ربما من تداعيات النكبة أن وقع انقلاب عسكري في مصر ضد النظام الملكي نفذته مجموعة من ضباط الجيش(الضباط الأحرار) في تموز/يوليو 1952م والذين تعاطوا مع القضية الفلسطينية بطريقة مختلفة عن الملك فاروق وحكوماته التي كانت تتلقى الأوامر والتعليمات المكتوبة في سفارة بريطانيا في القاهرة، وهذا الأمر رفع معنويات عوام وخواص الفلسطينيين، خاصة مع صعود نجم الزعيم جمال عبد الناصر، والذي قدم خطابا مفعما بالحماسة والنزعة القومية ولهجة تحدي غير معهودة من الزعامات العربية التقليدية، فتعلقت آمال الفلسطينيين بالزعيم ورأوا فيه أملا في تحرير أرضهم المغتصبة، ويروي الكاتب الراحل محمد أبو شلباية كيف أن اللاجئين الفلسطينين في مخيمات لبنان مثلا كانوا يتحلقون حول (كوانين النار) ويطلقون عبارات الأمل والرجاء بالزعيم وهم يستمعون إلى خطاباته الحماسية، لعله يخلصهم من هذا البؤس ويعودوا إلى ديارهم!
والحقيقة أن مصر وقت نهاية الملكية لم تكن مستقلة عن بريطانيا، وبريطانيا التي قدمت وعد بلفور وسهلت لليهود إقامة دولة في فلسطين، لم تكن لتسمح بوجود نظام في دولة مهمة وكبيرة مثل مصر(كانت مصر تضم السودان أيضا) يكون من أولوياته أو إمكانياته تصفية إسرائيل، فهذا ما لا يقبله أي منطق سليم، ولكن الغريق يتعلق بقشة كما يقال.
وكان فشل العدوان الثلاثي على مصر في 1956م سياسيا أحد عوامل تعزيز الزعامة المصرية للنظام العربي الرسمي عامة، وزيادة حماسة الجمهور الفلسطيني لهذه الزعامة، ولكن العدوان أوضح أنه لا يمكن للجيش المصري شن هجوم تحريري خارج حدوده من ناحية، ومن جهة أخرى تكرست قيادة القوتين الكبيرتين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) وتحكمهما بمسارات الأمور في المنطقة، وصار الضامن والراعي لإسرائيل قوة عظمى كبيرة لم تتضرر وخرجت منتصرة، بل هي من صنعت النصر في الحرب العالمية الثانية، أي أمريكا، ومثلها مثل بريطانيا فإن أمريكا لم تكن لتسمح بتهديد وجودي لربيبتها إسرائيل، لا من عبد الناصر ولا من غيره.
وهنا كان هناك وهم آخر يداعب مخيال العرب ونحن منهم بطبيعة الحال، وهو أن الحرب الباردة التي بدأت تتصاعد وتشتد بين موسكو وواشنطن تعني أنه يمكننا التعويل على الاتحاد السوفياتي؛ نظرا لأنه وافق على توريد السلاح إلى مصر، ولأنه يرفع شعار مناهضة الإمبريالية والرأسمالية، وعليه قويت الحركات والأحزاب الشيوعية في المنطقة، وصار التصور العام أن تحرير فلسطين ستكون غرفة عملياته من موسكو ونسي أو تناسى أو غفل أصحاب هذا التصور العبثي أن إسرائيل مشروع مختلف حول رعايته لا حول وجوده بين القوى العظمى والكبرى!
(13)منظمة التحرير...ومداولات تأسيس (فتح)
في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل قد ابتلعت ثلثي فلسطين الانتدابية فعليا، كان الجمهور العربي، ومنه الفلسطيني، قد غرق في حالة استقطاب حزبي وانحيازات أيديولوجية، وانشغل فعليا عن عمل فعلي ميداني لمواجهة المشروع الصهيوني، ودخل في جدل بيزنطي عقيم، حتى وإن كانت فلسطين حاضرة في تلك النقاشات؛ فسواء الأحزاب والحركات والجماعات الإسلامية أو الماركسية أو القومية أو غيرها، لا تفعل شيئا سوى الجدل وتبادل التهم، فيما فلسطين تحت الاحتلال، وقلة قليلة من قادة أو كوادر أو عناصر أو أنصار المتجادلين فكرت في عمل ميداني-بالمفهوم العسكري- ضد الاحتلال، فهم يخوضون نقاشاتهم، التي يعتقدون أنها تخدم القضية، والأدهي والأمر أن الفلسطينيين صاروا جزء من هذه الاستقطابات.
وحيث أن التمثيل الفلسطيني في الجامعة العربية كان شكليا؛ فقد صدر قرار من مؤتمر القمة العربية في الرباط مطلع عام 1964م بتأسيس كيان فلسطيني، وقد تمكن أحمد الشقيري من التواصل مع الدول العربية وتجمعات من استطاع الوصول إليهم من الشعب الفلسطيني، وأسفرت الجهود والاتصالات-التي لم تخلو من صعوبات- عن تأسيس (منظمة التحرير الفلسطينية) كيانا له مؤسسات ولجان يتبنى فكرة تحرير الأرض ويمثل الشعب الفلسطيني.
وهنا لا بد من الإشارة أنه كان هناك معارضة من بعض الدول العربية لهذه الخطوة، لا سيما مسألة وجود تشكيل عسكري فلسطيني مسلح على أرض دول عربية تخوفت من الأمر، وهو ما يفترض أنه عصب المنظمة العتيدة، ولكن في نهاية المطاف، فإن المنظمة سواء هيئاتها ومؤسساتها السياسية أو العسكرية أو المالية(الصندوق القومي الفلسطيني) ستعمل من الدول العربية، وستظل مقيدة بما تسمح به كل دولة، حسب الظرف الموضوعي والعلاقة بين قيادة المنظمة وبينها، لأن الشعب الفلسطيني في الشتات، كما قلنا في مقال سابق، توزع غالبية لاجئيه على دول مجاورة لها سياساتها وأولوياتها وارتباطاتها، والأرض الفلسطينية ثلثيها محتل، والباقي(الضفة الغربية وقطاع غزة) خاضع لإدارة الأردن ومصر...أي أنه وإن أصبح للشعب الفلسطيني كيان ناطق باسمه ويعبر عن تطلعاته التحررية، فإن هذا الكيان هامش تحركه محدود بسقف الأنظمة العربية الرسمية، لأنه ليس له بقعة جغرافية مستقلة ولو نسبيا يعمل منها!
وقبل تأسيس المنظمة ببضع سنين كانت هناك مجموعة من الشباب الفلسطيني العاملين في الكويت، ومن أصحاب الخلفيات الفكرية المختلفة(إسلامية وقومية وغيرها) ينشطون ويجرون اتصالات لتأسيس حركة تحرير فلسطينية، لا تعتمد المعتقد الفكري شرطا للانتماء، وتشترط قطع العضو علاقاته بأي حزب عربي، وكان هناك مجموعات أخرى في العديد من الدول العربية والداخل الفلسطيني وأوروبا تتواصل مع مجموعة الكويت تحضيرا لانطلاقة الحركة الجديدة، التي رأى أعضاؤها المؤسسين أنه لا فائدة من الانشغال بالنقاشات الأيديولوجية، بل إن هذا يبعد الفلسطيني عن صلب ومحور قضيته، أي تحرير أرضه، وأن الأفضل تجميع كل الطاقات الفلسطينية مهما اختلفت رؤاها الفكرية والاجتماعية وانتسابها الجغرافي نحو هدف واحد هو تحرير فلسطين، باستخدام الكفاح المسلح، وأن على الشعب الفلسطيني الاعتماد على ذاته لتحقيق هدف التحرير وعدم انتظار المعجزة من النظام العربي الرسمي، وقد عبرت مجلة(فلسطيننا) الناطقة باسم الحركة العتيدة عن التوجه نحو استقلال القرار الفلسطيني ورفض الوصاية العربية، في محاولة عملية وفعلية صريحة لبلورة هوية فلسطينية لأول مرة منذ بدأ المشروع الصهيوني يغرس أنيابه السامة داخل فلسطين، وظل النشاط ومداولات صياغة المبادئ والتصورات سريا منذ العام 1957م حتى الإعلان عن انطلاقة الحركة رسميا وفعليا في مطلع عام 1965م.
وتشكلت قوات(العاصفة) جناحا عسكريا ضاربا لحركة فتح، هذه الحركة التي ستكون اللاعب المؤثر المركزي في القضية الفلسطينية حتى الآن؟
ولكن ماذا عن منظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست قبل إشهار حركة(فتح) وماذا عن النظام العربي الرسمي؟وماذا عن جماهير الشعب الفلسطيني التي عموما رحبت بالحركة الصاعدة وانخرطت بها بكثافة، في إشارة لبداية تخلصها من وهم الرهان على النظام العربي الرسمي؟
في المقال القادم إن شاء الله سنتناول هذه النقاط وغيرها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق