سار فيليب سالم رحلة طويلة في خدمة الانسان، خصوصاً المريض. أنار دربه فيها الرضى عن النفس، والايمان بخالق قادر على أن يصنع المعجزات بشفاعة الانسان قديساً أو طبيباً حكيماً، مدّخراً علماً وأبحاثاً وتجارب بعثت في نفسه القدرة على مواجهة المرض وقهره ومواساة المريض ومحبته، يغالبه دائماً الشعور الانساني بأنه يحمل رسالة لا مبضعاً ويداوي النفوس في معالجة المرضى بالرفق والمحبة، وأنه يعلو الى الله كلما علا في الانسانية ويعلو في الأخلاق كلما تواضع.
لفتني كلام لمساعد وزير الخارجية الايطالي سيباستيانو سلفاتوري عام 2006 في حفل تكريمه في ايطاليا ومنحه وساماً، قال فيه: "كثيرون يسألون من هو فيليب سالم الحقيقي؟ هل الطبيب الذي وصل الى أعلى مراتب البحث وأعلى مراتب العلم؟ أم الفيلسوف الذي يتكلّم على معنى الحياة ومعنى الموت ومعنى الألم ومعنى المحبة؟ أم الأديب الذي يكتب في موضوعات متعددة بلغة أدبية رائعة؟ أم السياسي الذي يتكلّم على مشكلات الشرق الأوسط كأنه محترف سياسة؟ أقول لكم أنه جميع هؤلاء في شخص واحد هو الطبيب والفيلسوف والأديب والسياسي".
ويمكن اختصار تجربة الطبيب بقوله: "تعلمت أن الحياة البشرية هي الأثمن، وأنّ إنقاذ هذه الحياة أسمى وأهم عمل يمكن القيام به. وتعلّمت أنّ معالجة السرطان أمر سهل مقارنة بمعالجة الانسان الذي أصابه السرطان". حين كنت أقرأ حفلات التكريم له تبادر الى ذهني: أنّ لحظات الفرح في التكريم مقابلها ساعات من الجهد والتعب والأبحاث ومن الألم المهني والانكسار الانساني كلما وقع الفشل... إنها لحظات مقابل سنوات!
الطب فن معالجة الانسان
بدايتان على طريق جلجلة السرطان: رجاء أمه صغيراً أن يصبح طبيباً كي يعالجها في شيخوختها، لكن مرض الألزهايمر حال دونه وأن يحقق لها امنيتها فتكوّنت في نفسه غصّة أنه عجز عن الوفاء بوعده لها، لكن ذلك حفّزه على أن يحاول مساعدة الآخرين، بحسب الآية الانجيلية: ما تفعلونه لأخوتي انما تفعلونه لي. وتلك الامرأة العزيزة عليه التي أصابها سرطان الرحم فرافقها في تجربتها الأليمة، وحضّه عجز الأطباء على أن يغيّر توجهاته الطبية والعلمية، خصوصاً أنها تمنّت عليه إذا ما تخصّص في أمراض السرطان أن يتذكّر "أن العذاب الحقيقي ليس العذاب الجسدي، بل العذاب النفسي". فوعد ووفى.
وبدايتان أيضاً في الجامعة الأميركية في بيروت، وفي جامعات أميركا ومستشفياتها. بعد درس الطب في بيروت، سافر الى نيويورك عام 1968 للتتلمذ على يد أساتذة كبار في معالجة "عدو شرير" كان اسمه مخيفاً آنذاك، وعودة الى الجامعة والمستشفى في بيروت لوضع علمه وتجاربه في خدمة اللبنانيين. جرّب حقنة بدواء كيميائي عبر الانبوب مباشرة الى الكبد المصابة"، رفضت الادارة العمل التجريبي وهدّدت بطرده "لأن الاختبارات على المرضى مسألة غير أخلاقية". لكنه نجح وحقّق المبتغى. فهل صارت هذه الطريقة معتمدة؟ كما أنه اكتشف أنّ الالتهاب المعوي المتكرّر والمزمن يؤدي الى الاصابة بالسرطان. المعلومات عن محاولة لخطفه دفعته الى المغادرة عام 1987 الى هيوستن، حيث لا يزال. فكانت البداية الثانية في أميركا.
توصّل خلال سنوات طويلة الى أنّ الطب يجب أن يكون فن معالجة الانسان وليس علم شفاء المرض، وأنّ الأطباء يجب أن يعالجوا أناساً مرضى وليس المرض، فالإنسان هو الهدف، لذلك يجب معاملته بعناية وحنان وحب. فالطبيب يعالج إنساناً ولا يصلح آلة. إنّ أول أدوات قهر السرطان هو التفاؤل بالقدرة على السيطرة عليه وهزمه، وثانيها الايمان ولو بقدر حبة خردل، وبهما يجتاز سالم مع المريض عذابه النفسي قبل الجسدي.
المعرفة هي القوة التي تحرّرنا
يطلُب من الطبيب أن يكون ابن المدينة الفاضلة، بل حكيمها، فهو ليس من الواقع إلّا بسمّاعته وأدواته الجراحية، أمّا علمه ومعرفته فمن معجزات الرسل والقديسين، وهو ليس بعيداً عن الايمان بصنع المعجزات. ففي الطب يجب أن يترفّع عن العظمة والشهرة والقوة والنفوذ والمال، أليس من الأولياء من يترفّع عن هذه الصفات، الى رسولية هي أرقى مراتب العظمة؟
إنّ مريض السرطان إنسان ضعيف، لكنه ذو كرامة، يحتاج الى الحنان والمحبة، وهما أبرز ما نادى بهما رسول الانسانية. ونحتاج مع المحبة الى المعرفة كي تكتمل رسالة الطبيب بالحكمة. وهو يقول: "كلما ازداد الطبيب علماً ازداد معرفة بحدود معرفته فازداد معرفة بالحاجة الى معرفة الآخرين. من هنا أهمية القدرة على العمل مع الآخرين لمصلحة المريض".
ثمة مرتكزات في فكر سالم الرسالي: علمية طبية تشدّد على البحث العلمي وفريق العمل، وفكرية فلسفية تؤكّد على التواضع أمام عظمة الخالق، لأنك مهما بلغت فأنت لا شيء في المعرفة والوجود، والشجاعة في مواجهة الموت، فمريض السرطان هو أقوى الأقوياء وأشجع الشجعان.
ويدعو الى التفاني في العمل من أجل الابداع فيه والى التحرر في الفكر من أجل تحقيق السعادة. وتكمن أهمية المعرفة في أنها القوة التي تحرّرنا من العبودية، وأولها عبودية الجهل الذي هو أشد السلاسل التي لا تفكّها إلّا المعرفة. والمعرفة تصون من الانحراف وتحول دون التطرف وتردع عن السيئات.
ولا تكون معرفة ولا تحرّر بلا العقل الذي منحه الله للانسان كي يستخدمه في خدمة أخيه الانسان، وليس في خدمة الله، فالله لا يحتاج الى خدمات البشر. له آراء في التعليم والتربية، يدعو فيها الى مناهج جديدة تواكب العصر وتستلهم مناهج الشعوب المتقدمة، يكون هدفها تحرير العقل من التخلف وتفعيل دوره وتنشيطه لتحرير الانسان وبناء كائن جديد. اذا لم نبنِ انساناً جديداً لن نبني وطناً حقيقياً.
لبنان أهم وطن في الشرق
فيليب سالم سفير من سفراء الانتشار في العالم. إنه طائر فينيق من الشرق، الى جانب كثيرين، يبنون الحضارة في الغرب، وأنّى حلّوا في العالم كله قائلاً: "أنا من لبنان، من بلد أرز الرب وشجر الزيتون، من بلد في الشرق صغير في الجغرافيا كبير في التاريخ والحضارة، ومنتشر في جميع أنحاء الأرض". وأضاف متوجهاً الى الاميركيين: "مسؤوليتنا نحن الذين جاؤوا من الشرق إغناء الحضارة الأميركية بالمفاهيم العميقة لمعنى الانسان والوجود الانساني الحضاري. مسؤوليتنا صنع أميركا جديدة أكثر إنسانية وأعمق حضارة".
شارك في مؤتمرات المغتربين، لأنّ لبنان في قلبه، واللبنانيين في عقله، مؤمناً دائماً أن الحضارة المشرقية بثقافتها وحريتها وإبداعها، مفقودة من دون المسيحيين، وأن الحضارة العالمية بعلمها وتكنولوجيتها و"ديموقراطيتها" مجتزأة ومبتسرة من دون ثقافة المشرقيين وقيمهم وإنسانيتهم.
وعبّر عن رسالة يحملها اللبنانيون الى العالم، هي "رسالة محبة وحضارة: محبة جميع شعوب الأرض وحضارة مميزة في الشرق والعالم، تؤمن بالعلم والابداع والمثابرة على النجاح وتؤمن بالمغامرة الى ما وراء الأفق، فالأرض كلها أرضها".
وأضفى على هذه الحضارة القدرة على الحوار مع جميع الشعوب والاتنيات والديانات، وبمرونة التعامل مع الآخرين والاندماج في الحضارات الأخرى من دون أن تخسر هويتها.
إن الذي يضع الكورة بين عينيه ولبنان في قلبه لا يضيّع البوصلة، فلبنان المنطلق، وإليه الانتماء والرجوع: "في مكتبي في مدينة هيوستن هناك غصن زيتون من شجرتي وزجاجة زيت من زيتونتي وحفنة تراب من قريتي. هذا ليس فقط ليذكّرني من أين أتيت، بل ليذكّرني من أكون".
هذه الحنينية المستندة الى تاريخ وطني وإنساني وشخصي تدفعه الى القول إنّ لبنان أهم وطن في الشرق كله. "لبنان مميز لأنه يملك موارد في الطبيعة وفي الانسان لا تملكها أي دولة في المنطقة. هذه هي عظمة لبنان".
ولأنّ المجال لا يتسع لتعداد مآخذه على السياسيين اللبنانيين، اكتفي بجملة أوردها تختصر موقفه كله: "منذ الاستقلال حتى اليوم لم تصل الى السلطة في لبنان قيادات سياسية قادرة على بلورة رؤية للمستقبل".
اللبناني يبني في أصقاع العالم
صواب تفكير سالم في السياسة جعله في خدمة وطنه الأول ومواطنيه، بناء على رفضه الألاعيب السياسية اللبنانية والحرتقات التي تضرّ بالوطن الصغير. فالأوطان الصغيرة والتعددية كلبنان لا تحتمل إلّا السياسة السوية. وهو يعبّر باستمرار عن اقتناعه بالشعب اللبناني الذي يمارس وحدته وانتماءه الوطني ومصيره المشترك بما يتجاوز سياسييه الذين يستخدمونه وقوداً لخلافاتهم على مصالحهم وفسادهم المستشري.
يصف الحرب التي نفته قسراً، بأنها "فريدة بغرابتها"، لأنها "لم تكن حرباً بين جيشين، بل بين المسلح والبريء. كانت حرباً ضد اللبنانيين، جميع اللبنانيين، حرباً ضد عظمة الشعب اللبناني، ضد خصوصية وفرادة تميّز بهما لبنان في الشرق".
سالم أحد الذين انطلقوا بلبنان من المساحة المحدودة الى الجغرافيا العالمية، من قرية بطرام الى القرية الكونية – هيوستن، من الجماعات المتعايشة الى الشعب العظيم، من الكيان الى الوطن. هو – وهُم – الانسان اللبناني الحديث يبني في العالم ويرفع في الحضارات، ويجعل اسمه في مشرق الأرض ومغربها الباني، يذهب الى أصقاع العالم ليجعلها أكثر دفئاً. لم يأخذ اللبناني من العالم بقدر ما أعطاه. ودوره منذ الآن إقامة الحوار والتلاقي بين الشعوب والدول في شرق العالم وغربه. كي يثبت أنه "كيان حضاري قبل أن يكون كياناً سياسياً، والعالم يعرف لبنان بحضارته لا بدولته".
الفينيق الذي يحمل لبنان بثقافتيه المسيحية والاسلامية ورسالتيه الحرية والحوار وحضارتيه المشرقية والغربية، يحمل أيضاً ذخراً لا ينضب من القيم الانسانية.
■ صدر كتاب "من جلجلة السرطان الى قيامة لبنان" جمع محاضرات وخطب وكلمات ألقيت في ندوات وحفلات تكريم أو نشرت في مناسبات طبية. ونشرته جامعة سيدة اللويزة.
دعت جامعة سيدة اللويزة الى ندوة حول الكتاب الساعة الخامسة مساءً من يوم الثلاثاء في 20 كانون الاول 2016.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق