شجرة السنديان الرمز المستهلك في الاستعمال الجمالي وإنما هو ورقتها فقط. بهذا أخرج مسلماني صورته من النمطية والمبالغة إلى الحداثة برفق دون ان يبتـرها كلياً عن المتخيل الشائع لها.
فجأة ينقلنا مسلماني من مناخات باشلار إلى مناخات أدب الالتزام في قسمه الرسولي، فتتـراجع القيمة الجمالية للقصيدة لحساب صورتها النفعية بحيث تمسي أشبه بدستور سياسي.
"قال الحكيم جورج حبش:
’لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلّة السائرين فيه‘
’لا عذْر لمن أدرك الفكرة وتخلّى عنها‘".
ومع ذلك تبقى القصيدة محببة لطائفة كبيرة من القراء ترى الأدب ممارسة اجتماعية يلتزم فيها الشاعر بالدفاع عن الحقيقة، التي هي ليست واقع الحال فقط بل هي الحال أيضا كما يجب أن يكون. وتصور الحال كما يجب ان يكون، لا يشير الى نظرية في الأدب بل يشير الى وظيفة الكاتب في تصور أخلاقي للعالم والتصور الأخلاقي يتعامل مع مفهوم الحقيقة، لأن نقيض الحقيقة هو الكذب، والكذب، كما الحقيقة، لا يشرح الممارسات الاجتماعية، والأدب ممارسة اجتماعية مشروطة بجملة من الممارسات الاجتماعية[27].
"’تستطيع طائرات العدوّ
أن تقصف مدننا ومخيّماتنا
أن تقتلَ الأطفالَ والشيوخَ والنساء
لكنّها لن تستطيع
أن تقتل إرادة المواجهة فينا‘
’أنا مسيحيّ المولد
إسلاميُّ التربية، اشتراكيُّ الفكر‘".
وتبقى نصوص ضوء آخر لشوقي مسلماني تجربة شعرية ذات خاصية معينة يمتزج فيها الشاعر الرائي الخلاق الذاهب باللغة إلى أقصى تفجيراتها، بالأديب المسؤول تجاه عروبته وانسانيته ولا يعيبه إن جنح به حسه الوطني نحو الدعائي والمباشر أحيانا ما دام قادراً على لجمه ساعة يشاء.
المصادر والمراجع
الإمام، غادة. جاستون باشلار جماليات الصورة، ط/1، بيروت: التنوير، 2010
الإبراهيم، نوال. " طبيعة الشعر عند حازم القرطاجني"، فصول، مج/6، عدد/1 (أكتوبر- ديسمبر) 1985
إيزر، فولفغانغ, فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب (في الأدب)، ترجمة وتقديم، حميد لحمداني، الجلالي الكدية، فاس: المناهل، 1994
باشلار، غاستون. جمالية المكان، ترجمة غالب هلسا، ط/4، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1996
بوخليط، سعيد. "الظاهرتية الباشلارية أو حيوات الصورة الشعرية"، مدونة غاستون باشلار، الثلاثاء، 8 يوليو، 2014
الجرجاني، عبد القاهر. أسرار البلاغة، قرأه وعلّق عليه، أبو فهر محمود محمد شاكر، بدون طبعة، جدة: دار المدني، بدون تاريخ
حلّاق، محمد راتب. النص والممانعة، بدون طبعة، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999
الخفاجي، ابن سنان. سر الفصاحة، موقع الوراق
دراج، فيصل. "الانعكاس والانعكاس الأدبي"، ألف، عدد/10، (1990)
دي لويس، ســيسل. الصورة الشــعرية، ترجمة، أحمد نصيف الجنابى وآخرين، بغداد: دار الرشيد للنشر، 1982
سعيد، إدوارد. الأنسنية والنقد الديموقراطي، ط/1، ترجمة فواز طرابلسي، بيروت: دار الاداب، 2005
شرتح، عصام. "فاعلية التلقي ومسألة الكفاءة الأدبية من منظور نقدي"، تشرين، 1/7/2007
المناصرة، عز الدين. "إشكالات قصيدة النثر بعد أن هدأت العاصفة"، الكلمة، عدد/109 (مايو 2016)
مسلماني، شوقي. ضوء آخر، بدون طبعة، سدني- أستراليا: دار الفهد للنشر والتوزيع، 2015
ويلك، رينيه، وارين، أوستن. نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، ومراجعة حسام الخطيب، ط/3، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
مراجع أجنبيّة
Barthes, Rolland. Le Plaisir du Texte, Seuil: 1982
Duckworth, Alistair M., “Review, Wolfgang Iser, The Act of Reading: A Theory of Aesthetic Response”, Nineteenth-Century Fiction, Vol. 34, No. 3 (Dec., 1979), University of California Press pp. 337-343, qout. P. 337
Malik, Kenan. “A Book in Progress [part 14] Sarter and the Aguish of Freedom”, kinanmalek.word press.com, 25 March 2012
Pire, François, De l'imagination Poétique dans L'œuvre de Gaston Bachelard, Librairie José Corti, 1967
Edward Said, Out of Place: A Memoir, New York: Alfred A Knoof, 1999
مواقع الكترونية
http://www.alkalimah.net/Articles/Read/8252
http://www.dhifaaf.com/vb/showthread.php?t=21000
https://en.wikipedia.org/wiki/Arabic_Wikipedia
kinanmalek.word press.com
http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/96497
[1] شوقي مسلماني، ضوء آخر، بدون طبعة، سدني- أستراليا: دار الفهد للنشر والتوزيع، 2015
وشوقي مسلماني شاعر لبنانيّ من مواليد1957 ، هاجر إلى أستراليا بعد حرب السنتين (1975_1976) صدر له: في الشعر: أوراق العزلة، 1995، حيث الذئب 2002، من نزع وجه الوردة 2005، لكلّ مسافة سكّان أصليّون 2009، محور مائل 2011، قبل الموجة التالية 2013، ضوء آخر 2015. وفي النثرله: كونين لطائف وطرائف كتاب عن حكايا ونوادر قريته في جنوب لبنان 2013، وأحمِرة وحُمُرات 2014 . (معظم كتبه صدرت في استراليا).
[2] محمد راتب حلّاق، النص والممانعة، بدون طبعة، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1999، ص 36
[3] عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، قرأه وعلّق عليه، أبو فهر محمود محمد شاكر، بدون طبعة، جدة: دار المدني، بدون تاريخ، ص 139
[4] غادة الإمام، جاستون باشلار جماليات الصورة، ط/1، بيروت: التنوير، 2010
[5] ســيسل دي لويس، الصورة الشــعرية، ترجمة، أحمد نصيف الجنابى وآخرين، بغداد: دار الرشيد للنشر، 1982، ص 23 .
[6] أورده محمد راتب حلاق، "ممانعة النص. . لذة التلقي"، المفتاح، 18 نيسان، 2010، عن: رينيه ويلك وأوستن وارين. نظرية الأدب، ترجمة محي الدين صبحي، ومراجعة حسام الخطيب، ط/3، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1985، ص 419
[7] ttps://ar.wikipedia.org/wiki قصيدة النثر
[8] عز الدين المناصرة ، "إشكالات قصيدة النثر بعد أن هدأت العاصفة"، الكلمة، عدد/109 (مايو 2016)،
http://www.alkalimah.net/Articles/Read/8252
[9] المصدر نفسه
[10] شوقي مسلماني، ضوء آخر، بدون طبعة، سدني- أستراليا: دار الفهد للنشر والتوزيع، 2015
[11] عصام شرتح، "فاعلية التلقي ومسألة الكفاءة الأدبية من منظور نقدي"، تشرين، 1/7/2007، نقلاً عن:
Rolland Barthes, Le Plaisir du Texte, Seuil, p.25-1982.(8) http://tishreen.news.sy/tishreen/public/read/96497
[12] Kenan Malik, “A Book in Progress [part 14] Sarter and the Aguish of Freedom”, kinanmalek.word press.com, 25 March 2012
[13] التعبير للسيد قطب، ورد في موقع ضفاف، توقيع، محمد الغنام، "شرح لمرثية المعري"، عن: سيد قطب، النقد الأدبي اصوله ومناهجه،
http://www.dhifaaf.com/vb/showthread.php?t=21000
[14] لقد لاحظ كامو في أسطورة سيزيف هوة بين حاجة الانسان الى معنى وصمت العالم غير المنطقي. الدين هو نوع من ردم هذه الهوة. ولكنه ردم مخادع. لا أعلم إذا كان للحياة أي معنى يسمو فوقه. ولكن أعرف أنني لا أعرف ذلك المعنى وأن معرفته مستحيلة بالنسبة لي . . . . الطريقة الوحيدة لردم الهوة بين العالم الصامت البارد وحاجة الانسان الى الدفء الروحي هو في خلق معانينا الخاصة، قيمنا الخاصة، (مصدر سابق)
Kenan Malik, “A Book in Progress"
[15] Roman Ingarden, (Stanford Encyclopidia of Philosophy), http://plato.stanford.edu/entries/ingarden/, first published Thu 12 June. 2003, substantive revision, Tue 3 July 2012
[16] Alistair M. Duckworth, “Review, Wolfgang Iser, The Act of Reading: A Theory of Aesthetic Response”, Nineteenth-Century Fiction, Vol. 34, No. 3 (Dec., 1979), University of California Press pp. 337-343, qout. P. 337;
فولفغانغ إيزر، فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب (في الأدب)، ترجمة وتقديم، حميد لحمداني، الجلالي الكدية، فاس: المناهل، 1994، ص 12
[17] الأنسنية، حسب إدوارد سعيد، حركة " توجه عمل المثقف والباحث المدرس لمادة الانسانيات في عالم اليوم المضطرب والعاج بالنزعات العدوانية والحروب الفعلية والارهاب على انواعه". (إدوارد سعيد، الأنسنية والنقد الديموقراطي، ط/1، ترجمة فواز طرابلسي، بيروت: دار الآداب، 2005، ص 18)
[18] للمراجعة
Edward Said, Out of Place: A Memoir, New York: Alfred A Knoof, 1999, pp. 36-97, 272-295
[19] لمعرفة المزيد، ينظر في، فولفغانغ إيزر، فعل القراءة نظرية جمالية التجاوب، ص 69 (مصدر سابق)
[20] تامبا Tampa سفينة نروجية استجابت (عام 2001) لنداء قارب صيد اندونيسي على وشك الغرق يحمل 433 شخصاً من طالبي اللجوء الأفغان الى استراليا. حاول قائدها العودة بالركاب إلى اندونيسيا ولكن الناس رفضوا وهددوا بالانتحار. غير القبطان وجهته الى جزيرة كرسماس التابعة لأستراليا. تعرّضت البحرية الاسترالية للسفينة ومنعتها من دخول المياه الإقليمية. كان الركاب معرضين لخطر الموت المحتم فالسفينة تحمل عشرات أضعاف حمولتها والركاب ينقصهم الدواء والغذاء وشروط السلامة الأخرى. تمكنت السفينة من دخول المياه الإقليمية الاسترالية بعد مناقشات طويلة وصعبة مما أدى إلى غرق حوالي 300 شخصاً. رافق العملية حملات تشهير ظهر كذبها، تدعي أن الأمهات كن يرمين أبناءهن إلى الماء لاستدرار الشفقة.
[21] نوال الإبراهيم، " طبيعة الشعر عند حازم القرطاجني"، فصول، مج/6، عدد/1 (أكتوبر- ديسمبر) 1985، ص 88
[22] مصدر سابق، الصورة الشعرية، ص 98
[23] سعيد بوخليط، "الظاهرتية الباشلارية أو حيوات الصورة الشعرية"، مدونة غاستون باشلار، الثلاثاء، 8 يوليو، 2014،
http://gastonbachelard1.blogspot.com.au/2014/07/blog-post_7464.html
نقلاً عن:
François Pire, De l'imagination poétique، dans l'œuvre de Gaston Bachelard، librairie josé corti، 1967، Page 173
[24] ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، موقع الوراق http://www.alwarraq.com
[25] رئيف خوري، الأدب المسؤول، بيروت: دار الآداب، 1968، ص 49
[26] مصدر سابق، سعيد بوخليط، "الظاهرتية الباشلارية، نقلاً عن، غاستون باشلار، جمالية المكان، ترجمة غالب هلسا، ط/4، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1996، ص 9؛
Gaston Bachelard, la poétique de l'espace, p. 9
[27] فيصل دراج، "الانعكاس والانعكاس الأدبي"، ألف، عدد/10، (1990)، ص 29-53، شاهد ص 31
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق