(4)تبني الدبلوماسية بدل المواجهة
إذا كانت بريطانيا قد اتخذت قرارا مفعما بالتصميم على تمكين المشروع الصهيوني في فلسطين، فإن النظام الرسمي العربي وقتها، وحتى الآن، اتخذ قرارا باعتماد الدبلوماسية وعدم وضع خيار المواجهة مع هذا المشروع كخيار استراتيجي، وهذا شمل الدول التي كانت مستقلة، والتي استقلت لاحقا، وتتلخص سياسة النظام العربي بمحاولة ثني القوى الدولية الكبرى(بريطانيا سابقا والولايات المتحدة حاليا) عن تبني السياسات الصهيونية ودعمها المطلق لها، باتباع الطرق الدبلوماسية، بالتوازي مع جهود عربية رسمية مكثفة لتهدئة الثورات الشعبية الفلسطينية المتلاحقة وأعمال المقاومة في الأراضي الفلسطينية.
لو أخذنا ثورة عام 1936م والمعروفة بالثورة الكبرى، لوجدنا أنها النموذج والمثال الصارخ على تلكم السياسة العربية الثابتة، والتي لم تتغير بتغير الظروف السياسية الدولية والإقليمية والمحلية الفلسطينية بطبيعة الحال.
فتلك الثورة أثبتت قدرة الشعب الفلسطيني، مع من ساعده من المجاهدين العرب، على اجتراح المعجزات، وصناعة البطولات، والصمود في سبيل تحقيق الأهداف، والحيلولة دون تمكين المهاجرين اليهود، المدعومين بالمال والسلاح والقوانين الممفصلة على مقاسهم من قبل البريطانيين، وكاد هؤلاء أن يعيدوا النظر بمخططاتهم ومشاريعهم، أو على الأقل أن يتخلوا عن كثير من طموحاتهم، وأن يقلصوا حجم مطامعهم، وذلك في ظل ثورة شعبية وإضراب شامل، لم يسبق له مثيل، ولم تفلح في كسر تلك الثورة كل إجراءاتهم القمعية، ولا حشوداتهم العسكرية التي بلغت عشرات الآلاف من الجنود والضباط القادمين من بريطانيا نفسها، ومن مستعمراتها في العالم، واضطرارهم إلى تغيير القيادة العسكرية في مواجهة الثورة العارمة مرات عدة؛ ولكن الملوك والزعماء العرب ظلوا يراهنون على الدبلوماسية، وثقتهم بالحكومة البريطانية لم تتضعضع، كما جاء في النداء الذي وجهوه إلى الشعب الفلسطيني عبر اللجنة العربية العليا، فتوقف الإضراب وأعمال المقاومة المنظمة والعفوية التي استمرت حوالي 6 شهور بعيد ذلك النداء المعروف؛ والذي كان-ويا لها من مفارقة- في ذكرى الإسراء والمعراج!
(5)عواطف وظروف
وقد يرى بعض من أستعرض هذه الحقائق أمامهم، أنها تستبطن مبالغة في تحميل النظام العربي الرسمي وحده مسئولية وقف الثورة، وذلك من وجهين، الأول:أن البريطانيين واليهود على الرغم مما واجهوه من مقاومة عنيفة فإن ضغطهم العسكري المتزايد على أهل فلسطين أنهك الناس كثيرا، وجاءهم النداء العربي كمخرج مشرّف، والثاني:أن القيادات المحلية الفلسطينية وإن كانت متحدة ظاهريا،ولكن فيهم ومنهم، من هو صنو النظام العربي الرسمي، ويرى ألا طائل من الثورة والمواجهة باعتبارها استراتيجية كفيلة بدحر المشروع الصهيوني المدعوم من بريطانيا، وإلا لماذا استجاب الناس بسرعة قياسية لذلك النداء؟
ولكن لو قرأنا الظروف السياسية والحالة النفسية لوجدنا أن النظام العربي الرسمي له حصة الأسد وأكثر في وقف الثورة(المرحلة الأولى)؛ ذلك أن الحالة العاطفية السائدة عند أهل فلسطين ترى أن من الضروري تحقيق الوحدة العربية، بل إن مقاومة المشروع الخبيث، تهدف وفق تلك الحالة إلى الالتحاق بمشروع وحدة عربية كانوا يتخيلونه منذ نهاية أو أواخر عهد السلطنة العثمانية، وكما أوضحت في المقال السابق الموسوم بـ(فلسطين والمؤثرات العربية) فإنه لم تكن للشعب الفلسطيني هوية وطنية متبلورة في ذلك الوقت، بعكس ما كان عليه الحال في الجوار العربي، الذي بلور هوياته القطرية والوطنية-بغض النظر عن أنها ناجمة عن الاستعمار- مع خطاب عاطفي يدعو للدولة القومية لا القطرية، وينادي بضرورة الوحدة العربية، وقد كان الفلسطينيون قيادة وشعبا أسرى ذلك الخطاب، وهذا طبيعي في ذلك الوقت، نظرا لأن الممارسة السياسية لهؤلاء متواضعة، والحصول على المعلومات لم يكن بالسهولة التي نراها حاليا، ولأنهم وجدوا أنفسهم-في زمن قياسي- في حالة مواجهة شرسة مع عدو ماكر يمتلك المال والسلاح والتقدم العلمي والتجربة الاستعمارية الطويلة، وكانت أولويتهم التصدي لمخططاته، وليس البحث عن هوية وطنية قطرية، بل لربما اعتقدوا أن تكوين مثل هذه الهوية بمثابة (خيانة) للمشروع الأوسع الذي يداعب مخيالهم، المتمثل بالوحدة العربية!
بل إن توصيات اللجنة الملكية البريطانية التي كلفت بالتحقيق بعد انتهاء الإضراب الطويل، قد أوصت بإقامة دولة يهودية في جزء من فلسطين، وإبقاء القدس وحيفا تحت الانتداب البريطاني، وضم ما بقي من فلسطين إلى شرق الأردن؛ أي لا حديث ولو من قبيل الحبر على الورق عن دولة فلسطينية على أي شبر من فلسطين، وقد رفض الفلسطينيون توصيات اللجنة، ليس لهذه الملاحظة، بل لرفضهم المبدئي فكرة التقسيم ومنح اليهود أي جزء من فلسطين.
(6)زيادة النفوذ العربي
لا أبتعد-رعاك الله- عن الحقيقة إذا قلت بأن المراحل والسنوات التي تلت ثورة36 وما رافقها من استقلال متتابع للبلاد العربية، التي رسم لها أن تكون قطرية لا قومية بالقلم الاستعماري الراسم لخرائطها، قد حملت ضمنا زيادة النفوذ العربي على القيادة والشعب الفلسطيني؛ ولا شك أن الدولة القطرية العربية، تفكر في البقاء والاستمرار والاستقرار، وليس في فكرها السياسي أي نية لتفعيل المواجهة أو دعم الثورة، وهي تلقائيا تقبل بالحدود المرسومة ضمنا لها والتي أشرنا إليها في السطور السابقة، أي الضغط الدبلوماسي، وحتى التوسل للقوى والدول العظمى والكبرى، لمحاولة الحصول على أي شيء-يضمن بياض الوجه- منها، ومن ثم ممارسة الضغط الناعم أو الخشن على الفلسطينيين كي يقبلوا بما يمكنها تحصيله...وقد تدحرجت هذه السياسة الثابتة عربيا(استبعاد المواجهة والثورة تماما) حتى وصلت إلى مرحلة نراها حاليا، باعتبار الكيان العبري البوابة والممر الضروري والوحيد لنيل رضا وقبول الدول العظمى!
ولم يكن لتغير النظام السياسي في عدة أقطار عربية دور في تغيير أو تبديل هذه السياسة بعكس ما ظن المتحمسون من النخب القومية، أو من عامة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية؛ فالنظم الجديدة –غالبها جاء بانقلابات عسكرية-هي الأخرى تريد قبولا أو على الأقل ضمان عدم مضايقة من الدول العظمى، وهذه الأخيرة، لن تعطيهم ختم القبول وصك الرضا إذا تبنوا سياسة جديدة تقوم على استراتيجية المواجهة مع المشروع الصهيوني، لأن هذا المشروع ببساطة هو مشروع دولي، يجب أن يستمر ويستقر بغض النظر عمن يحكم الدول العربية من شخصيات أو أحزاب.
وفي مقال قادم-بمشيئة الله-سنواصل الحديث عن التأثير العربي السلبي على مسار القضية الفلسطينية في مفاصل تاريخية مهمة بعد المرحلة الأولى من الثورة الكبرى.
إذا كانت بريطانيا قد اتخذت قرارا مفعما بالتصميم على تمكين المشروع الصهيوني في فلسطين، فإن النظام الرسمي العربي وقتها، وحتى الآن، اتخذ قرارا باعتماد الدبلوماسية وعدم وضع خيار المواجهة مع هذا المشروع كخيار استراتيجي، وهذا شمل الدول التي كانت مستقلة، والتي استقلت لاحقا، وتتلخص سياسة النظام العربي بمحاولة ثني القوى الدولية الكبرى(بريطانيا سابقا والولايات المتحدة حاليا) عن تبني السياسات الصهيونية ودعمها المطلق لها، باتباع الطرق الدبلوماسية، بالتوازي مع جهود عربية رسمية مكثفة لتهدئة الثورات الشعبية الفلسطينية المتلاحقة وأعمال المقاومة في الأراضي الفلسطينية.
لو أخذنا ثورة عام 1936م والمعروفة بالثورة الكبرى، لوجدنا أنها النموذج والمثال الصارخ على تلكم السياسة العربية الثابتة، والتي لم تتغير بتغير الظروف السياسية الدولية والإقليمية والمحلية الفلسطينية بطبيعة الحال.
فتلك الثورة أثبتت قدرة الشعب الفلسطيني، مع من ساعده من المجاهدين العرب، على اجتراح المعجزات، وصناعة البطولات، والصمود في سبيل تحقيق الأهداف، والحيلولة دون تمكين المهاجرين اليهود، المدعومين بالمال والسلاح والقوانين الممفصلة على مقاسهم من قبل البريطانيين، وكاد هؤلاء أن يعيدوا النظر بمخططاتهم ومشاريعهم، أو على الأقل أن يتخلوا عن كثير من طموحاتهم، وأن يقلصوا حجم مطامعهم، وذلك في ظل ثورة شعبية وإضراب شامل، لم يسبق له مثيل، ولم تفلح في كسر تلك الثورة كل إجراءاتهم القمعية، ولا حشوداتهم العسكرية التي بلغت عشرات الآلاف من الجنود والضباط القادمين من بريطانيا نفسها، ومن مستعمراتها في العالم، واضطرارهم إلى تغيير القيادة العسكرية في مواجهة الثورة العارمة مرات عدة؛ ولكن الملوك والزعماء العرب ظلوا يراهنون على الدبلوماسية، وثقتهم بالحكومة البريطانية لم تتضعضع، كما جاء في النداء الذي وجهوه إلى الشعب الفلسطيني عبر اللجنة العربية العليا، فتوقف الإضراب وأعمال المقاومة المنظمة والعفوية التي استمرت حوالي 6 شهور بعيد ذلك النداء المعروف؛ والذي كان-ويا لها من مفارقة- في ذكرى الإسراء والمعراج!
(5)عواطف وظروف
وقد يرى بعض من أستعرض هذه الحقائق أمامهم، أنها تستبطن مبالغة في تحميل النظام العربي الرسمي وحده مسئولية وقف الثورة، وذلك من وجهين، الأول:أن البريطانيين واليهود على الرغم مما واجهوه من مقاومة عنيفة فإن ضغطهم العسكري المتزايد على أهل فلسطين أنهك الناس كثيرا، وجاءهم النداء العربي كمخرج مشرّف، والثاني:أن القيادات المحلية الفلسطينية وإن كانت متحدة ظاهريا،ولكن فيهم ومنهم، من هو صنو النظام العربي الرسمي، ويرى ألا طائل من الثورة والمواجهة باعتبارها استراتيجية كفيلة بدحر المشروع الصهيوني المدعوم من بريطانيا، وإلا لماذا استجاب الناس بسرعة قياسية لذلك النداء؟
ولكن لو قرأنا الظروف السياسية والحالة النفسية لوجدنا أن النظام العربي الرسمي له حصة الأسد وأكثر في وقف الثورة(المرحلة الأولى)؛ ذلك أن الحالة العاطفية السائدة عند أهل فلسطين ترى أن من الضروري تحقيق الوحدة العربية، بل إن مقاومة المشروع الخبيث، تهدف وفق تلك الحالة إلى الالتحاق بمشروع وحدة عربية كانوا يتخيلونه منذ نهاية أو أواخر عهد السلطنة العثمانية، وكما أوضحت في المقال السابق الموسوم بـ(فلسطين والمؤثرات العربية) فإنه لم تكن للشعب الفلسطيني هوية وطنية متبلورة في ذلك الوقت، بعكس ما كان عليه الحال في الجوار العربي، الذي بلور هوياته القطرية والوطنية-بغض النظر عن أنها ناجمة عن الاستعمار- مع خطاب عاطفي يدعو للدولة القومية لا القطرية، وينادي بضرورة الوحدة العربية، وقد كان الفلسطينيون قيادة وشعبا أسرى ذلك الخطاب، وهذا طبيعي في ذلك الوقت، نظرا لأن الممارسة السياسية لهؤلاء متواضعة، والحصول على المعلومات لم يكن بالسهولة التي نراها حاليا، ولأنهم وجدوا أنفسهم-في زمن قياسي- في حالة مواجهة شرسة مع عدو ماكر يمتلك المال والسلاح والتقدم العلمي والتجربة الاستعمارية الطويلة، وكانت أولويتهم التصدي لمخططاته، وليس البحث عن هوية وطنية قطرية، بل لربما اعتقدوا أن تكوين مثل هذه الهوية بمثابة (خيانة) للمشروع الأوسع الذي يداعب مخيالهم، المتمثل بالوحدة العربية!
بل إن توصيات اللجنة الملكية البريطانية التي كلفت بالتحقيق بعد انتهاء الإضراب الطويل، قد أوصت بإقامة دولة يهودية في جزء من فلسطين، وإبقاء القدس وحيفا تحت الانتداب البريطاني، وضم ما بقي من فلسطين إلى شرق الأردن؛ أي لا حديث ولو من قبيل الحبر على الورق عن دولة فلسطينية على أي شبر من فلسطين، وقد رفض الفلسطينيون توصيات اللجنة، ليس لهذه الملاحظة، بل لرفضهم المبدئي فكرة التقسيم ومنح اليهود أي جزء من فلسطين.
(6)زيادة النفوذ العربي
لا أبتعد-رعاك الله- عن الحقيقة إذا قلت بأن المراحل والسنوات التي تلت ثورة36 وما رافقها من استقلال متتابع للبلاد العربية، التي رسم لها أن تكون قطرية لا قومية بالقلم الاستعماري الراسم لخرائطها، قد حملت ضمنا زيادة النفوذ العربي على القيادة والشعب الفلسطيني؛ ولا شك أن الدولة القطرية العربية، تفكر في البقاء والاستمرار والاستقرار، وليس في فكرها السياسي أي نية لتفعيل المواجهة أو دعم الثورة، وهي تلقائيا تقبل بالحدود المرسومة ضمنا لها والتي أشرنا إليها في السطور السابقة، أي الضغط الدبلوماسي، وحتى التوسل للقوى والدول العظمى والكبرى، لمحاولة الحصول على أي شيء-يضمن بياض الوجه- منها، ومن ثم ممارسة الضغط الناعم أو الخشن على الفلسطينيين كي يقبلوا بما يمكنها تحصيله...وقد تدحرجت هذه السياسة الثابتة عربيا(استبعاد المواجهة والثورة تماما) حتى وصلت إلى مرحلة نراها حاليا، باعتبار الكيان العبري البوابة والممر الضروري والوحيد لنيل رضا وقبول الدول العظمى!
ولم يكن لتغير النظام السياسي في عدة أقطار عربية دور في تغيير أو تبديل هذه السياسة بعكس ما ظن المتحمسون من النخب القومية، أو من عامة الشعب الفلسطيني والشعوب العربية؛ فالنظم الجديدة –غالبها جاء بانقلابات عسكرية-هي الأخرى تريد قبولا أو على الأقل ضمان عدم مضايقة من الدول العظمى، وهذه الأخيرة، لن تعطيهم ختم القبول وصك الرضا إذا تبنوا سياسة جديدة تقوم على استراتيجية المواجهة مع المشروع الصهيوني، لأن هذا المشروع ببساطة هو مشروع دولي، يجب أن يستمر ويستقر بغض النظر عمن يحكم الدول العربية من شخصيات أو أحزاب.
وفي مقال قادم-بمشيئة الله-سنواصل الحديث عن التأثير العربي السلبي على مسار القضية الفلسطينية في مفاصل تاريخية مهمة بعد المرحلة الأولى من الثورة الكبرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق