7 - ما بينه وبين شعراء عصره :
كان للرجل علاقات مشوبة بالارتزاق والحقد عليهم وعلى عصره الذي أهمله وسحقه ، مما جعله يهبط للعامة ، فيتأثر بلحنهم وسوقيتهم وابتذالهم ، ينقل الخطيب البغدادي في ( تاريخه ) خبراً.
مسنداً عن ابن عائشة، إذ يقول: يعجبني من شعر أبي الشمقمق في وصف بغداد:
ليس فيها مروءة لشريف *** غير هذا القناع بالطيلسان
وبقينا في عصبة من قريش *** يشتهون المديح بالمجان ( 10)
كما ترى أن البيتين رائعين ، وكان الرجل صادقاً مع نفسه ، ومع مجتمعه ، ومع شعراء عصره ، فإليك أخباره مع بعضهم :
أ - ما بينه وبين أبي العتاهية :
وفي رواية ينقلها الأصفهاني في ( أغانيه) تبين موقف أبي الشمقمق من الشعراء الكبار ممن لديهم حظوة كبيرة في مجالس الخلفاء والوزراء وعلية القوم وأعيانهم مثل أبي العتاهية الذي كان يساير المغنثين ، مما يثير حقد وضغائن شمقمقنا الفقير المعدم الوجودي ، وبالتالي كان يتهيبه أبو العتاهية ، ويخشى لقاءه في مجلس واحد ، ففي مرّة اعترضه الشمقمق قائلاً : أمثلك من يضع نفسه هذا الموضع مع سنك وشعرك وقدرك ،فقال له أبو العتاهية : أريد أن أتعلم كيادهم وأتحفظ كلامهم .(11) ، إليك رواية الأصفهاني :
" اجتمع أبو نواس وأبو الشمقمق في بيت ابن أذين وكان بين أبي العتاهية وبين أبي الشمقمق شر فخبأوه من أبي العتاهية في بيت.
ودخل أبو العتاهية فنظر إلى غلام عندهم فيه تأنيث فظن أنه جارية فقال لابن أذين متى استطرفت هذه الجارية فقال قريبا يا أبا إسحاق فقال قل فيها ما حضر فمد أبو العتاهية يده إليه وقال:
مددتُ كَفّي نحوَكم سائلاً *** ماذا تَرُدُّون على السائِلِ
فلم يلبث أبو الشمقمق حتى ناداه من البيت :
نَرُدّ في كفِّك ذا فَيْشَةٍ *** يَشْفِي جوىً في اسْتِك من داخلِ
فقال أبو العتاهية شمقمق والله وقام مغضبا (12)
لا تعليق لي ، تركت أمره لأبي العتاهية !!!
ب - ما بينه وبين بشار بن برد :
ويروي صاحب الأغاني عن دعبل بن علي الخزاعي قال :
كان بشار يعطي أبا الشمقمق في كل سنة مائتي درهم فأتاه أبو الشمقمق في بعض تلك السنين فقال له هلم الجزية يا أبا معاذ فقال ويحك أجزية هي قال هو ما تسمع فقال له بشار يمازحه أنت أفصح مني قال لا قال فأعلم مني بمثالب الناس قال لا قال فأشعر مني قال لا قال فلم أعطيك قال لئلا أهجوك فقال له إن هجوتني هجوتك فقال له أبو الشمقمق هكذا هو قال نعم فقل ما بدا لك فقال أبو الشمقمق :
إني إذا ما شاعِرٌ هجَانِيَهْ *** وَلَجّ في القول له لِسَانِيَهْ
أدخلتُه في استِ أمهِ عَلاَنِيَهْ *** بشّــــــارُ يا بشّــــارُ...
وأراد أن يقول يابن الزانيه فوثب بشار فأمسك فاه وقال أراد والله أن يشتمني ثم دفع إليه مائتي درهم ثم قال له لا يسمعن هذا منك الصبيان يا أبا الشمقمق
وفي خبر يسنده الأصفهاني للأصمعي قال :
أمر عقبة بن سلم الهنائي لبشار بعشرة آلاف درهم فأخبر أبو الشمقمق بذلك فوافى بشار فقال له يا أبا معاذ إني مررت بصبيان فسمعتهم ينشدون
هَلِّلِينَهْ هَلِّلِينَهْ ********** عْنَ قِثَّاةٍ لتِينَهْ
إنّ بشّارَ بنَ بردٍ *** تَيسٌ اعْمَى في سَفِينَهْ
فأخرج إليه بشار مائتي درهم فقال خذ هذه ولا تكن راوية الصبيان يا أبا الشمقمق (11)
ج - ما بينه وبين سلم الخاسر :
إن كان أبو العتاهية يهرب منه ويخشاه ، وبشار الأعمى يسترضيه بمائتي درهم لكي يتخلص من شرّه ، فتسعيرة سلم الخاسر خمسة دنانير في كلً هبّة من هبوبه ، يروي صاحب الأغاني بسند عن زكريا بن مهران قال :
طالب أبو الشمقمق سلما الخاسر بأن يهب له شيئا ، وقد خرجت لسلم جائزة فلم يفعل ، فقال أبو الشمقمق يهجوه :
يا أم سلم هداك الله زورينا *** ..............
ما إن ذكرتك إلا هاج لي شبق *** ومثل ذكراك أم السلم يشجينا
قال فجاءه سلم فأعطاه خمسة دنانير وقال أحب أن تعفيني من استتزارتك أمي وتأخذ هذه الدنانير فتنفقها(14)
ويذكر الأصفهاني في مكان آخر خبراً ثانياً عن هجاء أبي الشمقمق لسلمه الخاسربسند عن الجماز قائلاً : إن أبا الشمقمق جاء إلى سلم الخاسر يستميحه فمنعه ، فقال له اسمع إذا ما قلته وأنشده :
حدثوني أن سلما *** يشتكي جارة أيره
فهو لا يحسد شيئا *** ....................
وإذا سرك يوما **** يا خليلي نيل خيره
قم فمر راهبك الأصلع *** يقرع باب ديره
فضحك سلم وأعطاه خمسة دنانير ، وقال له أحب جعلت فداك أن تصرف راهبك الأصلع عن باب ديرنا (15)
د - ما بينه وبين الأعرابي الهجاء المتهتك :
من عجائب وغرائب أبي شمقمقنا أن يشتري الهجاء عليه بثمن ، هو أحوج ما يكون إليه ، يروي ابن المعتز خبراً مسنوداً عن ابن العلاف قائلاً : مر أعرابي بأبي الشمقمق الشاعر فقال له: يا أعرابي. قال: ما تشاء؟ قال: أتقول الشعر؟ قال: بعضه، قال: خذ هذا الدرهم واهجني. قال: فأطرق الأعرابي هنيهة ثم قال: ما رأيت أحدا يشتري الهجو بالثمن غيرك قال: وما أخذ. قال الأعرابي:
مررت بـ... بغل مسبطر *** فويق الباع كالحبل المطوقْ
فما إن زلت أعركه بكفي *** إلى أن صار كالسهم المفوقْ
فلما أن طغى وربا وأندى * ضربت به حر أم أبي الشمقمقْ
أزيدك، أم كفاك؟ وذاك أني *** رأيتك في التجارة لم توفق
فقال أبو الشمقمق: أعوذ بالله من الشقاء، ما كان أغناني عن هذه التجار . (16)
يا أبا الشمقمق أرى تعويذتك غير صادقة ، وكنت تتمنى أن يكون الهجاء أقسى وأمر ، ليتداول الناس خبرك ، ويشتهر ذكرك ، وتشفي غليلك من مجتمع تراه لا يستأهل إلا هذا الهجاء العار ، يكفينا هذا !!
8 - الجاحظ العملاق يخلده في كتابه الكبير ( الحيوان ) ، وهو يروي أشعاره ، ونحن ننشر أضواءه :
وكان الجاحظ - (159هـ - 255هـ) ، وهو من معاصري أبي الشمقمق ، وابن مدينته البصرة - يصغره بسبعة وأربعين عاماً - قد أغرم بفأر صاحبه وسنوره ، وعناكبه ، وحشراته ، فينقل إلينا في (كتابه الحيوان) الكبيرعدّة قصائد نظمها المعدم الفقيرعن حاله المرير ، كأنه يستجير ولا مجير حتى افترش التراب وعلاه السحاب ، ( ودأب الدهر ذا أبداً ودابي ) ، اقرأ بعض ما رواه جاحظنا العظيم عن : شعر أبي الشمقمق في الفأر والسنور :
ولقد قلتُ حين أقفرَ بيتي **** من جراب الدقيقِ والفخارَه
ولقد كان آخلاً غير قفر ****** مخصباً خيرهُ كثيـر العماره
فأرى الفأر قد تحنبن بيتي *******عائذاتٍ منه بدار الإماره
ودعا بالرحيل ذبانُ بيتي ******* بين مقصوصةٍ إلى طياره
وأقامَ السنورُ منهُ من شدةِ الجو* عِ وعيش فيه أذى ومراره
قلتُ لما رأيتهُ ناكس الرأ ** سِ كئيباً، في الجوف منه حراره
ويكَ صبراً فأنتَ من خير سنَّ ***** ور رأتهُ عينايَ قطُّ بحاره
قال: لا صبر لي، وكيف مقامي *** ببيوتٍ قفر كجوفِ الحماره
قلتُ: سر راشداً إلى بيت جارٍ **** مخصبٍ رحلهُ عظيمِ التجاره
وإذا العنكبوتُ تغزلُ فــــــــي *** دنىِّ وحبِّي و الكوزِ والقرقارَه
وأصابَ الجحامُ كلبي فأضحى ********* بين كلبٍ. وكلبةٍ عيّاره (17)
تذكرني الأبيات بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في جسر البسفور ، وكأنه يستعير منزل أبي الشمقمق :
أَميرَ المُؤمِنينَ رَأَيتُ جِسراً ***أَمُرُّ عَلى الصِراطِ وَلا عَلَيهِ
لَهُ خَشَبٌ يَجوعُ السوسُ فيهِ ** وَتَمضي الفَأرُ لا تَأوي إِلَيهِ
وَلا يَتَكَلَّفُ المِنشارُ فيــــــهِ **** سِوى مَرِّ الفَطيمِ بِساعِدَيهِ
وَكَم قَد جاهَدَ الحَيوانُ فيـــــهِ **وَخَلَّفَ في الهَزيمَةِ حافِرَيهِ
وقال أيضاً :
ولقد قلتُ حين أجحرني البر ** دُ كما تجحرُ الكلابُ ثعاله
في بييتٍ من الغضارة قفر ** ليس فيه إلا النوى والنخاله
عطلتهُ الجرذان من قلة الخير *** وطار الذبابُ نحو زُباله
هاربات منهُ إلى كلِّ خصبٍ *** جيدة لمْ يرتجينَ منهُ بلاله
وأقام السنورُ فقيه بشرٍ ****** يسأل الله ذا العلا والجلاله
أن يرى فأرةً، فلم ير شيئاً ***** ناكساً رأسُهُ لطول الملاله
قلت لما رأيته ناكس الرأ *** س كئيباً يمشي علـى شرِّ حاله
قلتُ صبراً يا نازُ رأسَ السنا ***** نير، وعللته بحسن مقاله
قال: لا صبر لي، وكيف مقامي ***** في قفار كمثل بيد تباله
لا أرى فيه فأرة أنغض الرأ * س ومشي في البيت مشي خَيَاله
قلت : سر راشداً فخارَ لك الله ******* ولا تعــــدُ كربجَ البقاله
فإذا ما سمعت أنَّا بخير ********** في نعيم من عيشةٍ ومناله
فائتنا راشداً ولا تعدونا ******** إن منْ جازَ رحلنَا في ضلاله
قال لي قولة : عليك سلامٌ ********غير لعـــــب منه ولا ببطاله
ثمَ ولي كأنه شيخُ ســـــــوء ******* أخرجوه من محبس بكفاله (18)
نحلل هذه الأبيات كأنموذج لبقية شعره المنكود الحظ !!
إذن البرد المكلوب لاحق شمقمقنا ، لم يرفأ بحاله حتى أحجره ، كما تلاحق الكلاب الثعالب ، فتختبئ في جحورها خائفة مقرورة ، وماذا في بيته ، لا غضارة ، ولا وسائل للعيش سوى النوى والنخالة، والبؤس والكآبة ، ويسخر من وضعيته أي سخرية قائلاً : حتى الجرذان غادرته إلى مكان آخر أكثر حظاً للعيش ، وأوفر غذاء للتواصل مع الحياة الكفيفة ، أما الذباب فيتطاير حول الأوساخ المتناثرة وزبالته ، والسنور أين يذهب السنور ؟ وهو أكبر من أن تقبله الثقوب ليصطاد الجرذان والفأر التي هاجرت المنزل الكئيب ، فرفع يداه بعد الملل واليأس والقنوط داعياً رب العلا والجلاله أن يرزقه العيش المقسوم وفقاً لإرادة الحياة وسننها المشروعة ، وشاعرنا شفق على حال سنوره الجائع الذي يتلوى ضور ، فأخذ يحاوره عندما رآه ناكس الرأس:
ويك صبراً فأنت رأس السنانيـ *** ر وعللته بحسن مقالة
عليك بالصبر الجميل ، أنت الرأس والعقل والحكمة والرأي السديد ، وهذا حسن المقالة ، فأجابه سنوره الساخط الغاضب من عيشته ، وعيشة صاحبه المنكود المحارف :
قال : لا صبر لي وكيف مقامي في قفار كمثل بيد تبالة
نعم أجابه كيف - يا صاحبي - لي أن أصبر على هذه الحال المحال ، فهل أنت تسخر مني بعد أن أوصلتني إلى هذا المآل ؟!!
وترى في المقطوعة الرائعة من صور فنية ، وبديع لطيف ما يجعلنا أن نشيد بشاعرية الشمقمق حين يخلو بنفسه ، ويبتعد عن مجاراة عوام الناس وسوقيتهم ، فحواره ما كان إلا ليكشف عن حالته النفسية المؤلمة ، وتعلله بالصبر الجميل ، ويأمل نفسه بالآتي الظليل ، ومن محسنات البديع تأمل مثلاً في الاستعارة المكنية،( أحجرني البرد ) ،إذ حذف المشبه به الإنسان ، وأبقى شيئاً من لوازمه ، وهو الإلزام والإكراه ، وكذلك في الطباق الإيجابي بين عطل وطار ، إصباح و إمساء ، والطباق السلبي بين يرى ، ولم ير ....وكم أضحكني هذا البيت الأخير :
ثمَ ولّي كأنه شيخُ ســـــــوء ******* أخرجوه من محبس بكفاله
لم يكتفِ أن يجعله شيخا ً ، بل شيخ سوء مولياً ، كأنه قد أخرج من محبسه ، ولم ينسَ أن ربطه بالكفالة ، كل ذلك لأن السنور يريد أن يأكل كما تأكل مخلوقات الله ، ويذكرني هذا البيت ببيت آخر لمعاصره البطل الجريء دعبل الخزاعي ، ولكن ليس بحق سنور ، وإنما بحق السيد وزير المأمون الغاضب الساخط أبي عباد :
أولى الأمور بضيعة وفساد ***** أمر يدبّره أبو عباد
خرق على جلسائه فكأنهم*حضروا لملحمة ويوم جلاد
يسطو على كتابه بدواته *** فمضمخ بدم ونضح مداد
وكأنه من دير هزقل مفلت ***حرد يجر سلاسل الأقياد
فاشدد أمير المؤمنين وثاقه ***فأصح منه بقية الحدادِ
ودير حزقيل هو دير كان يحجر فيه المجانين الخطرين بعد تقييدهم بالسلاسل الحديدية الثقيلة كي لا يهربوا ، ويقع بين البصرة والعمارة الحالية، و (بقية الحداد) هذا المذكور هو أحد مشاهير المجانين في ذلك العصر !! ، والحقيقة أن أبا الشمقمق أكبر من دعبل بستة وثلاثين عاماً ( ولد عبل 148 هـ / 765م)، وتعاصرا نيف ونصف قرن ، ونقل دعبل خبر أبي الشمقمق وبشار حول الجزية ، إذ كان حاضراً بينهما ، وشاهداً لها وعليها !!
وقال أبو الشمقمق أيضاً :
نزل الفـــــــأرُ ببيتي *******رفقةً من بعد رفقه
حلقاً بعــــــــد قطارٍ ****** نزلوا بالبيت صَفقه
ابن عرس رأس بيتي *** صاعداً في رأس نبقه
سيفه سيفٌ جديــــــدٌ *****شقه من ضلعِ سلقه
جاءنا يطــــــــرق بالليل **** فــــــدق الباب دقه
دخل البيت جهـــــــاراً **** لم يدع في البيت فِلْقه
وتترسْ برغيــــــــفٍ ***** وصفقْ نازُويه صفقه
صفقة أبصرتُ منها ******* في سوادِ العين زرقه
زرقة مثل ابنِ عـــــرس ****** أغبشٌ تعلوهُ بلقه (19)
وقال أيضا، وهو يحاور الفأر ، والشعر من الغرائب ، نترك الجاحظ يروي :
أخذ الفأر برجلي *** جفلوا منها خفافي
وسراويلات سوء *** وتبابين ضعاف
درجوا حولي بزفن ** وبضرب بالدفاف
ساعة ثمت جازوا **عن هواي في خلاف
نقروا استي وباتوا**دون أهلي في لحافي
لعقوا استى وقالوا *** ريح مسك بسلاف
صفعوا نازويه حتى ** استهلت بالرعاف (20)
9 - ابن المعتز يروي له ، ونحن نسير معه مسرعين ...!!
في طبقات ابن المعتز ، وله في بعضهم :
وإبطك قابض الأرواح يرمي***بسهم الموت من تحت الثياب
شرابك في الشراب إذا عطشنا *** وخبزك عند منقطع التراب
وما روحتنا لتذب عنا ********** ولكن خفت مرزئة الذباب (21)
الأبيات من الوافر ، يزيدها محقق الديوان الدكتور واضح بيتاً ، ووجدته في عدة مراجع :
رأيتُ الخبز عزّ لديك حتى *****حسبتُ الخبز في جوّ السحابِ
ويذكر أن أبا الشمقمق كان يعيب طعام جعفر بن أبي زهير ، وفي ضيافته لشاعرنا هجاه بهذه الأبيات !!:
وتروى لأبي الشيص في ( محاضرات أدباء) الأصفهاني ، وفي ( محاسن وأضداد ) الجاحظ تنسب إلى أبي نواس ، إذ جاء : عن حذيفة بن محمد الطائي قال : قال الرشيد :لا أعرف لمولدٍ أهجى من قول أبي نواس :
وما روحتنا لتذب عنا ********** ولكن خفت مرزئة الذباب
شرابك في السراب إذا عطشنا *** وخبزك عند منقطع التراب (22)
وله على رواية ابن المعتز :
ذهب الموال فلا موا *** ل وقد فجعنا بالعرب
إلا بقايا أصبحوا *** بالمصر من قشر القصب
بالقول بذوا حاتما **** والعقل ريح في القرب
هذه الأبيات من مجزوء الكامل خلف الموالي خلفه ، وهو منهم ، ووجّه سهامه نحو العرب الذين هم بقايا متناثرة بلا أصل ولا لبٍّ حتى كناهم بقشر القصب لخفتهم وعدم رزانتهم سوى أقوال دون أعمال ، وعقولهم فارغة مثل الريح في القرب .
تشير هذه الأبيات أيضاً إلى مدى الصراع بين العرب والموالي بعد سقوط الدولة الأموية وبزوغ شمس الدولة العباسية ، وظهور ظاهرة الشعوبية ، إذ نادت الشعوب الإسلامية من غير أمة العرب أن تساوي العرب في القيادات العسكرية والإدارية والاجتماعية والقيادية ، ورأت أنها رفدت الدولة بالرجال والعباقرة والفكر والترجمة والشعر والأدب ، بل وصل الأمر إلى استصغار شأن العرب ورميهم بالأعراب والتخلف الاجتماعي ، فأهاجي بشار بن برد أبان سخطه وغضبه التي حسبت عليه شعوبية ومنها قوله في هجاء من افتخر من الأعراب - و على أغلب ظني قال الأبيات ارتجالاً بحق عمرو بن العلاء ، لمّا استخف بشاعريته - :
أحيـن كسيت بعد العري خزاً *** ونادمت الكـرام على العقـارِ
تفـاخـر يابن راعيـةٍ وراعٍ **** بني الأحرار حسبك من خسارِ
وكنـت إذا ضـمئت إلى قراحٍ **** شركت الكلب في ولغ الإطـار
وهذا أبو نواس هو الآخر يستخف بالأعراب وقبائلهم الشهيرة في لحظات التهتك والمجون :
قالوا ذكَرْتَ ديارَ الحيّ من أسَدٍ *** لا دَرّ درّكَ قلْ لي من بَنو أسَـدِ
و مَن تميمٌ، ومنْ قيسٌ وإخوتُهُمْ، * ليس الأعاريبُ عندَ اللهِ من أحَدِ
وحتى العرب أنفسهم حدث صراع قبلي رهيب بينهم ، بين العرب العاربة اليمانيين ، وبين العرب المستعربة النزاريين ، ولكن لم يصل إلى مس الهاشميين من بيت الخلافة ، ولا العلويين من آل بيت النبي (ص) ، كان الكميت بن زيد الأسدي يتعصب للمضريين وقد هجا اليمانيين بقصيدته المذهبة ، التي يقول فيها :
وهم كتبوا الكتاب بباب مروٍ *** وباب الصين كانوا الكاتبينا
فرد عليه دعبل الحزاعي بقصيدته الدامغة :
أفيقي من ملامك يا ظعينا *** كفاك اللّوم مرّ الأربعينا
هذه النزاعات القبلية ، والترسّبات الشعوبية ، والنظرات الشوفينية ما زالت تهيمن على العقلية العربية بشكل عام ، والعراقية على وجه الخصوص .
10 - و مما يروي ابن المعتز
ومما يرويه لنا ابن المعتز عن أشعار أبي الشمقمق ( من مجزوء الكامل ) قوله :
ويستحسن قوله:
عاد الشمقمق في الخسارة* وصبا وحن إلى زراره
من بعد ما قيل ارعــوي ** وصحا لأبواب الشطارة
من قهــــوةٍ مسكيّــــةٍ ******واللون مثل الجلنارة
تدع الحليـم بلا نهــى *****حيران لـــيس به إحاره
ولربما غنــــــى بهـا *****يا جارتا ما كنــــت جاره
يا أيها المـلك الذي ******* جمـع الجلالــــة والوقاره
ورث المكارم صالحا ******* والجـــود منه والعماره
إني رأيتك في المـنا ****** م وعدتني منـــــك الزياره
فغدوت نحوك قاصـدا ***** وعليك تصديـــــق العباره
أني أتاني بالنـــــدى ****** والجود منـــــك إلى البشاره
إن العيال تركتهــــم **** بالمصر خــــــــبزهم العصاره
وشرابهم بول الحمــا **** ر مزاجه بـــول الـــــــحماره
ضجوا فقلت تصبــــروا******* فالنجح يقــرن بالصباره
حتى أزور الهاشـــــم ******* ي أخــا الغضارة والنضارة
ولقد غدوت وليس لـــــــي ******** إلا مديحـك من تجاره (23)
وله أيضا
ما جمع الناس لدنياهم *** أنفع في البيت من الخبز
والخبز باللحم إذا نلته ***** فأنت في أمن من الترز
والقلز من بعد على إثره **** فإنما اللذات في القلز
وقد دنا الفطر وصبياننا **** ليسوا بذي تمر ولا أرز
وذاك أن الدهر عاداهم ******* عداوة الشاهين للوز
كانت لهم عنز فأودي بها ***** وأجدبوا من لبن العنز
فلو رأوا خبزا على شاهق **** لأسرعوا للخبز بالجمز
ولو أطاقوا القفز ما فاتهم ******* وكيف للجائع بالقفز (24)
ومما يستحسن قوله :
يبس اليدين فما يسطيع بسطهما ***** كأن كفيه شدا بالمسامير
عهدي به آنفا في مربط لهم ** يكسكس الروث عن نقر العصافير(25)
وشعر أبي الشمقمق نوادر كله (26)
11 - أبو الشمقمق رائد كدية الشعراء :
شاعر ليس لديه ما يفقده بعد أن خسر كرامته ، ولمّا تخلى عنه مجتمعه كي يحفظ ماء وجه ، هذا مصيره وتفلسف مع وجوده فطنة وضرورة ، والجوع أبو الكفار ، وتبعه على نهجه شعراء الكدية ، ماذا تنتظر من شاعر قال ما قال كما أسلفنا ؟ ونذكرك للتأمل والربط :
ولقد قلتُ حين أقفرَ بيتي ***** من جراب الدقيقِ والفخارَه
فأرى الفأر قد تحنبن بيتي *******عائذاتٍ منه بدار الإماره
أو قوله :
ولقد قلتُ حين أجحرني البر ** دُ كما تجحرُ الكلابُ ثعاله
في بييتٍ من الغضارة قفر ** ليس فيه إلا النوى والنخاله
عطلتهُ الجرذان من قلة الخير *** وطار الذبابُ نحو زُباله
أحسن حالاته لما يضيق به الحال يلجأ لصاحبه بشار يستجدي منه ، كما يروي لنا صاحب (الأغاني ) :خبرني هاشم قال حدثني دماذ قال حدثني رجل من الأنصار قال
جاء أبو الشمقمق إلى بشار يشكو إليه الضيقة ويحلف له أنه ما عنده شيء فقال له بشار والله ما عندي شيء يغنيك ولكن قم معي إلى عقبة بن سلم فقام معه فذكر له أبا الشمقمق وقال هو شاعر وله شكر وثناء فأمر له بخمسمائة درهم فقال له بشار :
يا واحد العرب الذي *** أمسى وليس له نظير
لو كان مثلك آخر ******ما كان في الدنيا فقير
فأمر لبشار بألفي درهم فقال له أبو الشمقمق نفعتنا ونفعناك يا أبا معاذ فجعل بشار يضحك . ( 27)
الحقيقة يذكر ابن المعتز وغيره عن تفشي ظاهرة كدية الشعراء ، وبحرفية أمهر وأشنع بعد أن بذر بذرتها الأولى أبو الشمقمق ، فإليك ابن المعتز و(طبقاته)،وأخبار أبي فرعون الساسي :
" حدثني أبو محرز الكوفي قال: أتى أبو فرعون الساسي أبا كهمس التاجر فسأله، فأعطاه رغيفاً من الخبز الحواري كبيراً، فصار إلى حلقة بني عديٌ، فوقف عليهم وهم مجتمعون، فأخرج الرغيف من جرابه، وألقاه في وسط المجلس وقال: يابني عدي استفحلوا هذا الرغيف، فإنه أنبل نِتاج على وجه الأرض، قالوا: وما ذاك؟ فأخبرهم، فاجتمعوا إلى آبى كهمس التاجر فقالوا: عرضتنا لأبي فرعون وقد مزقنا كل ممزق.
ومما يستملح له - وكان من أفصح الناس وأجودهم شعراً، وأكثرهم نادرة، ولكنه لا يصبر عن الكدية.... - وهو القائل :
ليس إغلاقي لبابي أن لي ** فيه ما أخشى عليه السرقا
إنما أغلقه كي لا يرى *** سوء حالي من يجوب الطرقا
منزلٌ أوطنه الفقر فلو ******** دخل السارق فيه سُرقا
لا تراني كاذباً في وصفه **** لو تراه قلت لي: قد صدقا
(.... ) وهذه القصيدة من خيارها : والذي أخذ فيه طريق الجد كلمته في الحسن بن سهل وقد أجمع الناس على حسنها وفصاحتها وهي قوله :
سُقياً لحى باللوى عهدتهم **** منذ زمان ثم هذا عهدهم
عهدتهم والعيش فيه غرة ***** ولم يناو الحدثان شعبهم
ولم يبينوا لنوى قذافة *****تقطع من وصل حبالي حبلهم
فليت شعري هل لهم من مطلب***أو أجدن ذات يوم بدلهم
الناس أشباهٌ كما قد مثلوا ****** وفيهم خير وأنت خيرهم
حاشا أمير المؤمنين إنه ******** خليفة الله وأنت صهرهم
فأحسنوا التدبير لما ناصحوا ***وأمنوا العتب فطال نصحهم
إليك أشكو صبية وأمهم ******** لا يشبعون وأبوهم مثلهم
قد أكلوا اللحم ولم يشبعهم **** وشربوا الماء فطال شربهم
وامتذقوا المذق فما أغناهم***والمضغ إن نالوه فهو عُرسهم
لا يعرفون الخبز إلا باسمه ***** والتمر هيهات فليس عندهم
وما رأوا فاكهة في سوقها ****وما رأوها وهي تنحو نحوهم
زعر الرءوس قرعت هاماتهم ... من البلا واستك منهم سمعهم
كأنهم جناب أرض مجدب ***** محل فلو يعطون أوجي سهمهم
بل لو تراهم لعلمت أنهــم ********* قــــوم قليل ريهم وشبعهم
وجحشهم أجرب منقور القرى **** ومثل أعواد الشكاعي كلبهم
كأنهم كانوا وإن وليتــــــــــهم ********طراً مواليِّ وكنت عبدهم
مجتهداً بالنصح لا آلوهـــــــــــم ***** أدعو لهم يا رب سلم أمهم " . (28)
يذكر عباس هاني الجراح في معرض جمعه وتحقيقه لديوان أبي فرعون الساسي أن أسمه ( شو يس)، وهو عربي من عدي بن الرباب بن عبد مناة بن أد بن طابخه ، وكنيته : ( أبو فرعون ) ، و يطلق علية : شويس العدوي . إما لقبه (الساسي) ، فقيل نسبة إلى قرية الساس ، أسفل واسط
وأبو فرعون هذا " شيخ قصير، عظيم الهامة، كث اللحية " ، عاش في البصرة في العصر العباسي، و كان بدوياً، إعرابيا، سائلاً، " لا يصبر عن الكدية " ) ! و لا نعرف سنة وفاته تحديداً، و إن كنا نرجح انه توفي في أوائل القرن الثالث الهجري ، ويذكر أن أدونيس أرخ وفاته 212 هـ دون سند،وأنني أميل لهذا التاريخ من حيث مدحه للحسن بن سهل وزير المأمون . (29)
12 - أبو هلال العسكري وأبو الشمقمق والخليفة الهادي وزب رباح :
حكى أن أبا الشمقمق دخل على الهادى وسعيد بن سلمٍ عنده، فأنشده :
شفيعى إلى موسى سماح يمينه **** وحسب امرىءٍ من شافعٍ بسماح
وشعرى شعرٌ يشتهى الناس أكله **** كما يشتهى زبــــــــــدٌ بزب رباح
فقال له الهادى: ويلك! ما زب رباح؟ قال : تمرٌ عندنا بالبصرة، إذا أكله الإنسان وجد طعمه في كعبه، قال: ومن يشهد لك؟ قال: القاعد عن يمينك. قال: أكذا يا سعيد؟ قال نعم، فأمر له بألفى درهم، قال سعيد: فو الله لقد شهدت له، وما أعرف صحة ما قال . (30) ويقال كان خادم واقفاً إلى جنب الخليفة الهادي ، والله أعلم !!
وأخيراً من الجميل أن نختم الموضوع الشمقمقي بالحج ، على ما يبدو لنا كانت هنالك رغبة مكبوتة في العقل الباطن ، ويسندها العقل الظاهر بما يرى من لصوصية التجار ، وغصب الموسرين لحقوق الآخرين ، وتسلط المتجبرين على أعناق المستضعفين ، فرمى هذين البيتين :
إذا حججت بمال أصله دنس *** فما حججت ولكن حجت العِيرُ
لا يقبل الله إلا كل طيبة ********* ما كل حج ببيت الله مبرورُ (31)
نكتفي بهذا القدر من حديثنا عن أبي الشمقمق ، والحديث شجون ، والدنيا شؤون ، والله يعلم ، ونحن وأنتم قلّ ما نعلم وقلّ ما تعلمون !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) تاريخ بغداد : الخطيب البغدادي م. س . .
( 11) الأغاني : أبو الفرج الأصفهاني : - ج - ص ...- دار الفكر - بيروت - ط2 - تحقيق سمير جابر .
( 12) م . ن . ج - ص .
(13) الأغاني : ج ص - م. س .
(14) الأغاني : ج ص م . س .
(15) م . ن .
(16) طبقات الشعراء : ابن المعتز م . س .
(17) ، (18) ، ( 19) ، (20) الحيوان : الجاحظ - ( 1 / - 1 / ) - الموسوعة الشاملة - الوراق .
(21) طبقات الشعراء : ابن امعتز - / -
(22) ديوان أبي الشمقمق : ص- م . س .
(23) ، (24) ، ( 25) ، (26) طبقات الشعراء : ابن امعتز - 1 / - الموسوعة الشاملة (27) الأغاني : ( ) م . س .
(28) طبقات الشعراء : ابن المعتز -1 - م. س .
(29)
مجلة الجندول AL JANDOOL MAGAZINE
مجلة ادبية فكرية تصدر في محافظة القادسية ، السنة الثانية: ، تشرين2 (نوفمبر) 2004 - مجلة علوم انسانية - شعر أبي فرعون الساسي - جمع و تحقيق عباس هاني الجراخ / باحث و محقق / جامعة بابل .
(30) جمهرة الأمثال : أبو هلال العسكري - 1 / - الموسوعة الشاملة - الوراق
كان للرجل علاقات مشوبة بالارتزاق والحقد عليهم وعلى عصره الذي أهمله وسحقه ، مما جعله يهبط للعامة ، فيتأثر بلحنهم وسوقيتهم وابتذالهم ، ينقل الخطيب البغدادي في ( تاريخه ) خبراً.
مسنداً عن ابن عائشة، إذ يقول: يعجبني من شعر أبي الشمقمق في وصف بغداد:
ليس فيها مروءة لشريف *** غير هذا القناع بالطيلسان
وبقينا في عصبة من قريش *** يشتهون المديح بالمجان ( 10)
كما ترى أن البيتين رائعين ، وكان الرجل صادقاً مع نفسه ، ومع مجتمعه ، ومع شعراء عصره ، فإليك أخباره مع بعضهم :
أ - ما بينه وبين أبي العتاهية :
وفي رواية ينقلها الأصفهاني في ( أغانيه) تبين موقف أبي الشمقمق من الشعراء الكبار ممن لديهم حظوة كبيرة في مجالس الخلفاء والوزراء وعلية القوم وأعيانهم مثل أبي العتاهية الذي كان يساير المغنثين ، مما يثير حقد وضغائن شمقمقنا الفقير المعدم الوجودي ، وبالتالي كان يتهيبه أبو العتاهية ، ويخشى لقاءه في مجلس واحد ، ففي مرّة اعترضه الشمقمق قائلاً : أمثلك من يضع نفسه هذا الموضع مع سنك وشعرك وقدرك ،فقال له أبو العتاهية : أريد أن أتعلم كيادهم وأتحفظ كلامهم .(11) ، إليك رواية الأصفهاني :
" اجتمع أبو نواس وأبو الشمقمق في بيت ابن أذين وكان بين أبي العتاهية وبين أبي الشمقمق شر فخبأوه من أبي العتاهية في بيت.
ودخل أبو العتاهية فنظر إلى غلام عندهم فيه تأنيث فظن أنه جارية فقال لابن أذين متى استطرفت هذه الجارية فقال قريبا يا أبا إسحاق فقال قل فيها ما حضر فمد أبو العتاهية يده إليه وقال:
مددتُ كَفّي نحوَكم سائلاً *** ماذا تَرُدُّون على السائِلِ
فلم يلبث أبو الشمقمق حتى ناداه من البيت :
نَرُدّ في كفِّك ذا فَيْشَةٍ *** يَشْفِي جوىً في اسْتِك من داخلِ
فقال أبو العتاهية شمقمق والله وقام مغضبا (12)
لا تعليق لي ، تركت أمره لأبي العتاهية !!!
ب - ما بينه وبين بشار بن برد :
ويروي صاحب الأغاني عن دعبل بن علي الخزاعي قال :
كان بشار يعطي أبا الشمقمق في كل سنة مائتي درهم فأتاه أبو الشمقمق في بعض تلك السنين فقال له هلم الجزية يا أبا معاذ فقال ويحك أجزية هي قال هو ما تسمع فقال له بشار يمازحه أنت أفصح مني قال لا قال فأعلم مني بمثالب الناس قال لا قال فأشعر مني قال لا قال فلم أعطيك قال لئلا أهجوك فقال له إن هجوتني هجوتك فقال له أبو الشمقمق هكذا هو قال نعم فقل ما بدا لك فقال أبو الشمقمق :
إني إذا ما شاعِرٌ هجَانِيَهْ *** وَلَجّ في القول له لِسَانِيَهْ
أدخلتُه في استِ أمهِ عَلاَنِيَهْ *** بشّــــــارُ يا بشّــــارُ...
وأراد أن يقول يابن الزانيه فوثب بشار فأمسك فاه وقال أراد والله أن يشتمني ثم دفع إليه مائتي درهم ثم قال له لا يسمعن هذا منك الصبيان يا أبا الشمقمق
وفي خبر يسنده الأصفهاني للأصمعي قال :
أمر عقبة بن سلم الهنائي لبشار بعشرة آلاف درهم فأخبر أبو الشمقمق بذلك فوافى بشار فقال له يا أبا معاذ إني مررت بصبيان فسمعتهم ينشدون
هَلِّلِينَهْ هَلِّلِينَهْ ********** عْنَ قِثَّاةٍ لتِينَهْ
إنّ بشّارَ بنَ بردٍ *** تَيسٌ اعْمَى في سَفِينَهْ
فأخرج إليه بشار مائتي درهم فقال خذ هذه ولا تكن راوية الصبيان يا أبا الشمقمق (11)
ج - ما بينه وبين سلم الخاسر :
إن كان أبو العتاهية يهرب منه ويخشاه ، وبشار الأعمى يسترضيه بمائتي درهم لكي يتخلص من شرّه ، فتسعيرة سلم الخاسر خمسة دنانير في كلً هبّة من هبوبه ، يروي صاحب الأغاني بسند عن زكريا بن مهران قال :
طالب أبو الشمقمق سلما الخاسر بأن يهب له شيئا ، وقد خرجت لسلم جائزة فلم يفعل ، فقال أبو الشمقمق يهجوه :
يا أم سلم هداك الله زورينا *** ..............
ما إن ذكرتك إلا هاج لي شبق *** ومثل ذكراك أم السلم يشجينا
قال فجاءه سلم فأعطاه خمسة دنانير وقال أحب أن تعفيني من استتزارتك أمي وتأخذ هذه الدنانير فتنفقها(14)
ويذكر الأصفهاني في مكان آخر خبراً ثانياً عن هجاء أبي الشمقمق لسلمه الخاسربسند عن الجماز قائلاً : إن أبا الشمقمق جاء إلى سلم الخاسر يستميحه فمنعه ، فقال له اسمع إذا ما قلته وأنشده :
حدثوني أن سلما *** يشتكي جارة أيره
فهو لا يحسد شيئا *** ....................
وإذا سرك يوما **** يا خليلي نيل خيره
قم فمر راهبك الأصلع *** يقرع باب ديره
فضحك سلم وأعطاه خمسة دنانير ، وقال له أحب جعلت فداك أن تصرف راهبك الأصلع عن باب ديرنا (15)
د - ما بينه وبين الأعرابي الهجاء المتهتك :
من عجائب وغرائب أبي شمقمقنا أن يشتري الهجاء عليه بثمن ، هو أحوج ما يكون إليه ، يروي ابن المعتز خبراً مسنوداً عن ابن العلاف قائلاً : مر أعرابي بأبي الشمقمق الشاعر فقال له: يا أعرابي. قال: ما تشاء؟ قال: أتقول الشعر؟ قال: بعضه، قال: خذ هذا الدرهم واهجني. قال: فأطرق الأعرابي هنيهة ثم قال: ما رأيت أحدا يشتري الهجو بالثمن غيرك قال: وما أخذ. قال الأعرابي:
مررت بـ... بغل مسبطر *** فويق الباع كالحبل المطوقْ
فما إن زلت أعركه بكفي *** إلى أن صار كالسهم المفوقْ
فلما أن طغى وربا وأندى * ضربت به حر أم أبي الشمقمقْ
أزيدك، أم كفاك؟ وذاك أني *** رأيتك في التجارة لم توفق
فقال أبو الشمقمق: أعوذ بالله من الشقاء، ما كان أغناني عن هذه التجار . (16)
يا أبا الشمقمق أرى تعويذتك غير صادقة ، وكنت تتمنى أن يكون الهجاء أقسى وأمر ، ليتداول الناس خبرك ، ويشتهر ذكرك ، وتشفي غليلك من مجتمع تراه لا يستأهل إلا هذا الهجاء العار ، يكفينا هذا !!
8 - الجاحظ العملاق يخلده في كتابه الكبير ( الحيوان ) ، وهو يروي أشعاره ، ونحن ننشر أضواءه :
وكان الجاحظ - (159هـ - 255هـ) ، وهو من معاصري أبي الشمقمق ، وابن مدينته البصرة - يصغره بسبعة وأربعين عاماً - قد أغرم بفأر صاحبه وسنوره ، وعناكبه ، وحشراته ، فينقل إلينا في (كتابه الحيوان) الكبيرعدّة قصائد نظمها المعدم الفقيرعن حاله المرير ، كأنه يستجير ولا مجير حتى افترش التراب وعلاه السحاب ، ( ودأب الدهر ذا أبداً ودابي ) ، اقرأ بعض ما رواه جاحظنا العظيم عن : شعر أبي الشمقمق في الفأر والسنور :
ولقد قلتُ حين أقفرَ بيتي **** من جراب الدقيقِ والفخارَه
ولقد كان آخلاً غير قفر ****** مخصباً خيرهُ كثيـر العماره
فأرى الفأر قد تحنبن بيتي *******عائذاتٍ منه بدار الإماره
ودعا بالرحيل ذبانُ بيتي ******* بين مقصوصةٍ إلى طياره
وأقامَ السنورُ منهُ من شدةِ الجو* عِ وعيش فيه أذى ومراره
قلتُ لما رأيتهُ ناكس الرأ ** سِ كئيباً، في الجوف منه حراره
ويكَ صبراً فأنتَ من خير سنَّ ***** ور رأتهُ عينايَ قطُّ بحاره
قال: لا صبر لي، وكيف مقامي *** ببيوتٍ قفر كجوفِ الحماره
قلتُ: سر راشداً إلى بيت جارٍ **** مخصبٍ رحلهُ عظيمِ التجاره
وإذا العنكبوتُ تغزلُ فــــــــي *** دنىِّ وحبِّي و الكوزِ والقرقارَه
وأصابَ الجحامُ كلبي فأضحى ********* بين كلبٍ. وكلبةٍ عيّاره (17)
تذكرني الأبيات بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي في جسر البسفور ، وكأنه يستعير منزل أبي الشمقمق :
أَميرَ المُؤمِنينَ رَأَيتُ جِسراً ***أَمُرُّ عَلى الصِراطِ وَلا عَلَيهِ
لَهُ خَشَبٌ يَجوعُ السوسُ فيهِ ** وَتَمضي الفَأرُ لا تَأوي إِلَيهِ
وَلا يَتَكَلَّفُ المِنشارُ فيــــــهِ **** سِوى مَرِّ الفَطيمِ بِساعِدَيهِ
وَكَم قَد جاهَدَ الحَيوانُ فيـــــهِ **وَخَلَّفَ في الهَزيمَةِ حافِرَيهِ
وقال أيضاً :
ولقد قلتُ حين أجحرني البر ** دُ كما تجحرُ الكلابُ ثعاله
في بييتٍ من الغضارة قفر ** ليس فيه إلا النوى والنخاله
عطلتهُ الجرذان من قلة الخير *** وطار الذبابُ نحو زُباله
هاربات منهُ إلى كلِّ خصبٍ *** جيدة لمْ يرتجينَ منهُ بلاله
وأقام السنورُ فقيه بشرٍ ****** يسأل الله ذا العلا والجلاله
أن يرى فأرةً، فلم ير شيئاً ***** ناكساً رأسُهُ لطول الملاله
قلت لما رأيته ناكس الرأ *** س كئيباً يمشي علـى شرِّ حاله
قلتُ صبراً يا نازُ رأسَ السنا ***** نير، وعللته بحسن مقاله
قال: لا صبر لي، وكيف مقامي ***** في قفار كمثل بيد تباله
لا أرى فيه فأرة أنغض الرأ * س ومشي في البيت مشي خَيَاله
قلت : سر راشداً فخارَ لك الله ******* ولا تعــــدُ كربجَ البقاله
فإذا ما سمعت أنَّا بخير ********** في نعيم من عيشةٍ ومناله
فائتنا راشداً ولا تعدونا ******** إن منْ جازَ رحلنَا في ضلاله
قال لي قولة : عليك سلامٌ ********غير لعـــــب منه ولا ببطاله
ثمَ ولي كأنه شيخُ ســـــــوء ******* أخرجوه من محبس بكفاله (18)
نحلل هذه الأبيات كأنموذج لبقية شعره المنكود الحظ !!
إذن البرد المكلوب لاحق شمقمقنا ، لم يرفأ بحاله حتى أحجره ، كما تلاحق الكلاب الثعالب ، فتختبئ في جحورها خائفة مقرورة ، وماذا في بيته ، لا غضارة ، ولا وسائل للعيش سوى النوى والنخالة، والبؤس والكآبة ، ويسخر من وضعيته أي سخرية قائلاً : حتى الجرذان غادرته إلى مكان آخر أكثر حظاً للعيش ، وأوفر غذاء للتواصل مع الحياة الكفيفة ، أما الذباب فيتطاير حول الأوساخ المتناثرة وزبالته ، والسنور أين يذهب السنور ؟ وهو أكبر من أن تقبله الثقوب ليصطاد الجرذان والفأر التي هاجرت المنزل الكئيب ، فرفع يداه بعد الملل واليأس والقنوط داعياً رب العلا والجلاله أن يرزقه العيش المقسوم وفقاً لإرادة الحياة وسننها المشروعة ، وشاعرنا شفق على حال سنوره الجائع الذي يتلوى ضور ، فأخذ يحاوره عندما رآه ناكس الرأس:
ويك صبراً فأنت رأس السنانيـ *** ر وعللته بحسن مقالة
عليك بالصبر الجميل ، أنت الرأس والعقل والحكمة والرأي السديد ، وهذا حسن المقالة ، فأجابه سنوره الساخط الغاضب من عيشته ، وعيشة صاحبه المنكود المحارف :
قال : لا صبر لي وكيف مقامي في قفار كمثل بيد تبالة
نعم أجابه كيف - يا صاحبي - لي أن أصبر على هذه الحال المحال ، فهل أنت تسخر مني بعد أن أوصلتني إلى هذا المآل ؟!!
وترى في المقطوعة الرائعة من صور فنية ، وبديع لطيف ما يجعلنا أن نشيد بشاعرية الشمقمق حين يخلو بنفسه ، ويبتعد عن مجاراة عوام الناس وسوقيتهم ، فحواره ما كان إلا ليكشف عن حالته النفسية المؤلمة ، وتعلله بالصبر الجميل ، ويأمل نفسه بالآتي الظليل ، ومن محسنات البديع تأمل مثلاً في الاستعارة المكنية،( أحجرني البرد ) ،إذ حذف المشبه به الإنسان ، وأبقى شيئاً من لوازمه ، وهو الإلزام والإكراه ، وكذلك في الطباق الإيجابي بين عطل وطار ، إصباح و إمساء ، والطباق السلبي بين يرى ، ولم ير ....وكم أضحكني هذا البيت الأخير :
ثمَ ولّي كأنه شيخُ ســـــــوء ******* أخرجوه من محبس بكفاله
لم يكتفِ أن يجعله شيخا ً ، بل شيخ سوء مولياً ، كأنه قد أخرج من محبسه ، ولم ينسَ أن ربطه بالكفالة ، كل ذلك لأن السنور يريد أن يأكل كما تأكل مخلوقات الله ، ويذكرني هذا البيت ببيت آخر لمعاصره البطل الجريء دعبل الخزاعي ، ولكن ليس بحق سنور ، وإنما بحق السيد وزير المأمون الغاضب الساخط أبي عباد :
أولى الأمور بضيعة وفساد ***** أمر يدبّره أبو عباد
خرق على جلسائه فكأنهم*حضروا لملحمة ويوم جلاد
يسطو على كتابه بدواته *** فمضمخ بدم ونضح مداد
وكأنه من دير هزقل مفلت ***حرد يجر سلاسل الأقياد
فاشدد أمير المؤمنين وثاقه ***فأصح منه بقية الحدادِ
ودير حزقيل هو دير كان يحجر فيه المجانين الخطرين بعد تقييدهم بالسلاسل الحديدية الثقيلة كي لا يهربوا ، ويقع بين البصرة والعمارة الحالية، و (بقية الحداد) هذا المذكور هو أحد مشاهير المجانين في ذلك العصر !! ، والحقيقة أن أبا الشمقمق أكبر من دعبل بستة وثلاثين عاماً ( ولد عبل 148 هـ / 765م)، وتعاصرا نيف ونصف قرن ، ونقل دعبل خبر أبي الشمقمق وبشار حول الجزية ، إذ كان حاضراً بينهما ، وشاهداً لها وعليها !!
وقال أبو الشمقمق أيضاً :
نزل الفـــــــأرُ ببيتي *******رفقةً من بعد رفقه
حلقاً بعــــــــد قطارٍ ****** نزلوا بالبيت صَفقه
ابن عرس رأس بيتي *** صاعداً في رأس نبقه
سيفه سيفٌ جديــــــدٌ *****شقه من ضلعِ سلقه
جاءنا يطــــــــرق بالليل **** فــــــدق الباب دقه
دخل البيت جهـــــــاراً **** لم يدع في البيت فِلْقه
وتترسْ برغيــــــــفٍ ***** وصفقْ نازُويه صفقه
صفقة أبصرتُ منها ******* في سوادِ العين زرقه
زرقة مثل ابنِ عـــــرس ****** أغبشٌ تعلوهُ بلقه (19)
وقال أيضا، وهو يحاور الفأر ، والشعر من الغرائب ، نترك الجاحظ يروي :
أخذ الفأر برجلي *** جفلوا منها خفافي
وسراويلات سوء *** وتبابين ضعاف
درجوا حولي بزفن ** وبضرب بالدفاف
ساعة ثمت جازوا **عن هواي في خلاف
نقروا استي وباتوا**دون أهلي في لحافي
لعقوا استى وقالوا *** ريح مسك بسلاف
صفعوا نازويه حتى ** استهلت بالرعاف (20)
9 - ابن المعتز يروي له ، ونحن نسير معه مسرعين ...!!
في طبقات ابن المعتز ، وله في بعضهم :
وإبطك قابض الأرواح يرمي***بسهم الموت من تحت الثياب
شرابك في الشراب إذا عطشنا *** وخبزك عند منقطع التراب
وما روحتنا لتذب عنا ********** ولكن خفت مرزئة الذباب (21)
الأبيات من الوافر ، يزيدها محقق الديوان الدكتور واضح بيتاً ، ووجدته في عدة مراجع :
رأيتُ الخبز عزّ لديك حتى *****حسبتُ الخبز في جوّ السحابِ
ويذكر أن أبا الشمقمق كان يعيب طعام جعفر بن أبي زهير ، وفي ضيافته لشاعرنا هجاه بهذه الأبيات !!:
وتروى لأبي الشيص في ( محاضرات أدباء) الأصفهاني ، وفي ( محاسن وأضداد ) الجاحظ تنسب إلى أبي نواس ، إذ جاء : عن حذيفة بن محمد الطائي قال : قال الرشيد :لا أعرف لمولدٍ أهجى من قول أبي نواس :
وما روحتنا لتذب عنا ********** ولكن خفت مرزئة الذباب
شرابك في السراب إذا عطشنا *** وخبزك عند منقطع التراب (22)
وله على رواية ابن المعتز :
ذهب الموال فلا موا *** ل وقد فجعنا بالعرب
إلا بقايا أصبحوا *** بالمصر من قشر القصب
بالقول بذوا حاتما **** والعقل ريح في القرب
هذه الأبيات من مجزوء الكامل خلف الموالي خلفه ، وهو منهم ، ووجّه سهامه نحو العرب الذين هم بقايا متناثرة بلا أصل ولا لبٍّ حتى كناهم بقشر القصب لخفتهم وعدم رزانتهم سوى أقوال دون أعمال ، وعقولهم فارغة مثل الريح في القرب .
تشير هذه الأبيات أيضاً إلى مدى الصراع بين العرب والموالي بعد سقوط الدولة الأموية وبزوغ شمس الدولة العباسية ، وظهور ظاهرة الشعوبية ، إذ نادت الشعوب الإسلامية من غير أمة العرب أن تساوي العرب في القيادات العسكرية والإدارية والاجتماعية والقيادية ، ورأت أنها رفدت الدولة بالرجال والعباقرة والفكر والترجمة والشعر والأدب ، بل وصل الأمر إلى استصغار شأن العرب ورميهم بالأعراب والتخلف الاجتماعي ، فأهاجي بشار بن برد أبان سخطه وغضبه التي حسبت عليه شعوبية ومنها قوله في هجاء من افتخر من الأعراب - و على أغلب ظني قال الأبيات ارتجالاً بحق عمرو بن العلاء ، لمّا استخف بشاعريته - :
أحيـن كسيت بعد العري خزاً *** ونادمت الكـرام على العقـارِ
تفـاخـر يابن راعيـةٍ وراعٍ **** بني الأحرار حسبك من خسارِ
وكنـت إذا ضـمئت إلى قراحٍ **** شركت الكلب في ولغ الإطـار
وهذا أبو نواس هو الآخر يستخف بالأعراب وقبائلهم الشهيرة في لحظات التهتك والمجون :
قالوا ذكَرْتَ ديارَ الحيّ من أسَدٍ *** لا دَرّ درّكَ قلْ لي من بَنو أسَـدِ
و مَن تميمٌ، ومنْ قيسٌ وإخوتُهُمْ، * ليس الأعاريبُ عندَ اللهِ من أحَدِ
وحتى العرب أنفسهم حدث صراع قبلي رهيب بينهم ، بين العرب العاربة اليمانيين ، وبين العرب المستعربة النزاريين ، ولكن لم يصل إلى مس الهاشميين من بيت الخلافة ، ولا العلويين من آل بيت النبي (ص) ، كان الكميت بن زيد الأسدي يتعصب للمضريين وقد هجا اليمانيين بقصيدته المذهبة ، التي يقول فيها :
وهم كتبوا الكتاب بباب مروٍ *** وباب الصين كانوا الكاتبينا
فرد عليه دعبل الحزاعي بقصيدته الدامغة :
أفيقي من ملامك يا ظعينا *** كفاك اللّوم مرّ الأربعينا
هذه النزاعات القبلية ، والترسّبات الشعوبية ، والنظرات الشوفينية ما زالت تهيمن على العقلية العربية بشكل عام ، والعراقية على وجه الخصوص .
10 - و مما يروي ابن المعتز
ومما يرويه لنا ابن المعتز عن أشعار أبي الشمقمق ( من مجزوء الكامل ) قوله :
ويستحسن قوله:
عاد الشمقمق في الخسارة* وصبا وحن إلى زراره
من بعد ما قيل ارعــوي ** وصحا لأبواب الشطارة
من قهــــوةٍ مسكيّــــةٍ ******واللون مثل الجلنارة
تدع الحليـم بلا نهــى *****حيران لـــيس به إحاره
ولربما غنــــــى بهـا *****يا جارتا ما كنــــت جاره
يا أيها المـلك الذي ******* جمـع الجلالــــة والوقاره
ورث المكارم صالحا ******* والجـــود منه والعماره
إني رأيتك في المـنا ****** م وعدتني منـــــك الزياره
فغدوت نحوك قاصـدا ***** وعليك تصديـــــق العباره
أني أتاني بالنـــــدى ****** والجود منـــــك إلى البشاره
إن العيال تركتهــــم **** بالمصر خــــــــبزهم العصاره
وشرابهم بول الحمــا **** ر مزاجه بـــول الـــــــحماره
ضجوا فقلت تصبــــروا******* فالنجح يقــرن بالصباره
حتى أزور الهاشـــــم ******* ي أخــا الغضارة والنضارة
ولقد غدوت وليس لـــــــي ******** إلا مديحـك من تجاره (23)
وله أيضا
ما جمع الناس لدنياهم *** أنفع في البيت من الخبز
والخبز باللحم إذا نلته ***** فأنت في أمن من الترز
والقلز من بعد على إثره **** فإنما اللذات في القلز
وقد دنا الفطر وصبياننا **** ليسوا بذي تمر ولا أرز
وذاك أن الدهر عاداهم ******* عداوة الشاهين للوز
كانت لهم عنز فأودي بها ***** وأجدبوا من لبن العنز
فلو رأوا خبزا على شاهق **** لأسرعوا للخبز بالجمز
ولو أطاقوا القفز ما فاتهم ******* وكيف للجائع بالقفز (24)
ومما يستحسن قوله :
يبس اليدين فما يسطيع بسطهما ***** كأن كفيه شدا بالمسامير
عهدي به آنفا في مربط لهم ** يكسكس الروث عن نقر العصافير(25)
وشعر أبي الشمقمق نوادر كله (26)
11 - أبو الشمقمق رائد كدية الشعراء :
شاعر ليس لديه ما يفقده بعد أن خسر كرامته ، ولمّا تخلى عنه مجتمعه كي يحفظ ماء وجه ، هذا مصيره وتفلسف مع وجوده فطنة وضرورة ، والجوع أبو الكفار ، وتبعه على نهجه شعراء الكدية ، ماذا تنتظر من شاعر قال ما قال كما أسلفنا ؟ ونذكرك للتأمل والربط :
ولقد قلتُ حين أقفرَ بيتي ***** من جراب الدقيقِ والفخارَه
فأرى الفأر قد تحنبن بيتي *******عائذاتٍ منه بدار الإماره
أو قوله :
ولقد قلتُ حين أجحرني البر ** دُ كما تجحرُ الكلابُ ثعاله
في بييتٍ من الغضارة قفر ** ليس فيه إلا النوى والنخاله
عطلتهُ الجرذان من قلة الخير *** وطار الذبابُ نحو زُباله
أحسن حالاته لما يضيق به الحال يلجأ لصاحبه بشار يستجدي منه ، كما يروي لنا صاحب (الأغاني ) :خبرني هاشم قال حدثني دماذ قال حدثني رجل من الأنصار قال
جاء أبو الشمقمق إلى بشار يشكو إليه الضيقة ويحلف له أنه ما عنده شيء فقال له بشار والله ما عندي شيء يغنيك ولكن قم معي إلى عقبة بن سلم فقام معه فذكر له أبا الشمقمق وقال هو شاعر وله شكر وثناء فأمر له بخمسمائة درهم فقال له بشار :
يا واحد العرب الذي *** أمسى وليس له نظير
لو كان مثلك آخر ******ما كان في الدنيا فقير
فأمر لبشار بألفي درهم فقال له أبو الشمقمق نفعتنا ونفعناك يا أبا معاذ فجعل بشار يضحك . ( 27)
الحقيقة يذكر ابن المعتز وغيره عن تفشي ظاهرة كدية الشعراء ، وبحرفية أمهر وأشنع بعد أن بذر بذرتها الأولى أبو الشمقمق ، فإليك ابن المعتز و(طبقاته)،وأخبار أبي فرعون الساسي :
" حدثني أبو محرز الكوفي قال: أتى أبو فرعون الساسي أبا كهمس التاجر فسأله، فأعطاه رغيفاً من الخبز الحواري كبيراً، فصار إلى حلقة بني عديٌ، فوقف عليهم وهم مجتمعون، فأخرج الرغيف من جرابه، وألقاه في وسط المجلس وقال: يابني عدي استفحلوا هذا الرغيف، فإنه أنبل نِتاج على وجه الأرض، قالوا: وما ذاك؟ فأخبرهم، فاجتمعوا إلى آبى كهمس التاجر فقالوا: عرضتنا لأبي فرعون وقد مزقنا كل ممزق.
ومما يستملح له - وكان من أفصح الناس وأجودهم شعراً، وأكثرهم نادرة، ولكنه لا يصبر عن الكدية.... - وهو القائل :
ليس إغلاقي لبابي أن لي ** فيه ما أخشى عليه السرقا
إنما أغلقه كي لا يرى *** سوء حالي من يجوب الطرقا
منزلٌ أوطنه الفقر فلو ******** دخل السارق فيه سُرقا
لا تراني كاذباً في وصفه **** لو تراه قلت لي: قد صدقا
(.... ) وهذه القصيدة من خيارها : والذي أخذ فيه طريق الجد كلمته في الحسن بن سهل وقد أجمع الناس على حسنها وفصاحتها وهي قوله :
سُقياً لحى باللوى عهدتهم **** منذ زمان ثم هذا عهدهم
عهدتهم والعيش فيه غرة ***** ولم يناو الحدثان شعبهم
ولم يبينوا لنوى قذافة *****تقطع من وصل حبالي حبلهم
فليت شعري هل لهم من مطلب***أو أجدن ذات يوم بدلهم
الناس أشباهٌ كما قد مثلوا ****** وفيهم خير وأنت خيرهم
حاشا أمير المؤمنين إنه ******** خليفة الله وأنت صهرهم
فأحسنوا التدبير لما ناصحوا ***وأمنوا العتب فطال نصحهم
إليك أشكو صبية وأمهم ******** لا يشبعون وأبوهم مثلهم
قد أكلوا اللحم ولم يشبعهم **** وشربوا الماء فطال شربهم
وامتذقوا المذق فما أغناهم***والمضغ إن نالوه فهو عُرسهم
لا يعرفون الخبز إلا باسمه ***** والتمر هيهات فليس عندهم
وما رأوا فاكهة في سوقها ****وما رأوها وهي تنحو نحوهم
زعر الرءوس قرعت هاماتهم ... من البلا واستك منهم سمعهم
كأنهم جناب أرض مجدب ***** محل فلو يعطون أوجي سهمهم
بل لو تراهم لعلمت أنهــم ********* قــــوم قليل ريهم وشبعهم
وجحشهم أجرب منقور القرى **** ومثل أعواد الشكاعي كلبهم
كأنهم كانوا وإن وليتــــــــــهم ********طراً مواليِّ وكنت عبدهم
مجتهداً بالنصح لا آلوهـــــــــــم ***** أدعو لهم يا رب سلم أمهم " . (28)
يذكر عباس هاني الجراح في معرض جمعه وتحقيقه لديوان أبي فرعون الساسي أن أسمه ( شو يس)، وهو عربي من عدي بن الرباب بن عبد مناة بن أد بن طابخه ، وكنيته : ( أبو فرعون ) ، و يطلق علية : شويس العدوي . إما لقبه (الساسي) ، فقيل نسبة إلى قرية الساس ، أسفل واسط
وأبو فرعون هذا " شيخ قصير، عظيم الهامة، كث اللحية " ، عاش في البصرة في العصر العباسي، و كان بدوياً، إعرابيا، سائلاً، " لا يصبر عن الكدية " ) ! و لا نعرف سنة وفاته تحديداً، و إن كنا نرجح انه توفي في أوائل القرن الثالث الهجري ، ويذكر أن أدونيس أرخ وفاته 212 هـ دون سند،وأنني أميل لهذا التاريخ من حيث مدحه للحسن بن سهل وزير المأمون . (29)
12 - أبو هلال العسكري وأبو الشمقمق والخليفة الهادي وزب رباح :
حكى أن أبا الشمقمق دخل على الهادى وسعيد بن سلمٍ عنده، فأنشده :
شفيعى إلى موسى سماح يمينه **** وحسب امرىءٍ من شافعٍ بسماح
وشعرى شعرٌ يشتهى الناس أكله **** كما يشتهى زبــــــــــدٌ بزب رباح
فقال له الهادى: ويلك! ما زب رباح؟ قال : تمرٌ عندنا بالبصرة، إذا أكله الإنسان وجد طعمه في كعبه، قال: ومن يشهد لك؟ قال: القاعد عن يمينك. قال: أكذا يا سعيد؟ قال نعم، فأمر له بألفى درهم، قال سعيد: فو الله لقد شهدت له، وما أعرف صحة ما قال . (30) ويقال كان خادم واقفاً إلى جنب الخليفة الهادي ، والله أعلم !!
وأخيراً من الجميل أن نختم الموضوع الشمقمقي بالحج ، على ما يبدو لنا كانت هنالك رغبة مكبوتة في العقل الباطن ، ويسندها العقل الظاهر بما يرى من لصوصية التجار ، وغصب الموسرين لحقوق الآخرين ، وتسلط المتجبرين على أعناق المستضعفين ، فرمى هذين البيتين :
إذا حججت بمال أصله دنس *** فما حججت ولكن حجت العِيرُ
لا يقبل الله إلا كل طيبة ********* ما كل حج ببيت الله مبرورُ (31)
نكتفي بهذا القدر من حديثنا عن أبي الشمقمق ، والحديث شجون ، والدنيا شؤون ، والله يعلم ، ونحن وأنتم قلّ ما نعلم وقلّ ما تعلمون !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) تاريخ بغداد : الخطيب البغدادي م. س . .
( 11) الأغاني : أبو الفرج الأصفهاني : - ج - ص ...- دار الفكر - بيروت - ط2 - تحقيق سمير جابر .
( 12) م . ن . ج - ص .
(13) الأغاني : ج ص - م. س .
(14) الأغاني : ج ص م . س .
(15) م . ن .
(16) طبقات الشعراء : ابن المعتز م . س .
(17) ، (18) ، ( 19) ، (20) الحيوان : الجاحظ - ( 1 / - 1 / ) - الموسوعة الشاملة - الوراق .
(21) طبقات الشعراء : ابن امعتز - / -
(22) ديوان أبي الشمقمق : ص- م . س .
(23) ، (24) ، ( 25) ، (26) طبقات الشعراء : ابن امعتز - 1 / - الموسوعة الشاملة (27) الأغاني : ( ) م . س .
(28) طبقات الشعراء : ابن المعتز -1 - م. س .
(29)
مجلة الجندول AL JANDOOL MAGAZINE
مجلة ادبية فكرية تصدر في محافظة القادسية ، السنة الثانية: ، تشرين2 (نوفمبر) 2004 - مجلة علوم انسانية - شعر أبي فرعون الساسي - جمع و تحقيق عباس هاني الجراخ / باحث و محقق / جامعة بابل .
(30) جمهرة الأمثال : أبو هلال العسكري - 1 / - الموسوعة الشاملة - الوراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق