اتصال المؤسسة وطرائق التدريس الحديثة/ د. لبنى لطيف

أكتب هذا المقال ، باعتباري متخصصة في مجال الاتصال ، ولي سنوات طويلة عكفت فيها على تدريس هذه المادة في تخصصات مختلفة سواء في  العلوم الانسانية والاعلام أو علم اجتماع الاتصال أو علم اجتماع التنظيم والعَمَل .. كما كتبت في هذا كتابا ومقالات متفرقة في مجالات عدة من الاتصال وبحوثا منها ما اكتمل ومنها ما لم يكتمل بعد ، كما أنني تلقيت مؤخرا دعوة شفهية لحضور يوم دراسي حول اتصال المؤسسة إلا أنني اعتذرت عن الحضور لأنني منشغلة حاليا بالسياسة وأمور أخرى ،  كما انشغلت البارحة بالاتصال ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لأنني حول شأن الاتصال أنا ألقي محاضرات أكثر من أن أستمع لما يدندن به الآخرون من خارج التخصص عنه .  
ولتعلقي في الماضي بمجال الاتصال ، حيث تشدني إليه الذكرى الطيبة ، أجدني من حين لآخر أعود للحديث عن ثناياه المختلفة ، واليوم سأتحدث عن اتصال المؤسسة ولكن من الناحية البيداغوجية أكثر منها العلمية .. و لا بأس أن أوضح بعض المحطات التي قد يصعب على بعض الغير متخصصين في المجال فهمها في حقيقتها الشمولية ..
فالبعض منا ، حينما نأتي على ذكر " اتصال المؤسسة " نجده أبعد ما يكون عن المعنى الرامية إليه هذه اللفظة ، إلا أنه من البديهي لدى الخاص والعام أن اللفظة تشير إلى ذلك الاتصال الإنساني الذي يحدث في إطار التنظيم المؤسساتي ، وهو من دون أدنى شك سيأخذ شكلا مميزا يجعلنا أثناء الحديث عنه نركز على حدوده التواصلية الزمكانية أكثر من حديثنا عن ذلك التواصل عند الجماعات البدائية في العصور الغابرة بين القبائل و الأشخاص و الطبيعة ..الخ ، و ذاك هو إهتمام الأنثروبولوجيين إذا ما تحدثو عن الاتصال في شكله الإنساني والعام ، إذ يكون تركيزهم أكثر ما يكون على البعد الشخصي للاتصال ، الشفهي و الحركي ، والذي يدور في دائرة مرسل ومستقبل ورسالة شفوية أو إيماءات وحركات ... 
أما نحن ، فحديثنا هنا هو عن اتصال المؤسسة ، والذي حينما نخوض فيه سننطلق بكل تأكيد من فهمنا العام للاتصال الإنساني بمختلف الرؤى الانثروبولوجية والسيميولوجية والتقنية و غيرها .. ولكن ، يبقى هذا كمدخل الباب فقط ، أما الولوج إلى اتصال المؤسسة ففيه حديث آخر . ومن الأهمية بمكان هنا ، أن أشير إلى أن الجزائر سنة 2010 عبر وزارة الصناعة كانت قد نظمت يوما دراسيا للتحسيس بأهمية الاتصال المؤسسي تحت شعار " الاتصال طاقة مستدامة " ، وحضر آنذاك خبير الاتصال الدولي بيير جيليار الذي تحدث بعمق عن اتصال المؤسسة و ارتباط فعاليته بفعالية الاقتصاد العالمي ..  
اتصال المؤسسة هو جملة النشاطات الاتصالية التي تتم في إطار المؤسسة والتي عادة ما تأخذ الطابع الرسمي للاتصال وذلك لارتباط هذا الاتصال رسميا بأهداف التنظيم ، و هو في نمطه الرسمي يأخذ أشكالا و هي الاتصالات الصاعدة و النازلة و الأفقية ، الداخلية و الخارجية ، المباشرة و الغير مباشرة .. دون أن نغفل عن وجود اتصال غير رسمي يحدث بين أطراف جماعات العمل داخل التنظيم وما له من تأثير على الفعالية التنظيمية بشكل أو بآخر ..إضافة إلى وسائل الاتصال التقنية التي لا غنى عنها في الاتصالات الرسمية مثل الهاتف ، الفاكس ، وسائل الاعلام الجماهيرية كالتلفزيون والصحافة والإذاعة ، الأنترانت والاكسترانت ، البريد الالكتروني ، الموقع الإلكتروني للمؤسسة ، ومختلف ما توفره الانترنت اليوم من اتصالات حديثة ..
و يدخل في نطاق هذا الاتصال المؤسساتي صور من التواصل منها ما هو مكتوب كالتقارير والمذكرات والرسائل الوظيفية والاقتراحات والشكاوي وإعلانات الحائط ومجلة المؤسسة ..الخ ، و منها ما هو لفظي مثل الأوامر و التعليمات الشفوية والاجتماعات والمقابلات والندوات وغيرها من أساليب التواصل اللفظي المؤسساتي ، ومنها كذلك الحركي وهو اتصال بالإشارات والحركات وإيماءات الوجه .. أو ما نسميه بلغة الجسد والتي باتت اليوم تحتل مكانة بارزة في توصيل الفكرة والمعنى ، و التأثير أيضا ، إلى جانب الكلام .. حيث بينت الدراسات الحديثة مؤخرا أن ما يؤثر أكثر على متلقي الرسالة الاتصالية هو صورة وشكل المرسل وذلك بنسبة 55٪ ، ليبقى ما نسبته 38٪ للصوت ثم 7٪ للكلمة . 
إضافة إلى كل هذا ، فالحديث عن اتصال المؤسسة في رؤيتي يضطرنا أيضا إلى التطرق إلى ذلك الاتصال الخارجي للتنظيم ، فكلاهما مكملان لبعضهما و لا يمكن لأي مؤسسة اليوم الاستغناء عن أحدهما لحساب الآخر . ومن الاتصالات الخارجية للمؤسسة نجد العلاقات العامة  (مع جمهور العملاء و مع الجهات الحكومية و مع الشركات المنافسة أو ذات الشراكة ..) ، وتنظيم مؤتمرات وندوات  ، شوروم ( عروض ) ، الدعاية ، الإعلان والاشهار ، السبونسورينغ ( الرعاية ) ، العلاقات مع الصحافة ..الخ ، خاصة ونحن اليوم نعيش عصر اقتصاد المعرفة في كنف مجتمع دولي يؤمن بسياسة الباب المفتوح ، فالمؤسسات اليوم أصبحت تسمى ب" المؤسسة المرنة " و " المؤسسة المواطنة " ذات النسق المفتوح و الدينامي والتي تتفاعل مع محيطها الخارجي و الداخلي معا .. كما يستوقفني هنا رائد المناجمنت "بيتر دروكر" حيث أنبه وبشدة إلى أن الحديث عن اتصال المؤسسة المعاصرة اليوم ، لا يكتمل دون التطرق إلى إسهامات بيتر دروكر في ذات الشأن ، حيث نعتبره أكبر من تحدث عن الاتصال الديموقراطي داخل المؤسسات العصرية في يومنا هذا ، فقدم بذلك نموذجه المؤسساتي و الموسوم ب " الادارة بالاهداف " ، هذا النوع من التسيير الذي يضمن تدفق عال المستوى للمعلومات في كل الاتجاهات الاتصالية الأفقية والصاعدة والنازلة دون قيود تعيق الفعالية الاتصالية والتنظيمية معا . 
الآن تحدثنا في عجالة و إيجاز عن اتصال المؤسسة ، بقي لي أن أوضح الأسلوب الاتصالي الذي ينتهجه المدرس لتوصيل المعلومات حول هذا الموضوع ، وسأنقل تجربتي التي اعتمدتها مع طلبة تخصص علم اجتماع تنظيم وعمل  في مادة " اتصال المؤسسة " رغم الإمكانيات المحدودة ، أذكرها باختصار ودون التفاصيل الطويلة : 
1 - تقديم دروس عبر شاشة الداتاشو يتم من خلالها عرض فيديوهات لرجال أعمال و مديري مؤسسات و مشاريع حققوا نجاحات في إرساء الفعالية التنظيمية من خلال الفعالية الاتصالية ، هذا النقل لنماذج حية من القادة يجعل الطالب  يلمس بفؤاده العبر من تجارب الآخرين ، الأمر الذي سيجعله يتقمص هذه الأدوار الإيجابية في مجتمعه ..
2- في أحد الدروس الخاصة بالعلاقات العامَّة داخل و خارج المؤسسة ، فكرت في طريقة ما و أسميتها " طريقة الضيف " اذ قمت باستضافة رجل علاقات عامة ،  و هو مدير الاتصالات و العلاقات العامة و التطوير بشركة أجنبية  في الجزائر ، حتى يشارك في جزء من تقديم الحصة ، إذ برع في  عرض نموذج حي لعمل العلاقات العامة من خلال ما يقوم به من أعمال في هذا الخصوص في مؤسسته بالتنسيق مع محطات الدرس الذي أعرضه حتى نقارب بين النظري والميدان ، وتم خلال ذلك فتح المجال للطلبة لطرح الأسئلة عليه و المناقشة والحوار والاستفادة من خبرته في المجال ..
3- كان من الضروري بمكان ، أيضا ، أن أخرج بطلبتي نحو الميدان ، لكي يتعرفو على الاتصالات المؤسساتية في واقعها ، فكانت خرجتنا نحو إدارة المكتبة المركزية بالجامعة ، إذ كان في استقبالنا الأمين العام للمكتبة والذي لم يبخل علينا بالمعلومات الضرورية حول هذا الموضوع ، و زود الطلبة بنماذج من التقارير الإدارية والمذكرات و الرسائل الوظيفية  (و هي أنواع من الاتصالات الرسمية المكتوبة ) حتى يكون لدى الطالب فكرة عن طريقة إعدادها و شكلها و مضمونها ..و بعد هذه الخرجة الميدانية قمت بتكليف طلبتي بكتابة مذكرة إدارية بِكُل ضوابطها و أحكامها حتى نرى مدى استيعابهم لفوائد تلك الخرجة الميدانية . 
4- كما تنوعت طرق عرض الدروس داخل الصف مثل طريقة القصف الذهني أو العصف الذهني وهي طريقة تعليم يابانية يتم خلالها عرض مشكلة ( مشكلة اتصالية داخل مؤسسة ) ، ثُمَّ يَقُوم الطلاب بتقديم أفكار وحلول للمشكلة كل حسب رؤيته ، فهي تعتمد أساسا على حرية التفكير ، ثم نقوم بعدها بغربلة هذه الافكار واستخراج الأقوم والأصلح كحل لتلك المشكلة الاتصالية المؤسساتية . .
5- طريقة أخرى قمت باعتمادها أيضا وهي طريقة لعب الأدوار ، حيث كان مطلوبا من كل أطراف المجموعة الواحدة لعب أدوار معينة مثلا ( مدير - موظف مبيعات - زبون ) ، وعلى كل مجموعة إختيار الموضوع الذي ستتناوله بحرية سواء كان اتصالا شفهيا أو كتابيا أو الاثنين معا أو غير ذلك من الاتصالات المؤسساتية ، الداخلية أو الخارجية ، والهدف من هذه الطريقة التدريسية هو ممارسة الفعل الاتصالي و الاداري معا ، حتى يكتشف الطالب قدراته الاتصالية اذا ما تقمص دور مدير مؤسسة أو عامل بسيط .. 
6- وحينما أتحدث عن الاتصال المؤسساتي لاسيما الشخصي المباشر ، فإنني سأود الحديث دوما عن مهارات الاتصال الفعّال ، لأنه بدون هذه المهارات لا نستطيع التأثير في العملية الاتصالية المؤسساتية ، فقمت بتطبيق المهارات السبع (7c's) أي السينات السبع وهي : Clear. Concise.Concrete.Correct.Coherent.
Complete. Courteous. بحيث يتطلب الموقف الاتصالي حتى يحقق الفعالية الاتصالية هذه المتطلبات الاتصالية السبع ، وعليه قام الطلبة بتمثيل موقف اتصالي بين طرفي الرسالة الاتصالية ( مرسل - مستقبل ) و كانت الرسالة أو موضوع الاتصال هو " التسويق الشخصي " ، حاول من خلال ذلك الطلبة تطبيق مهارات الاتصال من خلال عرض منتج أي سلعة للطرف المتلقي و إقناعه بشرائها باستخدام المهارات السبع تلك .. خاصة و أنني في هذا الصدد و أنا أتحدث عن الماركتينغ لا جرم أن أنوّه بالمجهودات المحترمة التي قدمها رائد التسويق المعاصر اليوم " فيليب كوتلر " و هو المستشار الضليع في الاتصالات التسويقية لشركات مثل موتورولا وآي بي آم وكذا مستشار البنك المركزي الأمريكي  ، حيث سال حبر قلمه كثيرا حول مهارات الاتصال التسويقي سواء الشخصي أو الالكتروني .. 
هذا مجملا و باختصار لمحة عن طرائق التدريس الحديثة التي اعتمدتها مع طلبة تخصص التنظيم و العَمَل ، فيكفينا ونحن مدرسين نحمل على عاتقنا رسالة نبيلة للنهوض بمستوى أبنائنا الطلبة أن نؤدي هذه الأمانة بصدق و إخلاص ، و يكفيني كذلك أنا ، على المستوى الشخصي ، أن يقع على مسامعي عند نهاية حصة من تلك الحصص صوت طلبتي و هم يقولون " بارك الله فيك يا أستاذة " و هذا هو فخري و مبتغاي . 
والمجال واسع و مفتوح للزملاء في مختلف الأطوار التعليمية حتى يبحروا في هذه الطرائق التدريسية أو طرائق أخرى ، فالإبداع ديدن الصادقين المخلصين و التوفيق من عند الله وحده ... كما لا ننسى أيضا أن العمل هو صدق مع الله أولا ،  وإخلاص للوطن ثانيا ، ثم جني للثمار ثالثا . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق