معظم الذين أشهروا رفضهم للمشاركة في جنازة شمعون بيرس أكدوا المعروف والمؤكد وبرروا الطبيعي والمتوقع، وجميعهم فعلوا ذلك مستعينين بسرد تاريخ الرجل منذ صباه حتى آخر يوم في حياته، وهو تاريخ، بقدر ما استفزهم وأغضبهم ومنعهم، بحق، من المشاركة في الجنازة، سيبقى محفورًا في سجلات اليهود والحركة الصهيونية ودولة إسرائيل.
لقد اتخذوا قرارهم في البداية ثم رسموا الهدف وأطلقوا عليه سهامهم، فهل يعقل، هكذا كان سؤالهم الاستنكاري، أن نشارك في جنازة من كان له هذا التاريخ؟
قد تعد محاولتي لنبش هذه المسألة من زوايا أغفلها شبه النقاش الذي كان وطمرها ضجيج الأصوات المعلنة، مشاكسةً أو مشاغبة أو حتى استفزازًا لما بدا كإجماع عربي حاسم، لكنني سأحاول، رغم ذلك، إثارة القضية لإيماني بأهميتها، لا سيما وأنا ألمس فيها أبعادًا لم يستعرضها المشهد العام وتبعات غُيّبت أو غابت والخوض فيها سيثري تجربتنا ويفيدنا في وجه حالات طارئة ومعضلات سينتجها واقعنا الخاص في إسرائيل؛ هذا علاوة على ما سمعت من همهمات عاتبة ومنتقدة في مجالس عديدة لمقاطعة القائمة المشتركة بشكل عام، بينما خص البعض موقف الجبهة الديمقراطية للسلام والحركة العربية للتغيير، فهل كان موقف القائمة المشتركة محط إجماع جارف وبديهي، كما حاول أعضاؤها أن يقولوا؟
بدايةً أوضح أن نقاشي في هذا المقال هو مع موقف القائمة المشتركة وليس مع الأفراد أو المجموعات أو حتى مؤسسات قائمة وناشطة بيننا ولم تشارك في جنازة بيرس؛ فهذه ليست المرة الأولى التي تتبنى فيها القائمة موقفًا إزاء حدث عام وهام من دون أن يجتمع أعضاؤها ويتعبوا أنفسهم بنشر بيان يعلل أسباب تبنيهم لهذا الموقف أو دواعي ذلك.
لقد فهم من تصريحات لبعض الأعضاء في القائمة، وأحسب أنها محاولة منهم لتبرير ذلك القصور، أنهم لم يكونوا بحاجة لعقد مثل هذا اللقاء، فمقاطعة القائمة للجنازة كانت الموقف الوحيد المفروغ منه! مع أنني أعرف أن ما جرى كان مغايرًا وتصريحات هؤلاء غير دقيقة.
سكوت القائمة وعدم نشر بيان موجه أولًا للجماهير التي انتخبتها- ومن ثم للمواطنين اليهود في الدولة - يعد استسخافًا بالمواطنين وتصرفًا بفوقية مرفوضة وتكرار ذلك يعكس عدم احترامهم لمؤسساتهم الحزبية التي على ما يبدو أصبحت عندهم ليس أكثر من "زينات مملكات".
علاوة على هذه الجزئية الإجرائية الهامة تبقى المسألة الجوهرية هي الأهم والأصل، فهل حقًا كانت مقاطعة الجنازة هي خيار الجماهير العربية الأفضل الواحد والوحيد؟ وهل حقًا كانت هي الموقف المحسوم عند المؤسسات القيادية العربية والرأي السائد في الأوساط العامة والنخبوية؟ وعلى أي أساس صرح البعض ووصم من سيشارك في الجنازة بالعمالة؟ ألم يكن الواقع مغايرًا؟
يجب على قادة القائمة المشتركة، أو بعضهم، أن يستشعروا ما هي التغيرات الحاصلة بين الناس والمواقف الجديدة المتراكمة في صفوفهم. فقد يكون تفشي ظاهرة العزوف عن العمل السياسي بين القواعد الشعبية هي من أخطر التطورات التي أثرت وأدت إلى إبعاد المواطنين عن الأطر السياسية ورمت ببعضهم في أحضان الدولة أو اللامبالاة أو في حضن الحركات الإقصائية التي تنادي بضرورة مقاطعة الدولة ومؤسساتها؛ ولعل أبرز معالم هذه الحالة وأخطرها هو ما لاحظناه في انتخابات البلديات والمجالس العربية الأخيرة والتي جرت بعيدًا عن تأثير الأحزاب والحركات السياسية الشريكة في القائمة المشتركة ومداراتها، وأنتجت ما أنتجته من جيل رؤساء سلطات جديد شكلّوا حالة قيادة ما زالت معالمها تتبلور هناك في المساحات الرمادية المتفاعلة بين الدولة ومؤسساتها وبين المواطن الفرد ومصالحه، فمعظم هؤلاء الرؤساء لا ينتمون حزبيًا للقائمة المشتركة، ويتصرفون بشكل مستقل أو معاكس لسياساتها.
من هنا قد تكون خطوة السيد مازن غنايم رئيس بلدية سخنين ورئيس لجنة رؤساء السلطات البلدية والمحلية العربية في إسرائيل والوفد المرافق له بتقديم واجب العزاء في موت بيرس وما قالوه على الملأ في ذلك المقام أسطع برهان على عدم صحة فرضيات ومبررات المشتركة التي سيقت باستخفاف وبعدم مسؤولية. فوفد المعزين تكون من عشرات رؤساء المجالس والبلديات العربية الذين يمثلون فعليًا حوالي الربع مليون مواطن (وهو عدد سكان تلك البلدات بالتقريب)، مع العلم أن السيد مازن ومن معه حضروا معزين وتحدثوا باسم جميع الرؤساء العرب المنتخبين في إسرائيل، في حين لم نسمع عن أي اعتراض من رئيس سلطة محلية أو بلدية قبل الزيارة أو بعدها.
لقد أحس النائب أيمن عودة بالخلل الحاصل فبادر في الرابع من الشهر الجاري، إلى نشر مقابلة لافتة ومطولة تحدث فيها في وسائل الاعلام عن دوافع اتخاذه لقرار المقاطعة. من الملاحظ أنه لم يكتف، كغيره من النواب، بايقاف المبررات على تاريخ بيرس الشخص، فشدد على أنه يحترم كل الآراء مضيفًا رفضه لتعامل المؤسسة الإسرائيلية معنا، ونحن أقلية قومية، بفوقية واستعلاء، ومؤكدًا رفضه للهيمنة والعنصرية، وجزمه أن المواطنة لا تتحقق بإلغاء الذات، وإيمانه بضرورة الشراكة الحقيقية الكاملة في الدولة مع معرفته أن الطريق إليها وعرة، ثم عاد وشكر، في النهاية، من انتقد ومن لاحظ ومن أثنى على موقفه ونادى بضرورة مواصلة الحوار الوطني.
لن أناقش ما جاء في تلك المقابلة، فأغلب ما ذكره أيمن عودة سببًا لعدم مشاركته في الجنازة يصلح برأيي وبرأي من لم يتعمد وضع القرار قبل النقاش، مسوّغًا للمشاركة. كل ما ذكره قد يصير مبررًا للمشاركة إلا ما قاله بوجع شخصي وعام يبقى غير قابل للتفاوض والنقاش؛ فتاريخ الجنازة صادف مع تاريخ إحياء هبة اكتوبر ٢٠٠٠ وفي هذا يقول أيمن بصدق واضح: "وقفت أمام أضرحة الشهداء وذهبت مع زوجتي وأبنائنا الثلاث لوضع الزهور على ضريح أخ زوجتي الصغير أسيل عاصله.. هل هناك من أساطين الإنسانية من فكر بأن أذهب لجنازة الوزير في حكومة براك سنة ٢٠٠٠ الذي لم يفكر بأن يعتذر، وفي اليوم الثاني أن أزور أضرحة ضحاياه أبنائنا". لا حق لأحد ولن يطالبك أحد على وجه المعمورة أن تشارك في الجنازة.
ولكن للسياسة حقها وعلى القائمة المشتركة حقوق وواجبات. ففي العام ٢٠٠٧ جرت انتخابات رئيس دولة إسرائيل وتنافس فيها ثلاثة من القادة الصهيونيين المعروفين: شمعون بيرس، رؤوڤين ريڤلن وكوليت أڤيتال. كانت الأحزاب العربية ممثلة بعشرة أعضاء (ثلاثة عن الجبهة الديمقراطية، وثلاثة لحزب التجمع وأربعة للقائمة العربية)، وقد شارك معظم النواب العرب في عملية التصويت. حصل بيريس على ٥٨ صوتا ولم ينجح في الجولة الأولى بنقصان صوتين. قبل بدء الجولة الثانية انسحب ريڤلين واڤيتال فانتخب بيرس بالاجماع وصار رئيسًا للدولة.
بعد تسعة أعوام مات بيرس الذي لم يكن موجودًا في جنازته، لكن القائمة المشتركة استحضرت تاريخه لتعلل غيابها مع أن تلك لم تكن جنازة فحسب، ولو كانت فقط كذلك فللأشخاص حق أن يختاروا مواقفهم ويغضبوا وأن ينسفوا في لحظات إنسانية حارقة كل الجسور والمرايا؛ ولكن على القادة السياسيين يبقى، عندما ترف أجنحة التاريخ، واجب استشراف الأمل والتمسك في الفرصة حتى وهي في عمق الجرح واللوعة. إنها القدرة على إماتة الموت الذي مهما كان أسود يجب، عند من يقود شعبًا، ألا يجمح خياله ويعطّله وألا يطفئ النوار والنور في القمم.
لقد شاركت أحزابكم في انتخاب رئيس دولة إسرائيل حين فاز فيها شمعون بيرس الحي فكيف تغيرت مواقف أحزابكم في ساعة الموت وتحولت "البديهية" من النقيض إلى النقيض.. من حقنا أن نعرف.
مات بيرس وحضر العالم بنفاقه وبعهره، نعم، لأنها لم تكن فقط جنازة مَن أغاظ العرب في حياته ونجح بشلّهم في مماته؛ ثم جاء رؤساء السلطات العربية - قادة في طور التكوين- للتعزية وكأني بهم يسعون وراء رفرفة الرمادي في الظل، فلا أظنني أنهم كانوا يعرفون ما يعرفه الشعراء: "وإن السراب كتاب المسافر في البيد، فلولاه، لولا السراب، لما واصلوا السير.. بحثًا عن الماء".. لكنهم مشوا بعكس خط سير القائمة المشتركة.
أنا لم أشارك في الجنازة والمشاركة فيها ليست هي الخيار المرغوب أو الطبيعي للعربي، ولكل فرد أو مؤسسة مدنية الحق باتخاذ قرارها ازاءها بدون أن يخضع قرارهم لمساءلة أو للتبرير، لكن استبعاد المشاركة في حالة القائمة المشتركة، وهي بيننا الجسم السياسي البرلماني التمثيلي، من غير دراسة أو نقاش كان قرارًا خلافيًا ومنقوصًا وتبريره بكونه مدعومًا من معظم الجماهير العربية فيه من التضليل قسط ومن عدم الدقة أقساط ويكفي ما قامت به لجنة الرؤساء دليلا، وهي ليست المؤشر الوحيد.
ما جرى في ذلك النهار كان غمزة من عين التاريخ الزائغة ومشهدًا من مشاهد الواقع التلفزيوني، واستعراضا على بيدر الأمم، فلا ضير لو حضرت أقليتنا، بجروحها، وبيدها مذراة صغيرة وقفة؛ لا أحد يطالب جميعكم بالحضور بأشخاصكم، لكنني على قناعة أنكم لو أردتم المشاركة لاهتديتم إلى حلول لا "تميت الذيب ولا تفني الغنم"، فمثلًا كان بامكانكم التوافق على انتداب من يمثل القائمة، أو فريق من المسؤولين في أحزابكم، أو أي بديل، على أن يسبق ذلك إعلان بيان بروح ما جاء في مقابلة أيمن عودة الهامة والمتأخرة.
للقائمة شخصية سياسية مستقلة وما شاهدناه على جبل هرتسل كان أقرب إلى مسرحية تليق بكل المسارح: ففيه من العبث التباسه ووجع الكوميديا فيه ومن التراجيديا خيبتها وحماقة القدر، كثيرون ممن حضروا جاؤوا ليشهدوا على انقضاء عهد وبعضهم ليكونوا شركاء في مواسم الحصاد الجديد.
أما الذين انتخبناهم غابوا وآثروا أن يتلوا علينا شواهد من تاريخ مقيت لبيرس الميت الذي مثلهم لم يحضر جنازته، لكن جميع من حضروا استذكروا، مثل نوابنا، تاريخه وتلوا علينا سيرته!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق