أثار برنامج أراب آيدول الذي بثته فضائية (الإم بي سي) موجات من الانتقادات والنقاشات وصلت حدًا من العصبية وتراشق التهم خاصة بين رواد شبكات التواصل الاجتماعي، حتى خيّل للبعض أن الأمة أجمعت لحين، بمفارقة استثنائية وغريبة، على تحوّل هذا البرنامج إلى قضية العرب الأولى التي تتصدر أسواق أوجاعهم وآمالهم، فغدت تفاصيل حلقات البرنامج أحاديث الساعة في كثير من المحاضر والدواوين، وطغت لهفة انتظار النتائج عند البعض على كل هم آخر وغم.
من اللافت أن عددًا من محاور الخلاف والوفاق التي شاعت بين ملايين المشاهدين كانت مستنسخة عن أحداث هذا البرنامج في مواسمه السابقة، فاستقطاب المغنية أحلام، مثلًا، لعدد كبير من المنتقدين لها ولمواقفها التي شعر كثيرون بأنها مستفزة لم يحمل جديدًا، وكان بمثابة استعراض مكرر عمّا حصل في السنوات السابقة، وكذلك كان استنغاش البعض لطلة الفنانة نانسي عجرم ونعومتها وغض نظر هؤلاء عن ضعفها كمحكّمة غير متمكنة من فصاحة الكلام ومن عناصر النقد الموسيقي الأساسية. أما اختلاف تأييد المشاهدين للمواهب المتنافسة، فلقد غذته، في الواقع، عواطفهم البدائية التي لم تتحكم فيها، على الغالب، مساطر تعتمد على أصول الغناء أو مستوى الفن المقدم وضوابطه، وهذه تبقى بمثابة المسألة الأميز والأهم، فمنظمو البرنامج وجميع طواقم إعداده خططوا لإشاعة مناخات آسرة حيّدت عقول غالبية المتابعين وعطلت كوابحها،ودفعتهم إلى التحزب غريزيًا حتى صار "طبيعيًا" دعم العراقي لابن بلاده، بمنأى عن مستوى أدائه الفني، والأردني "ملزمًا" بالمتسابق الأردني، ومثلهما على الفلسطيني وغيره أن يفعلوا؛ والحكمة من ذلك تبقى بضمان أصحاب الفضائية ورعاة البرنامج تدفق ملايين الاتصالات "الوطنية" والتي كلما زادت امتلأت خزائنهم بالأخضر وما يساويه من عملات وطنية وعالمية أخرى.
في الواقع لا غرابة بذلك ولا احتجاج، فبرنامج اكتشاف "معبود الجماهير" هي فكرة عالمية وليدة لثقافة الترفيه والاستهلاك في مجتمعات تخطّت بتركيباتها رزمة المفاعيل القبلية والحمائلية والدينية وتأثيراتها اليومية المباشرة على سلوك أبنائها، ولا تعيش وفق هواجس العصبيات الفئوية أو الطائفية بحدتها، وكما يغرق فيها أبناء الشرق، متابعو الفضائيات المتكفلة بتعويم وتسطيح فكر المواطن العربي أو تغييبه، لا سيما في هذه الأيام الدامية
لم يكن قصد من اختلقوا هذه "اللعبة" اعتمادها على أنظمة فنية مهنية صارمة وعالية المستوى، كما ظن بعض النقاد للبرنامج بيننا، وهم لذلك لم يستهدفوا انتخاب لجان تحكيم مكونة من خبراء مؤهلين أو نقاد لا يشق لهم غبار وخريجي معاهد الموسيقى العليا أو ملحنين أكفاء ذاعت شهرة أعمالهم، بل كان يكفيهم حد أدنى من تلك المواصفات شريطة أن تتوفر في "نجوم" جذّابين "فرقع" صيتهم في أسواق الرغوة ويشد حضورهم ملايين المعجبين، فلولا غنجة نانسي ومسحة دمعتها الناعمة لا يطيب السهر، ومع تسريحة شعر حسن الشافعي تحلو الأماني، ويشتعل التحدي الفاصل بين حلاق تهجره القوافل لأنه "دقة قديمة" وآخر "مودرن" ينعم على زبد موج "المستشفعين"، وطلة وائل كفوري تستفز شهقة عاشقات الليل، وتصير أدرينالينًا في صدور شباب عندهم "معقول تشتي بآب وتتلج عالدنيا كلها"، فعند وائل الخبر اليقين!
من أبرز من قوضوا البرنامج كفكرة وكمشروع ولأسباب عقائدية كانت مجموعات محسوبة على التيارات الدينية. أصحاب هذا النهج تصرفوا بشكل تقليدي، لأنهم يرفضون مسابقات الغناء واختيار المواهب بهذه الطريقة، فهي من "أعمال الشيطان" وهم يحاربون "البدع" لأنها تبدد، ككل فن شائع، أذهان الناشئة وتحرفهم عن الطريق القويم وتشغلهم عن عبادة الله، فجميع من كان لهم أيد في المشروع يعتبرون خَطَأة.
وعلى إحداثية عقائدية معاكسة سنجد من تعرضوا "لعرب أيدول" لكونه يجسد قيمة تتعارض وقاموس قيمهم "الوطني"، وفعلًا لا يتماشى وطبيعة المرحلة ومتطلباتها الكفاحية النضالية، فالبرنامج يعرض في زمن تعاني فيه الشعوب العربية ويلات الحروب ومآسيها، وعليه فلا يجوز أن يفرح اليمني والسوري وبلادهما تقصف من كل حدب وصوب وجثث إخوانهما تملأ السفوح والوهاد التعيسة، وكيف يغني أبناء فلسطين للفرح والحب وللعرزال وللخدود العنابية، وعلى رقابهم نير الاحتلال وليلهم ما زال أعمى؟
لا نية عندي لمناقشة المعترضين من تينك الفئتين، فحقهم أن يؤيدوا وحقهم أن يعترضوا، ومن أراد منهم ممارسة كفاحه لم يمنعه البرنامج من ذلك، ومن نوى المضي وراء "معبوده" كان له ذلك أيضًا، لكنني أتمنى عليهم أن يحترموا رأي من لا يوافقهم الرأي وأتوقع منهم أن يمتنعوا عن المزايدة أو التكفير؛ فالجماهير العريضة تابعت البرنامج ومن باب النزاهة أقر أنني حضرت جزءًا كبيرًا من حلقاته وشاهدت ما شاهدوه، لكنني كنت دائمًا أذكّر نفسي والآخرين، حينما كانوا يحتدّون غيظًا بعد قرار لم يرق لهم أو تعليق استفز ذائقتهم الفنية أو كرامتهم، أنهم غير ملزمين بالمتابعة وفضائية (الإم بي سي) لم تجبر أحدًا على ترتيب أوقاته بما يكفل تأهيل ساعتين من مساءات تلك السبوت للتمسمّر أمام شاشة التلفزيون وممارسة طقوس الانتشاء الزائف والنرفزة الديغيتالية.
على الرغم من واقعيتي النسبية في تفهم المشهد العام واستعدادي لتحمل منغصات قراري الذاتي، يبقى ما جرى بين المتنافسين أمير دندن ويعقوب شاهين عبارة عن فصل خاص شذ عن باقي الأحداث بما حمله من مفارقات فلسطينية فلسطينية وشحنات زرعها من زرعها وربما "تلاعب"، وتوهيمات كان بعضها أقرب للمغالطات المقصودة أو التحريض المبطن والخبيث.
وقبل الخوض فيما أقصده أوكد أنني أتفهم موقف كل فلسطينية/ا دعمت متنافسةً/ ا فلسطينيةً/ا، فبعد نفينا لكون هذه المنافسة مسابقة محترفين مهنية واستبعادنا اعتمادها مساطر أكاديمية منمّطة دقيقة، يصبح الوقوف الى جانب ابن شعبك خيارًا مبررًا خاصةً إذا كان هو صاحب موهبة ناضجة وجديرة بالمنافسة كما في حالة الفلسطينييَن يعقوب وأمير.
قد يكون من الافضل أن أنهي مقالتي هنا وألا أزيد، لكن ما شهدناه وقرأناه في مراحل المنافسة الأخيرة كان مزعجًا خاصة عندما ذهب البعض يفتش عن جذور يعقوب شاهين المسيحية وآخرون تتبعوا سريانيته حتى أخمص "السين"، وفي المقابل بدأت أخبار "اكتشافات" جذور أمير دندن "الإسرائيلية" تغزو المنصة، لأنه من سكان قرية مجد الكروم الجليلية، في مفارقة تذكّرنا بما عاناه من قبله ابن بلدته هيثم خلايلة والذي خسر المكان الأول في دورة سابقة للبرنامج.
من الصعب اقتفاء اثر من آطلق هذه "الأخبار"، وما مدى تأثيرها على النتائج، فأمير دندن فلسطيني أصيل ممن بقوا وبنوا مع أقلية فلسطينية صغيرة صمدت في أرضها، قصة تلامس بتفاصيلها المعجزة.
ويعقوب شاهين فلسطيني أصيل مولود في المدينة الفلسطينية الأشهر في العالم، بيت لحم مهد المسيح، صاحبة نجمة الشرق الساطع نورها على أمم كثيرة.
لم ترق لي طريقة التعامل الفلسطينية بعد الكشف عن "السرين" الخاصين بصاحبي الحظوظ الأوفر لفوزهما باللقب موضوعيًا، لكن محاولات استيعاب تلك "الخربطات" فلسطينيًا كانت بائسة، فمعظم من تطرق إليها فعل ذلك متجملا أو متصنعًا ومبررًا وشاغلهم كان التعتيم على واقعين ومغمغة حقيقتين: فأمير فلسطيني لكنه مواطن في دولة لم يختر الولادة فيها، ويعقوب فلسطيني ولد ونشأ في حضن عائلة مسيحية في مدينة بيت لحم.
لن أسهب في هذه القضية الموجعة فهي جديرة بمقال مستقل، لكنني أوكد ان الفلسطينيَين جديران باللقب و"الآيدول" الكامل يقع بينهما، فبقليل من صوت أمير المميز على كثير من مهنية يعقوب وتمكنه الفني يكتمل صوت فلسطين الجميلة.
لقد ربح يعقوب شاهين بجدارة اللقب وهو "آيدول العرب" وقد حصل على ذلك بالرغم من كونه مسيحيًا، ولم يربح أمير ربما بسبب دس البعض و" اكتشافهم" حمله للجنسية "الإسرائيلية"!
أمّا الحقيقة الساطعة، بعد كل ذلك، فهي وحيدة واحدة: فلسطين بجميع أبنائها كانت وتبقى هي "الآيدول"
وللوجع تتمة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق