لا يزال اسم الأديبة الجزائرية زهور ونيسي حاضرا في الوسط الثقافي العربي، كونها واحدة من الأسماء التي دعت إلى ضرورة الإصلاح والاهتمام بالمجال التربوي وتعليم المرأة، وكذا توعيتها للمشاركة الايجابية في الحركة التنموية وسط المجتمع.
يشير النقاد إلى أن ونيسي هي أولى قاصة جزائرية تناولت موضوع الثورة ومكانة المرأة في تلك الفترة الزمنية، من خلال مجموعتها الموسومة "الرصيف النائم" خلال فترة الستينيات، وواصلت الكتابة إلى غاية التسعينيات فصدر لها بين القصة والرواية والمذكرات: "لونجة والغول" (1993)، عجائز القمر (1996)، روسيكادا (1999)، "عبر الزهور والأشواك.. مسار امرأة" (2012) وغيرها من مؤلفات هذه المبدعة التي لا تغيب.
استوقفتنا شخوص مجموعتها القصصية "الظلال الممتدة" التي تفوح غالبا بالفكرة الإصلاحية، والتي برزت في العديد من أعمال الأديبة ونيسي عموما كونها عايشت ظلم المستعمر الفرنسي والتدهور الذي آل إليه الشعب الجزائري في تلك الفترة الزمنية العصيبة، كما يبدو جليا في قصتها الأولى –الظلال الممتدة- والتي حملت عنوان هذه القصص، أين تتآكل المخاوف قلب البطلة في فقدانها لابنها البكر بعدما فقدت زوجها الغائب عن داره كغيره من رجال القرية المناضلين في سبيل استعادة الحرية: "رباه.. إنها لا تريد أن يحصل ما نفكر فيه، إنه الضياع الأبدي أن تفقد رجالها وكيف؟ أن يقتل أحدهم الآخر..." (1).
راودت البطلة فكرة إلحاق ابنها بصفوف المجاهدين حتى لا يصبح جنديا في صفوف العدو ضدهم، فسارعت به إلى الأدغال لتسلمه لتلك الفئة المناضلة هناك من أبناء الجزائر:
"واشتد وقع خطواتها ودقات قلبها على الأرض والظلام، وكأنها في كل خطوة تجهز على ذلك التنين الكبير من الحيرة والعذاب وتحاول القضاء عليه قبل أن يقضي عليها ويقضي على هذه الروابط التي تربط أسرتها الصغيرة رغم تفرقها..." (2).
وتمزج ونيسي في قصة "الظلال الممتدة" بين الزمنين التاريخي (الثورة الجزائرية) والقصصي (زمن الخطاب)، أين تغوص الساردة في أعماق الماضي لاسترجاع تفاصيل المجاهدين، وتسير الأحداث بشكل تصاعدي كما نقرأ عنه في كتب التاريخ، ثم تكسر البطلة زينب رتابة السرد بالصعود إلى الحاضر، حين وجدت صوت حفيدها يخرجها من متاهة ذاكرتها كما نقرأ في المقطع الموالي: "-ألا تدرين يا جدتي؟ يبدو أنك أصبحت عجوزا حقا؟ إنه يوم عطلتنا جميعا؟ إن اليوم ذكرى الحرية يا جدتي عشرون سنة كاملة قد مرت على الإستقلال" (3).
قصة "حديقة الله" مأثرة جدا أين نجد البطل يحاول التمرد على مرضه الذي أقعده مدة طويلة في الفراش، ليتحول فجأة إلى مدمن على القراءة وكتابة القصص التي تكون نهايتها للأسف الشديد مأساوية: "للتمزيق... منذ مدة طويلة كان يتخذ هذا القرار في آخر كل محاولة كان يقوم بها في الكتابة، إنه لا يرى في نفسه أي أمل.. أن يكتب وينشر ويملأ صفحات الصحف والمجلات بفكره وأدبه، فيعوض لنفسه ما ضاع منها..." (4).
استعانته –البطل سي عبد الباقي- برجل ثالثة جعله يخرج من تلك الحالة المرضية التي وضعته أمام مآسي الحياة التي يعيشها العقلاء والأصحاء من عامة الناس: "إننا في المدينة على كل حال.. وليس هذا هو المهم.. إنما المهم من يعيش في هذه المدينة... تبا للتخريب والمخربين... فالمصعد موجود ولكن حاله أشبهت حالي.. والنور موجود ولكن أيد كثيرة لا تريد أن تترك هذا النور موجودا" (5).
تستحضر قصص هذه المجموعة الواقع المعاش واليومي للمجاهد الجزائري قبل وبعد الثورة، كما هو الحال في قصة "مجرد عتاب" حيث يتمرد البطل سي صالح هو الآخر على أجواء تهميشه كمناضل استعصى عليه الأمر في حصوله على أوراق تثبت كينونته كمشارك فعال في الثورة المجيدة: "كان ما أن يتم استخراج ورقة حتى تموت الأولى... تنتهي مدتها.. ويعيد الكرة من جديد... وكأنه يزاول لعبة الغميضة في ساحة لها مائة باب متشابهة... في الوقت الذي حصل سي قدور على أهم الشهادات وهو في بيته... وصلت إليه الأوراق ولم يذهب اليها..." (6).
يظل كنزه الوحيد –سي صالح- هو قيمة تلك الأشياء التاريخية العظيمة والقديمة التي حافظ عليها وجمعها في حقيبته الجلدية القديمة: "وجمعها جميعا... في حقيبة جلدية قديمة. كان يفعل ذلك للمرة العاشرة أو العشرين منذ انطلق نداء متحف الثورة، والرجل يعيش في صراع بينه، وبين ماضيه، وما تبقى من هذا الماضي، وبين حاضره وما فيه..." (7).
تستحضر القاصة زهور ونسي عبر نصوص "الظلال الممتدة" المكان الذي تتحرك فيه ملامح وجوه شخوصها المتمردة على اليأس بجملة من التفاصيل الصغيرة، والتي تغرس في أرواحهم الأمل لغد أفضل، كما هو الحال في قصة "الشيء المؤكد" أين يجتمع البطل كمال بسي عبد الباقي في الحديقة التي كان يتردد كليهما عليها أين يحاول هذا الأخير إخراجه من قوقعة وحدته وشكله البائس المحطم لكونه ضريرا:
"-بالطبع... بالطبع يجب أن تعمل أيها الشاب... أو لعلك تعودت على الكسل... قالها الرجل مداعبا...
- كلا ما أنا بكسول أبدا.. لكنني أريد عملا قارا أشعر معه بالاستقرار... بأنني لست وحيدا...
- لا بد من ذلك في الحقيقة..." (8).
يحاول البطل في القصة الأخيرة لهذه المجموعة والتي تحمل عنوان "موجة برد" إبعاد صورة زوجته الأولى وصور الأثاث القديم بطريقة متمردة، لأنه أيقن أنها مجرد طفيليات تركت خطوطا سوداء في نفسه الحزينة رغم زواجه من أخرى: "قام الجميع يغادرون القاعة، دون أن يشعر، نظر حواليه، ليجد الفراغ، سحب من الدخان لا تزال تتخبط في فضاء الغرفة، لا تجد لنفسها منفذا، زجاج النوافذ قد فقد لمعانه وانعكاساته نتيجة ضباب الأنفاس المكثفة" (9).
ختاما لا بد من الإشارة إلى لغة قصص "الظلال الممتدة" التي جاءت بسيطة ذات عمق دلالي تستتر ورائها المبدعة زهور ونيسي لتقديم عمل قصصي يأخذ على عاتقه سرد حوادث ثورية ووصف الأماكن وتقديم جملة من الشخوص المتمردة على أفكار واقعها اليائس بطريقة لا تخلو من التشويق والإثارة.
الإحالات:
(1) زهور ونيسي، الظلال الممتدة، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985، ص 18.
(2) المصدر نفسه ص 21.
(3) المصدر نفسه ص 23.
(4) المصدر نفسه ص 27.
(5) المصدر نفسه ص 30.
(6) المصدر نفسه ص 39.
(7) المصدر نفسه ص 40.
(8) المصدر نفسه ص 54.
(9) المصدر نفسه ص 64.
*كاتب وناقد جزائري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق