في يوم عيد المرأة.
**
المرأة تستحق الجزاء الحسن، عن كل ماقدمته للبشرية من نفعٍ، وفضلٍ، من خدمات، وجمال، وفن. المرأة هي المرأة في أي بقعة من الأرض، رقيقة، جميلة، حنون، معطاء، لديها روح المشاركة، والتعاون، والبناء، ولكنها في بلدي سورياااا شيء مختلف..لقد تحملت من الصبر، ماعجز عنه الصبر.
تمزّق قلبها بين فقيد، شهيد ، ومخطوف، وسجين، ومهاجر، في كل يوم، تتجلّد أمام من حولها، وتناجي ربها عشاء تشكو وحدتها، وانشطار قلبها،
لقد اقتسمت هموم الوطن: داخله، وخارجه: إن كانت في البلد يصيبها وابل الحمم الحارقة، وشظف العيش، وقلة الزاد، أو في صقيع الغربة، تتذكر في كل لحظة بيتها، وحيّها، ومرابع طفولتها، أهلها، تلسعها الذكريات بين وجوه غريبة تحضن أطفالها الذين هربت بهم من عبثية الموت، وقسوة الأقدار، فما انشرح صدرها رغم كل الامتيازات التي تحيط بهم، فحنينها أكبر، وحب الوطن قتّال، وهذا العذاب لم يبرحها، تتحرّق شوقا الى أخبار ذويها، تتبع تفاصيل أيامهم، بقلب هدّه الحنين والحسرة وتحصر أحلامها بطائرة تحمل أسرتها على جناحها إلى وطن انطفأت به النار أبداً، في لمحة عين.
قسوة الحياة علمتها كيف تقتصد، تقف بإخلاصٍ إلى جانب زوجها، تحمل عنه كتفا في تدبير المنزل، وتدوير الأشياء المستعملة القديمة لتغدو بعد إدخال التحسينات، والإضافات عليها، تحفة فنية بثمن زهيد، هاهي تدفئ أطفالها المرتعدين من البرد لعدم وجود الوقود، وارتفاع ثمنه ، واحتكاره من قبل الفاسدين، أمراء الحرب، ولصوصها، وندرة الكهرباء، بتأمين المزيد من الألبسة، والأغطية الصوفية، تلملم أعواد الحطب، تلقم فيها المدافئ الخرساء، تراوغ الصقيع، تعطيهم من دفء قلبها ما يعوّضهم.
إن نظرت إلى سفرة طعامها، تلفتك طريقة التقديم التي تنم عن ذوق رفيع، حتى بساطة الطعام التي أفرزها الحال، تتفنّن في ألوانها، ونكهاتها، فتصير شهية.
السورية ذات كرامة عالية، من أجل أولادها تفعل المستحيل ليصيروا بمظهر لائق، تتحايل على المصروف، من أجل أن تسعدهم، وليمشوا بين أقرانهم غير منهزمين، ولامكسورين، وفي غمرة ذلك تنسى ذاتها، بل لا تتذكر بأن تشتري لنفسها شيئا جديدا بمناسبة الأعياد، وغيرها من مناسبات، بل تدور الأسواق طولاً، وعرضاً من أجل أن تحظى بألبسة جديدة ، ألعاب يفرح بها الأطفال، بثمن أقل، نتيجة حسن اختيارها، وتقديرها الجيد للوضع، وهي لا تفوّت فرصة إلا وتنتهزها من أجل أن ينسى أولادها قسوة الحرب الهوجاء، فتصحبهم إلى الحدائق، والمتنزهات، ليلعبوا ،و إلى الزيارات العائلية للاجتماع بالأقارب، والأصحاب، وتفرِح قلوبهم التي هدها الحزن بحفلات أعياد ميلادهم، كي تخرجهم من سطوة الوجع الذي أتاهم مبكرا في أعمار لا تفقه بما يدور، إلا أن الألم يفتك بها، من قسوة مايجري.
أو بحفلات أعراسهم، التي تصر على إتمامها بأي طريقة، حتى وإن استدانت، أو باعت آخر قطعة ذهبية لديها، تزغرد، ترقص لهم ، وعظامها تشتكي من الوجع، والحرمان، يكفيها سعادتهم، وبأنها عاشت فرحة العمر التي خبأتها لهم منذ سنين.
تريد بأي طريقة أن تُنسي صغارها أوقات الخوف، والفزع وهي تحميهم بين ضلوعها، من أصوات مرعبة، تقذفها الحمم النارية من كل مكان، تضمهم مرتجفة الجوانح، خوفاً عليهم، وكم من هدمٍ، انزاح عن أم تعانق أطفالها، يلفظون معاً أنفاسهم الأخيرة، وهم بين أحضانها.
الأم السورية: شرفها يعني حياتها، مقرون بكينونتها، لا تسمح بأن تفرّط به مهما ضاقت بها الحال، وغادرها المعيل، وجفت الموارد، تراها في ظروف الحرب، قد تخلّت عن تأطير حياتها المترفة السابقة، فقبلت بأعمال بسيطة، لدى الأسر المقتدرة نوعا، فامتهنت تعزيل البيوت، وشطف الأدراج، ومهناً كريمة أخرى، ماكانت لتعرفها لولا هذه الحرب القذرة، واتبعت دورات أعمال حرفية لتعكس ما تعلمته على بيتها، تجمّله، تصنع المفارش، الوسائد، التحف، الزينة، الأطقم، والفساتين، أعمال الصوف، واتبعت دورات كوافير، لتعيل أسرتها، حتى أني لمحت مرة في إحدى الخيام إعلانا لكوافيرة تعرض مهاراتها، واستعدادها لتزيين العرائس.
المرأة السورية أنيقة في بساطة تأسرك، رشيقة، ضحوك السن، مرحة حتى في أحلك الظروف، لها طلاوة كالعسل في حديثها، وهي تروي بأسلوبها الآسر لعائلتها مجريات أحداث يومها، تخترع المواقف التي تسري عن بيتها، وتغير جو الحزن فيه، وهي العليلة ، نظيفة في بيتها مهما كان بسيطا، ترتبه باستمرار، تلمع منذ الصباح أركانه، لا تكلّ ولاتملّ، حتى إن زرت مجمعا للإيواء، أو مدرسة لجوء، تجد الأمهات كخلية النحل الدؤوب، ترتب هندام أولادها، تمشّط شعرهم، ترتق ثيابهم، تنشر الغسيل، تشطف الفسحة التي تحيط بالمكان، ثم تلتفت إلى الداخل،ترتب الفرش، والأطباق، والأشياء بذوق ملفت، حتى في الخيمة لو دخلتها، تجد تلك السمة المشتركة ، فهذه صفات تتقاسمها الشريحة الأكبر للنساء هنا،.على السواء.
المرأة السورية حيّية بطبعها، لديها طاقة كبيرة على الاحتمال، مستمدة صبرها من الإيمان المطلق بالخالق، تشكر الله وتبتهل من أجل أولادها، أن يخلصها من حروبٍ ظالمة، ما خلق السوريون لها، فرقتها عن أحبابها، وقطّعت منها أوصالها، وهي على قيد الحياة، بابتعاد أولادها الشباب عنها، أو فقدهم في رحلة أسفارهم عرض البحار، ليتوزعوا بقهرٍ بين: رحم الأرض، ورحم الحياة في بلاد بعيدة، يصرخ قلبها شوقا لرؤياهم، ولا تطولهم ،أو لمداواتهم، بعد أن فتكت الأمراض بالعديد منهم، وتحولت أجسادهم القوية الى معلولة كسيحة، ذات عاهات مستديمة، بعد أن صاروا جرحى حرب، وبترت أطرافهم، وقد تمنت أن تحمل عنهم أوجاعهم، وتفتديهم.
عيون الأمهات في بلدي لاتعرف النوم، تبكي خلسةً عندما يحلّ المساء، حتى لا تزيد من قهر الرجال، فمن فاقدة لبيت عزيزٍ، أفنت عمرها فيه، ليصير مملكتها الصغيرة، لاركن لها اليوم ، تعيش في ضيافة أحد الكرماء، أو تشارك غيرها شقة متواضعة الأثاث، إلى تقليب الأمر فيما تبقى من معاش زوجها الزهيد، أو ولدها الذي بالكاد يستجمع ليرات في جو خانق من البطالة، والغلاء الفاحش الذي يزيدهم حيرة، وانكسارا ويأسا، في مستقبلٍ غامضٍ، لا يدرون فيه كيف سيكملون الطريق، يبنون بيوتاً، ينتجون ، ويتزوجون، لقد صارت أرواحهم المعنوية في الحضيض، ورغم ذلك تقف الأم السورية بشجاعة الأبطال، تقوي عزائمهم، تبيع مصاغها الذي تناقص الى الحدود الدنيا من أجل حمل عبء المصروف، وتحسين الحال، أو من أجل تأمينهم في بلد لا يحترقون بناره، أو لمشاريع صغيرة يعملون بها درءا للعوز.
لقد تحملت الأم السورية ما تعجز عنه الأمهات ولو اجتمعن، فكم من أم سال دم ابنها على صدرها وهي تعانقه شهيداً، أو مقنوصاً، أو من تحت الردم، أو بقذيفة قاتلة وهو في طريقه الى صروح العلم، أو يستجلب حاجات المنزل من السوق.
..بعض الأمهات قد فقدت عدة أولاد دفعة واحدة، فما نطقت إلابحمد الله وشكره والاحتساب عند رب العباد، كالخنساء، وما أكثر الخنساوات في بلدي، صارت تخاف بعد الفقد على بقية الشباب في الوطن، تستعيض بهم، تصرخ: أوقفوا القتل، أوقفوا هذا النزيف الذي مزّق صدري، يكفي..صارت لا تتمنى إلا الفرج والنصر لسوريا الجريحة، وقد كثرت سكاكينها على أيد شقيقةٍ، وغريبة. فصارت تشبه قلبها.
لو عدنا إلى تاريخ المرأة السورية عبر السنين لما استغربنا منها هذا التميز، فهي ابنة الحضارة الضاربة في الجذر، من أوائل المثقفات الطبيبات، الرائدات، من تقلّد مناصب وزارية عالية، من دخل البرلمان، من أوسع أبوابه، مستشارة، ونائبة رئاسة، ومراكز قضاء،وأديبة، و سياسية محنكة، ومحاربة لايشقّ لها غبار.هي أخت الرجال متى تطلب منها الأمر ذلك، وهي الرقيقة الجميلة، الممتلئة أنوثة ودلالاً في طبيعة كوّنها الله بها من غير تكلّف، وتصنّع، وبهرجة.
إن دخلت بيتها، أسرتك بجمال طبعها، وحسن ضيافتها، رغم ضيق الحال.
تعالوا في يوم عيد المرأة، نمسح دمعتها التي تذرفها في الخفاء، ونهديها تاج عزّ يليق بها، نبارك لها بيوم عيدها الجديرة به حقاً، إنها المرأة السورية ويليق بها ذاك التكريم.كل عام وأنت الأجدر بالمحبة، والفخر يا بنت بلدي.
emanhh3@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق