مع نهاية العام المنصرم أصدرت بعض المؤسسات الفلسطينية التي تعنى بشؤون الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي تقريرها السنوي، وفيه العديد من المعطيات الهامة التي تلقي الضوء على واحدة من أكثر حالات المعاناة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني بكل شرائحه وطبقاته في الضفة المحتلة وقطاع غزة، ووفقًا لما أفادت به مصادر "نادي الأسير الفلسطيني"- وهي إحدى المؤسسات الرائدة والبارز نشاطها في ميادين الدفاع عن المعتقلين والأسرى والمحررين الفلسطينيين- نعرف أن حصيلة الاعتقالات الإسرائيلية في العام ٢٠١٦ طالت ما مجموعه (٦٤٤٠) مواطنًا كان من بينهم ( ١٤٠) امرأة و (١٣٣٢) قاصرًا.
يعتبر هذا التقرير مسحًا سنويًا مهنيًا شاملًا لممارسات جيش الاحتلال وأذرعه الأمنية ضد الفلسطينيين الرازحين تحت قوة بطشه، حيث يجد فيه قادة الفصائل الفلسطينية، إذا أرادوا، والمعنيون والمتابعون لقضية الأسرى وللحالة الوطنية العامة، علاوة على المعلومات الرقمية، دلالات ومؤشرات جوهرية تشي بحقيقة السياسة الإسرائيلية المخططة بعناية، وما تستهدفه من وراء موجات الاعتقال المتتابعة والتحقيق الدقيق وسجن الآلاف وراء قضبان العتمة والقمع، وليس فقط على صعيد من يعتقل.
عن بعضها سأكتب في مقالي هذا.
قد يكون مقلقًا أو حتى مستفزًا أن نقرأ أن عدد الأسرى الأمنيين، كما يسميهم قاموس السجان الإسرائيلي، بلغ حتى نهاية العام ٢٠١٦ في السجون نحو (٧٠٠٠) سجين منهم (٣٠٠) قاصر و(٥٣) سجينة بينهن (١١) قاصرة، وقد نشعر بوخز حقيقي إذا تخيلنا أن وراء كل رقم من تلك الأعداد هناك حالة إنسانية صارخة، لكننا إذا تمعنا فيما جاء من حقائق سيقت على سبيل التوصيف والتوثيق، سنجد أن الأهم من هذا وذاك يختبئ في ثنايا الكلام وبين السطور؛ فالاحتلال حاول عمليًا عن طريق تنفيذ اعتقالاته، كما وصفت في التقرير، أن يضع حدًا لما استشعره كبراعم لظاهرة نضالية فلسطينية جديدة، وذلك بعد أن أخضعت عيونه إحداثيات المٓشاهد التي رافقت الهبات في الشوارع والساحات لمباضع التحليل والاستقراء والدراسة، وبعد أن رصدت وحداته الخاصة مجمل التفاعلات والتأثيرات التي سببها النشر على وسائل التواصل الاجتماعي، فلقد توصل متخصصوه إلى أن "حطب الثورة"، التي حسبها قادته قد انطفأت، تجددت نارها وانبعثت عن طريق أجيال من الفتية والشباب حديثي السن، من الذين بدأوا يتمردون على محاولات تدجينهم أو إبقائهم تحت جوانح آبائهم المتعبين، وعلى من سبقوهم من مقاتلين فتّ القهر في عزائمهم وأرقد اليأس آمالهم؛ فوفقًا لما جاء في التقرير المنشور يتبين أن "فئتي الشباب والفتية كانتا الأكثر عرضة لعمليات الاعتقال إضافة إلى أنهما أكثر الفئات التي تعرضت لاعتداءات جسدية خلال حملات الاعتقال التي نفذها جيش الاحتلال بشكل يومي".
لن يضل القارئ ما تخفيه هذه السياسة من غايات، لا سيما إذا تابعنا ما كتبه معدوه حين وجدوا أن من تلي تلك الفئات المستهدفة كانت "فئة الأسرى المحررين الذين أعاد الاحتلال اعتقالهم بعد قضائهم لفترات متفاوتة سابقة في سجون الاحتلال"، فاذا جمعنا بين هؤلاء الأسرى المحررين، من كانوا بناة الأمل وطلائع النضال في وجه الاحتلال، وبين الأسرى الفتية والشباب، من يحاولون رفع الرايات والسير في طريق الحرية البيضاء، نخلص إلى نتيجة واحدة وحيدة، وهي أن المحتل يهدد ويعلن بما لا يقبل الشك: مٓن تحرر منكم أيها الفلسطينيون مصيره مرة أخرى إلى عدم والعيش في الظلمة، ومن يرفض، في العام الخمسين لاحتلالنا القوي، ما قبلته نمور زكريا تامر في يومها العاشر سيذوق طعم أصفادنا الجاهزة ولن ينعم بحرية ولا بعيش عائلي رغد وجميل.
من اللافت أن القدس كانت في السنتين الأخيرتين في قلب العاصفة وتصدر شبابها باب المواجهات مع قوات الاحتلال وأشعلوا مشاهد أعادت إلى الأذهان بعضًا من بريق أعوامها "الفيصلية" الذهبية الخوالي حين كانت شوارعها تنضح بالعزة وتضج بالعناد ورفض اصطباغها بالوان السياط والقمع والخنوع. فمنذ سنين وإسرائيل تحاول، بنجاح نسبي ملموس، تدجين أهلها وتبذل في سبيل ذلك جهدًا متواصلًا يرمي إلى تفتيت مجتمعها وتبديد وجوده الجمعي وإرفاق أعضائه كخلايا أحادية التكوين في الجسد الإسرائيلي النابض، وقد حققت سياسات إسرائيل نجاحات بارزة في هذه الميادين، خاصة في السنوات التي تلت رحيل أميرها فيصل الحسيني، وكثيرون بدأوا يشعرون بيأس كبير واستياء، فجاءت الخضة من مجموعات شبابها وهزت ما ساد من سكينة غير وادعة وروتين قاهر. تلك المجموعات، على محدودية أعدادها، انتصرت متمردة لكراماتها المسحوقة، ورافضة العيش في ظل مرارة "اليتم" وجحود الأقرباء، فأعلنت تحديها لتمادي كتائب المستوطنين واعتداءاتهم الوحشية على كل شيء عربي في مدينتهم، على البشر والحجر والشجر، وفي حالة عجز مقدسية بدت للناظر، طيلة تلك السنوات العجاف، أن "العروس" ليست كما تنبأ لها "النواب"، المنفي في التيه والدخان والثلج، بل صارت تغتصب جهارًا نهارًا وليس فقط من وراء الأبواب.
على هذه الخلفية تأخذ قراءة ما جاء في التقرير عن القدس مناحي غير نمطية وأبعادًا أكثر وضوحًا لأننا نفهم أن "مواطني محافظة القدس كانوا الأكثر عرضة للاعتقال خلال العام ٢٠١٦، وذلك بواقع اعتقال (٢٠٢٩) مواطنًا مقدسيًا بينهم (٧٥٧) قاصرًا و(٧٩) إمرأة .." فوراء هذه الأرقام الاستثنائية تستتر سياسة الردع الإسرائيلية والتخويف، خاصة إذا علمنا أن كثيرين من المعتقلين قد أفرجت عنهم السلطات والمحاكم الإسرائيلية بشروط مقيّدة ضيّقت عليهم حرية الحركة والتنقل والعبادة والعمل.
لقد تعلمنا من تاريخ الشعوب المقاومة للاحتلال ومن إنجازات حركات أسراها السياسيين والذين سطروا مواقف حفظها تاريخ الأمم كأوسمة على جبين الإنسانية الوضاء، أن من أهم المكاسب التي يجب المحافظة عليها حتى في ساعات الشدة وإيصاد معظم المنافذ، نجد اثنين في الصدارة: ضرورة إبقاء جذوة الأمل حيّة تتقلب لو في الصدور فقط، وعدم التخلي عن عنصر المفاجأة الذي يجب أن يبقى مفاعلًا يحرك التاريخ حتى لو بدا كأنه يحتضر. من هنا يجب الحذر من خسارتها، بصبر وترو وحكمة ويقظة، فشعب يرزح تحت احتلال ويعيش بأوراق كلها مكشوفة لا أمل له في حرية ولا بدولة. ومن يراجع تجربة الأسرى الإيرلنديين، على سبيل المثال، أو الجنوب إفريقيين، سيرى كيف حافظ قادة تلك الحركات على هذين العنصرين وضمنوا نهايات لم يرغب بها غريمهم الذي تصرف أحيانًا وكأنه سيد الليل والنهار والعارف بالمخفي والقابض على كبد الأمل.
ما يحاول الاحتلال ضمانه واضح، فمن لا تكسحه عصا الاعتقال العادي، كما ورد أعلاه، يلاحق إداريًا ويسجن من غير تحقيق أو تهمة أو فرصة للدفاع عن نفسه كما يقر المنطق والقانون؛ فمن المعلومات التي أوردها التقرير يتبين أن هنالك تصعيدًا في سياسة الاعتقالات الإدارية، فقد تزايدت أوامر الاعتقال، خلال العام ٢٠١٦، بشكل ملموس حتى وصل عددها إلى (١٧٤٢) أمرًا، من بينها سنجد ( ٦٣٥) أمرًا جديدًا، بينما وقع القائد العسكري على (٢٠) أمر بحق أسرى قاصرين، وعلى (٣) أوامر بحق نساء وعلى (٥) بحق نواب في المجلس التشريعي الفلسطيني وعلى (٩) أوامر بحق صحفيين عاملين، وعلى (٤٠) بحق مواطنين مقدسيين، على الرغم من عدم استعمال هذه الوسيلة لعدة سنوات في نطاق مدينة القدس.
لن آتي على ذكر كل ما ورد من معطيات بشأن قضية الأسرى وما طرأ عليها خلال عام مضى، أو ما قد يصيبها في عام اندفع قبل أيام بملامح تشير أنه سيكون أسوأ بما يحمله من نوايا يفصح عنها معظم وزراء الحكومة الإسرائيلية وتبينه التشريعات المنجزة في الكنيست أو المخطط لإنجازها، ففقدان الأمل الفلسطيني هو غاية الغايات المرجوة مما يمارس من سياسات وما سيمارس، وفضح خزائن المستور الفلسطيني غاية أخرى تعتقد إسرائيل الرسمية أنها قاربت على تحقيقها، ولديها ما يكفي من أسباب تعزز قناعتها، خاصة ونحن نعرف كما يعرف قادة الحركة الأسيرة الذين كتبوا وتحركوا مؤخرًا: "في ضوء ما وصلت إليه الحركة الأسيرة الفلسطينية من حالة الضعف والترهل والانقسام وغياب العمل المشترك والموحد منذ ما يزيد عن عشر سنوات"، وبعد استشعارهم لدرجة الخطر وجهوا الى جميع الأسرى وتنظيماتهم في السجون وثيقة هامة، حيث قام على تحريرها قادة من بينهم، وذلك في مسعى منهم لإحياء دور الحركة الأسيرة واستعادة قوتها ونبضها، لأنهم يعرفون أنه "في ظل الاستغلال المستمر من قبل سلطات السجون لهذا الواقع الصعب واستفرادها بكل سجن أو قسم أو فصيل أو مجموعة وانطلاقًا من القناعة التامة من أن الإرادة الجماعية للأسرى ترفض استمرار هذه الحال فلقد اتٰفق على أهمية العمل المشترك والتنسيق المكثف لتحقيق مطالبنا".
من يرغب في مساعدة الأسرى بشكل حقيقي ليدقق بما كتبوه وليقف معهم في معركة محقة عناوينها معروفة وسقوفها كذلك، فمن الطبيعي أن يقرأ القادة الفلسطينيون ما بين سطور التقرير وما تقوله النقاط على حروفه، أما الأسرى فلقد عاشوا ويعيشون التجربة في مآقيهم وعلى جفونهم ويعرفون أن الغاية من وراء سياسات الاعتقال وطرقها واضحة ونتائج ضعف الحركة الأسيرة، كما كتب معدو تلك الوثيقة الهامة، كانت وبالًا على منجزاتهم وآمالهم، ويعرفون كذلك أن نيسان قادم، فهل سيأخذون الحلم الفلسطيني إلى حيث تكون الريح؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق