رواية هلاوس لنهى محمود: حنين إلى الماضي يخترق حدود الذاكرة/ عبد القادر كعبان

تختلف تجربة نهى محمود الروائية في "هلاوس" عن سابقتها في نص "راكوشا"، حيث استبعدت تكرار نفس التقنيات للتخلص من مظاهر الاجترار السردي، حتى أنها تأهلت بجدارة للحصول على المركز الأول بجائزة دبي الثقافية لسنة 2011.
منذ الصفحات الأولى لرواية "هلاوس" تبوح لنا البطلة بحزنها وأرقها، وكل ذلك ناتج عن أفعالها التي تراها غريبة، حتى أنها تتحدث عن علاقتها برجل أناني يبحث عن ما يطفئ شهوته لكنها تظل تحبه: "رغبتك في تعادل رغبتي فيك، تموت لحظة ملامستنا، أفقد رغبتي فيك وتزهدني أنت.. أتعلق بيدك وتتشبث بي لنفترق. أسبك وتلفظني لنمتزج. أكرهك وتنزعج من وجودي فنبقى للأبد." (ص 11).
بطلة نهى محمود كاتبة تدخلنا بدورها عالم حواء ومتاهاته السرية، حيث تقاسم المتلقي بغض النظر عن كونه رجلا كان أو امرأة لحظات حميمية من حياتها تأبى الخجل، كما جاء على لسان الساردة: "لا أريد أن أطيل عليك.. المهم بشأن السوتيان الأبيض الجديد المرسوم عليه نجوم وأهلة والذي ناداني من الفاترينة على المانيكان المتبجحة الواقفة في وضع جنسي مريع، أجل، هذا السوتيان يبدو ملائما. هذا هو المهم." (ص 15).
تستدعي الصور الفنية لهذا النص الروائي عددا من التفاصيل والجزئيات، التي تقدم مشاهد سردية عن شخصية تعاني من الوحدة، فيحملها الحنين إلى الماضي كي تخترق حدود الذاكرة، حيث تحكي بحزن شديد عن تجربة زواجها الفاشل الذي دام سنتين فقط، حتى أنها خسرت الجنين الذي حملته في بطنها: "...لم أفهم ما قاله الطبيب عن طفل مشوه يسكن رحمي بعد خمسة شهور من تجاورنا وتناجينا واحتمالي عادية الحياة وغياب الحب لأني سأكون أما.. قرر الطبيب أنه يجب التخلص من الطفل لأنه لن يكتمل نموه وقد يموت في بطني." (ص 27).
ذلك الحنين يعيدها إلى سرد قصة عائلتها التي ظلت تحيا بالحكايات وسط بيت الأشباح وما تتذكره تحديدا عن جدتها، كما نستشف ذلك في المشهد السردي الموالي: "أعرف جدتي أم بكر منذ سنوات طفولتي الأولى. في ذاكرتي لها مشاهد غائمة متقطعة.. لكني أعرفها كما أعرف ظهر يدي من حكايات الجميع. عائلتي تحيا بالحكايات، تبقى ولا تغادر أبدا لأن هناك دوما من يتكفل بمهمة الحكي تلك.. نعرف كل شيء عن كل فرد جاء في هذا العالم وكان جزءا منه يوما ومضى..." (ص 36).
من يقرأ "هلاوس" سيقول أنها قصة عادية لكاتبة تكتب عن شخصية تشبهها كثيرا، بيد أن تقنية حكيها هي التي منحتها أبعادا تجاوزت إلى حد كبير حدود بساطتها، بمعنى آخر حكايات الحنين جاءت من منبع تنشيط للذاكرة في أجواء تمس الواقع بالقدر ذاته الذي تمس به الخيال: "أفكر في العفاريت وأشعر بهم وألمح ظلالهم وأبكي... في المغطس وأنا عارية تماما من البشر.. مرتدية وحدتي.. ورغبتي في الهدوء إلا من صوت الماء المحبب لنفسي كنقرات البيانو.. هناك أفكر في مشروعات للكتابة، وأحل المشكلات بشأن حبكة كتابتي.. وأواجه أعدائي بخطب عصماء لا أجد لها شجاعة خارج طقس وجودي عارية في المغطس." (ص 47).
تبدو الساردة عليمة بكل شيء يهيمن على عالم هذه الرواية القصيرة، رغم اعتمادها على ذاكرة الشخصية الرئيسية، فهي تختار موقعا يسمح لها بنوع من الرؤية الكلية خلال عملية سرد الأحداث، حتى أنها تتدخل في تغيير مسارها من حين لآخر، كما جاء في حكايتها عن يحيى طليق البطلة والفروق المختلفة بينهما: "ليس لدى يحيى مخططات عظيمة، وليس له انتماء حقيقي سوى إلى قلمه... بينما أنا أحمل ولاء لقلبي وأتركه يدلني. دلالات العالم بيني وبينه متضادة، كل ما يبهرني هو عادي عنده، وكل ما يسلب لبه هو بسيط عندي.. يحب كل منا الآخر والعالم على طريقته، نمضي بأمان وثقة، يدي في يده.. نحمل في قلوبنا الود والاختلاف ورغبة حقيقية وغير معلنة في اقتسام الآثام والشرور مع الآخر." (ص 56).
تظهر البطلة في مقاطع أخرى بمظهر غير العارف بمستقبلها، حتى أنها ترغب بمعرفة ما يخبئه لها القدر حيث تستسلم لترهات الغجريات، كما جاء على لسان الساردة: "تخبرني بلحن مرتب أني ممسوسة وأني واقعة في حب رجل، وأن نجمي ناري ونجمه ملتهب، وأننا لو التقينا لاحترقنا. العالم يبدو فارغا وأنا خائفة غارقة في الرهبة." (ص 69).
تقع البطلة في حيرة اختيار اسم لبطلة روايتها، بل ستجعلها تتألم مثلها بعد إصابتها بمرض خبيث، حتى أنها تختار لها إنجاب طفلة قبل مرضها لتحكي لها فيما بعد لحظات الألم، كما نقرأ ذلك في المشهد السردي الآتي: "...تحكي في ما بعد لابنتها عن لحظة البتر.. لم تكن نائمة. ليس معنى أنها تحت تأثير المخدر أن لا تشعر بلحظة مثل تلك. جزء من جسدها يغادر.. تقول لها: 'مثل سلخ الأرنب'، وتحرك يدها وكأنها تخرج شيئا من شيء. تقول لها: 'هكذا'، ثم تضع يدها بجوارها." (ص 75).
يمكن القول أن نمط المعالجة النفسية بأسلوب الكتابة جاء غالبا على سرد حكاية بطلة المبدعة نهى محمود، حتى أن اليأس يداخلها في الصفحات الأخيرة من "هلاوس" لأنها تخشى أن ما تكتبه قد لا يحظى بأي اهتمام لدى الآخر: "ربما لن أجد دار نشر تقبله، وربما ستوافق دار أخرى على قبوله قبل أن يضيع وسط أطنان الأوراق هناك أو يستخدمه البعض كمسند لفرط تبغ السجائر فوقه قبل أن يخلطه بالحشيش للف سيجار للأصدقاء." (ص 83).
المصدر
(1) نهى محمود: هلاوس ، دار الصدى للصحافة والنشر والتوزيع،2013.

*كاتب وناقد جزائري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق