تعتبر قصص "سجل التوبة" للأديب أمين الريحاني شاهدة من مشاهد الإفراط والتوبة لجملة من الشخوص المثقلة بالهموم والهواجس، تحملنا معها كقراء للسفر عبر التاريخ والأسطورة والسياسة ضمن فضاء سردي يعكس حقائق مألوفة لدى المتلقي لا تخلو من الدلالة والرمزية.
الريحاني يستفز قرائه من خلال عنوان "سجل التوبة"، والذي يحمل هو الآخر دلالة رمزية، ولم يأت ذلك عبثا، وإنما يحاول أن يكسر حاجز النفوس القاسية التي تأبى الخضوع والاعتراف والندم والعزم على الإقلاع على الآثام المقترفة في هذه الحياة تحت ظلال التوبة.
أول مثال يشد القارئ هو قصة "نبو خذ نصر" التي تحمل معها أبعادا دلالية وخلفيات أيديولوجية تستدعي تحكيم العقل في كل الأوقات، أين نجد ملك بابل غاضبا تتملكه الأحزان والهموم وتهزم نفسه المنكسرة جملة من الهواجس، وكل هذا ينعكس سلبا على أجواء المملكة: "ولكن قلب الملك ذي الليلة في عالم لا يعرف النور والسرور، ولا محل فيه لبابل ولقيان بابل ولجنائن وعرصات بابل، لا محل فيه للقمر ولا مكان فيه لزهرة من الياسمين." (1).
تتكاثف الصور في هذا النموذج القصصي وتتزاحم، حتى يخيل إلى القارئ أنه أمام مشاهد مصورة من مسلسل عربي، لا يكاد يدرك محتوى مشهد حتى يصدمه مشهد آخر يدفعه للفضول والتأمل، كما هو الحال في غيرة الملك نبو خذ نصر من البطل بالادان ذلك الفلاح الفقير الذي قتل حبيبته خوفا من أن تغتصبها شهوة ملك بابل، وهذا الأخير يسعى للتآمر مع وزيره الأكبر لتعذيب عدوه بفكرة شيطانية: "في الأمس ارتجفت يد أحد الخصيان وهو يضع على رأسي التاج، فلو أمرت بقتله لكان في ذلك شيء من العدل، أما هذا الانتقام الذي ينتهي سريعا بالموت فأي عدل فيه؟ أتريد أن أريح العبد من حياته المؤلمة؟ إنك يا تفلاط لشفوق رحيم!" (2).
يحاول الكاتب بذكاء الانفلات من الواقع المؤلم للبطل بالادان، الذي ظلم بسبب خطيئة الحب في فضاء يحاصره فيه المكر والخداع، حيث نستغرب جميعا كقراء موقف الملك من تحريره وتكريمه المحبوب، أين تتجلى لنا تلك الصورة في المقطع الموالي: "جلس بالادان تلك الليلة إلى المائدة الملكية فأكل وشرب وقام سالما، بل هناك ما هو أعجب من ذلك، فقد قررت الإنعامات عليه فأصبح من اليسير من الأيام نديم نبو خذ نصر ورفيقه المحبوب" (3).
لقد جمع القاص في شخصية نبو خذ نصر العديد من الصفات القبيحة من التمرد والغضب والجهل والاغتصاب وتدني الأخلاق التي أهلته بمساعدة وزيره الأكبر إلى إظهار ملامح المكر، الذي سيوقعه لا محالة في حفرته التي حفرها للفقير بالادان دون سابق إنذار، حيث قابله طيف هذا الأخير بعد وفاته: "هل في زمانك، أيها القارئ، نظرت إلى وجه ميت وقد كفن بضوء القمر؟ إذن ما رأيت قط شيئا مرعبا، وخير لك ألا ترى وجه نبو خذ نصر حينما وقع نظره على نظر الطيف الواقف أمامه. وإننا من أجلك نضرب صفحا عن مثل هذه التفاصيل، ولا نقول سوى أن الملك حرك شفتيه فنطق الرعب فيه يخاطب الطيف أمامه" (4).
نطلع في مثال آخر عبر قصة "بقضاء وقدر" (قصة سياسية رمزية) إلى الأساليب الملتوية لمردة المال –جملة من شيوخ نبال- الذي يستبعدون الأخلاق للوصول إلى تحقيق مآربهم، ونلاحظ أن الريحاني قد أبزر فساد هؤلاء الذي يعم بلادهم هيروس وممارساتهم عن طريق تعيين إحدى الشخصيات الفاتحة الغربية التي تمشي على خطاهم أمام المتلقي، فما كان لمدينتهم إلا أن ازدادت فقرا وأهلها غلا وتآكلت أنفسهم الشهوات والآمال: "قد أقروا بالإجماع رأي التخدير، وعاد الفاتح إلى هيروس ونبال يقيم فيهما معالم السرور، ويعبد الطرق إلى اللذات، فقال بعض الشبان الذين يدعون الحكمة ويؤثرون عليها المال وظلا من الجمال: قد صدق شيوخنا، لا بد من هذا الفاتح مهما كان أمره. إن بلاءنا حقا 'بقضاء وقدر'!" (5).
لقد كبلت سلاسل اليأس نفس البطل في قصة "شريف أفندي" فدفعته لاختيار السفر كوسيلة للبحث عن حلول إلى بلاد بعيدة باسم منتحل، وقبل مغادرته اجتمع بصديقه الوفي الوحيد المدافع عن الحكومة الاتحادية والذي استطاع بحكمته وحيلته تظليل العدو لاستبعاده عن أعز الناس إليه: "قال هذا وبادر إلى خزانة فيها أوراق عزيزة جدا لديه، كيف لا وفي تلك الصفحات نبضات قلبه، ولآلئ دموعه، وأنين حبه، وصيحات إخلاصه لوطنه وزماجر نقمته؟! هي قصائده تناولها بيديه ومسح بها عينيه، ثم قبلها قبلة الوداع وأشعلها بعود من الكبريت قائلا: كما تلتهمك النار الآن لتلتهم نار الجحيم أعداء أمتي أجمعين" (6).
من جهة أخرى نقرأ قصة تحت عنوان "إكليل العار"، أين يجتمع الإثم والندم في نفس شخصية البطل –توفيق زيدون- الذي يظل ناقما على نفسه مما خسره في لعبة القمار، ليجد نفسه يزور بالصدفة عشيقته –لوسيل- لطلب المال منها غير أنها أنكرت أنها تملك أوراقا مالية في خزانتها: "ولما نهض توفيق ليلبس ثيابه خرجت لوسيل من الغرفة، فسارع إلى باب الخزانة فالتقط ما كان على الأرض من المال ووضعه في جيبه قائلا في نفسه: كذابة، عاهرة" (7).
قرفه من نفسه (البطل توفيق) يعيد إلى ذهنه وصايا والديه بتركه للقمار الذي كان متفشيا في آل زيدون، ليقرر فجأة أن يتوب من تلك الذنوب: "القمار، والموبقات التي هو فيها من جراء القمار، وتلك الفتاة المسكينة التي كانت تبيع جسدها لأصحابه وتقاسمه كسبها. الله منها! أتوفيق زيدون يصل إلى هذا الحد من السفالة؟ لم يكن قبل اليوم ليفكر بحقيقة فعلته، لولا خسائره في القمار لما التجأ –والحق يقال- إلى لوسيل، على أنه أفاق في هذه الساعة من سكرته، نفر من ضلالته، وود أن يبتعد عن الموبقات التي طالما خاضها طربا حبورا" (8).
نقرأ في موقع آخر من "سجل التوبة" نصا مسرحيا من ثلاثة مشاهد تحت عنوان "عبد الحميد في سجن الآستانة"، أين يبدأ المشهد الأول بصورة لمجموعة من السجناء على خشبة المسرح يتسامرون، فيباغتهم فجأة البطل حيدر باشا مثقلا بالهموم ليبلغهم عن خبر خلع السلطان عبد الحميد خان.
المشهد الثاني يجمع ثلاثة شخصيات (البطل عبد الحميد، نجله الصغير بدر ونعمت معهما)، أين يظل الأول مهموما يخشى أن يغدر به فيصبح من الأموات.
نفس شخصيات المشهد الثاني في نفس المكان بينما عبد الحميد جالس يحاول الاختفاء من تلك الأشباح التي تتراىء أمام ناظريه حتى يقع مغشيا عليه في نهاية المطاف: "أصوات من الظلمة: الانتقام، الانتقام!
عبد الحميد: أجل هو الانتقام. أواه! أحس بساهم من النار تشق فؤادي، أحس بشيء يأكل من عيني، بل بشيء ملتهب ينقر في خدي. أواه! أحس بأصابع من حديد تضغط على عنقي. أواه! غرقت... لله من البوسفور... إنني أختنق... إنني أموت..." (9).
الإحالات:
(1) أمين الريحاني، سجل التوبة، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، 2013، ص 15.
(2) المصدر نفسه ص 15.
(3) المصدر نفسه ص 17.
(4) المصدر نفسه ص-ص 22-23.
(5) المصدر نفسه ص 63.
(6) المصدر نفسه ص11.
(7) المصدر نفسه ص 41.
(8) المصدر نفسه ص 42.
(9) المصدر نفسه ص 36.
*كاتب وناقد جزائري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق