قراءة في ديوان تصاويرك... تستحمّ عارية وراء ستائر مخمليّة للأديب العراقي كريم عبد لله/ مادونا عسكر

الإحساس الدّاخليّ يُوَلّف إيقاع النّصّ

إذا كانت قصيدة النّثر قد خرجت عن النّظام الشّعريّ العام المرتبط بالقوافي الملزمة والعروض والإيقاع المتكرّر، فلكي تخرج بنظام خاصّ من عمق الشّاعر، وتحرّره من كلّ سلطة إلّا تلك الّتي يفرضها الشّعر نفسه. وإذا كانت قصيدة النّثر لا تملك أداة إلّا النّثر فلكي تحقّق إبداع الشّاعر المتفجّر من تجرّده وتحليقه في سماوات الشّعر. ولئن كان من العسير تعريف الشّعر بغضّ النّظر عن النّظم الشّعريّ، إلّا أنّه يمكن استشفافه من خلال الاختبار الشّخصيّ الّذي يمرّ به كلّ شاعر على حدة. وبالتّالي فمن المهمّ ملاحظة قواعد قصيدة النّثر المرتبطة بباطن الشّاعر، بمعنى أنّ الشّاعر يلتزم عن وعيٍ أو عن غير وعي بنظام القصيدة الخاصّ في كلّ مرّة، ويخضع لتأثيرات الحالة الشّعريّة المسيطرة عليه فتظهر تلك القواعد الباطنيّة للقصيدة، غير تلك المتعارف عليها في النّاحي الجماليّة سواء في الألفاظ وما تحدثه من إيقاعات خاصّة للقصيدة أو في الصورة المتحصّلة للمعنى. فتبرز بذلك إيقاع وجدانه، وحالاته النّفسيّة، وما لديه من مخزون عاطفيّ وتجربة شّخصيّة.
يستشفّ القارئ في ديوان "تصاويرك... تستحمّ عارية وراء ستائر مخمليّة"، إيقاع الشّاعر كريم عبد لله الوجدانيّ المتأرجح بين الحزن والحنين، والانكسار، والانتظار، والشّوق... وهنا تكمن صعوبة صياغة القصيدة، لأنّها من جهة، خضوع تامّ للحالة الشّعريّة، ومن جهة أخرى مخاطبة إحساس القارئ قبل فكره. فتتسرّب الرّسالة الإنسانيّة من القلب إلى العقل، على عكس ما اعتيد عليه، أي قبول المعنى عقليّاً وفكريّاً ثم التّعمّق بالمقروء لفهم مقاصد الشّاعر.
ولئن كان الحديث عن مخاطبة الوجدان والإحساس أوّلاً، فمن المفترض إحكام السّيطرة على الانفعالات النّفسيّة المتفجّرة من عمق الشّاعر ليتمكّن العقل من الغوص في دهشة الشّعر، فيتلمّس القارئ قدرة الشّاعر على التّعبير عن الإنسان بشكل عام انطلاقاً من التّعبير عن ذاته.
أيّتها الغيابات المتكرّرة في سمائي ..
يا صدى الرّاحلين في ظلمات النّسيان ..
الأضغاث عادت تستريح على ظلّ السّراب
في المرآة عيون تزدحم محدّقة..
يتبيّن القارئ في هذه النّصّ من قصيدة "الغيابات المتكرّرة صدى الرّاحلين" (ص 9)، صخب الذّاكرة المحمّلة بالحزن والانكسار النّفسيّ. وللوهلة الأولى تشتعل ذاكرته ويضطرب إحساسه ليعود ويترافق مع الشّاعر في داخل القصيدة يبحث عن ذاته بين السّطور، ليشرك انفعالاته بانفعالات الشّاعر، ويستحضر صوت الرّاحلين، إلّا أنّه يصطدم بالسّراب. هذا الجوّ المشحون بالحزن والانكسار لا يظهر عمق الشّاعر وحسب، وإنّما يتيح للقارئ ملاقاة رفيق يأتمنه على ذاكرته الحزينة والمتألّمة، ويرافقه في شتّى محطّات التّيه النّاتج عن الهزائم النّفسيّة. كما أنّه يبرز إيقاع الذّات الحزينة المشتعلة في البدء لتعود وتخمد رويداً رويداً في ختام القصيدة:
أدمنت في وجوه الغابرات كلّ هذا التّحديق..
أتفرّس في جيوبهنّ عطر أنفاسك
لكنّك... تسلّلت بهدوء من أوتار أشرعتي.. وغفوتِ...
وما هندسة السّطر الأخير من القصيدة إلّا تعبير عن غرق تدريجيٍّ في الحزن حتّى بلوغ الصّمت العاجز ربّما وانذثار الحلم (وغفوت...)
يتصاعد الإيقاع النّفسيّ عند الشّاعر في قصيدة "أطهو الانتظار... في مفاصل النّوم" (ص 18)، يتخلّله انتظار جاف، خالٍ من الأمل. أشبه باستسلام واعٍ للواقع المأزوم. تسيطر على النّصّ مفردات تتناغم والحالة المسيطرة على الذّات وما تؤول إليه من سكون، مرادفة للانقياد والخيبة:
أطهو الانتظار في غليون أحلام زائفة
الأخبار الرّائبة في دفاتر قيلولتي
تزوّل المواعيد عمداً في مفاصل النّوم
ظلّي المتواري مثل شموعٍ تقطعها مكائد عمياء..
ترتشف البرد المتجذّر في ليلي أشباح تتلمّظ..
لعلّ البرد والنّوم المتلازمين في هذا النّصّ الشّعريّ يكثّفان صورة الإحباط النّفسيّ، الأشبه بالموت. وهنا الحديث عن الموت المعنويّ الّذي يحوّل الحياة إلى انتظار عبثيّ/ انتظار اللّاشيء، مع عدم القدرة على التّغيير. ويندرج المعنى في إطار التّخدير النّفسيّ المشبع بالحنين دون الانفتاح على بصيص أملٍ يخرج الإنسان من الحصار الواقعيّ والنّفسيّ.
أسرجت غيوماً فوق هضابها المحمّصة تغفو..
مرتدياً قلقاً يعشعش على ثياب الفجر..
وخيوط العناكب تزيّن مراكبي وهي تنأى بعيداً بعيد..
/
وهنا تسير الأمنيات على هشاشة الألوان..
بلا أسماء أو عناوين تتسلّق مآذني صورتها..
كيف للإطار أن يحوي إذاً كلّ هذا الخراب ...... !
يزداد الإيقاع حدّة في وصف الشّاعر للحال الّذي وصلت إليها البلاد، مساوياً بين الرّبيع والموت. وتتداخل المعاني لترسم لوحة سورياليّة تبيّن الواقع الّذي يتخطّى المنطق والقدرة على الاستيعاب. فإذا كان الرّبيع يرمز إلى الموت، أو بمعنى أصحّ، إذا أنتج الرّبيع الموت كدائرة مقفلة لا يمكن الفرار منها، فأيّ معنىً للحياة بعد؟ وأيّ مخرج يُمكن أن يبحث عنه الشّاعر للتفلّت من هذا الواقع الأليم. فتأتي خاتمة قصيدة "صقيع... يلتهم الجكليت" (ص 31)، لتكشف عن عَدَمٍ حتميّ:
بأعناق الفوانيس يشتدّ حزن الجوع الأسود
الأيّام بلا تقاويم والعار عقارب تصلّي اللّيل ..
على وجنات العصافير النّازحة تعوي الغربة ..
والرّبيع يتكوّم قنبلة موقوتة في مرحاض...
منشغلات دواهي المؤامرة بغنائم النّساء ...
الأمراء متخمون بعصير النّهود المغصوبة باسم الحقّ ..
وحيداً على ضفاف الدّين يموت الرّبّ..
يفصل السّطر الأخير من هذا النّصّ الشّعريّ بين عالم السّماء وعالم الأرض، بل إنّه يستبعد السّماء بموت الرّبّ. فعن أيّ خلاص يمكن البحث بعد؟ وعن أيّ رجاء يمكن الحديث، في ظلّ يأسٍ قاتل لا يعقبه إلّا العدم؟
يتجدّد الإيقاع النّفسيّ الشّعريّ، ليأخذ منحىً آخر في قصيدة "بذوري نثرتها منتظراً أمطار شهوتك" (ص 41)، لتتجلّى الرّسالة الإنسانيّة وإن بشكل خجول، ورغم النّفس المثقلة بالحزن والأسى، ليشعل الشّاعر ضوءاً خافتاً ليسيطر على انفعالات القارئ لينتشله من الحزن العاصف:
السّماء ما زالت تحتفظ ببريق عينيكِ..
مواسم القطف تنتظر نيسان بشفاه الملذّات...
بينما بذوري نثرتها منتظراً شهوتكِ
هذا الأفق لا ينتهي مبتدئاً من عتبةِ عيونكِ...
يمتدّ بعيداً بعيداً يهشّ على طيور نرجسيّتي..
حين تنام على قطيفة حنوّكِ تغرق وتستسلم للهذيان...........
كلّما يكفهرّ العالم أطوف أحمل وجهكِ شمساً مشرقة...
وبحجولك الفضّيّة أطرق أبواب الصّباح..
ويعود الإيقاع إلى بدايته في قصيدة "ملحمة الوجع المستديم ليل طويل خشن" (ص 59)، ليعرب عن وجع لا ينتهي إزاء وحشيّة الواقع:
وباء يركض في أطراف المدينة..
موعدنا كذبة عاهرة نصدّقها دوماً..
كيف يكون الأفق زنزانة تنبح بوجه الشّمس
وهذا النّواح الطّويـــــــــل بلون واحد مطأطئة نغماته.. والفاتحون يبصقون
على جرح نازف لمّا يندمل!
المناجل جاءت تحزّ رقاب الشّموخ..
السّنابل الحبلى تتلوّى بقبضة غراب أعور..
بينما الأفواه مكبّلة بصمت سحيق..
وهكذا يؤدّي إيقاع النّصّ وظيفة معنويّة كاشفة عمّا في نفس الشّاعر، بحيث يصبح الإيقاع جزءاً أصيلاً من المعنى، وهذا ما تسعى إليه القصيدة بشكل عامّ وانتبه إليه النّقّاد ولاحظوه في قصائد الشّعراء قديما وحديثاً، وهذه سيمياء ذات دلالة فنيّة تمنح النّصّ صدقاً مشاعريّاً يتجلًى في الشِّعر ليكوّنا معا قصيدة متآلفة المعنى والمبنى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق