الوعي الموجع في استبصار التّيه
أوّلاً- النّص:
عابر الشّرق السّريع./ د. نزار المجاهد
- 1 -
أشفّ من ألقي... فينضح قلقي...
أرنق .....
في زجاج الرّوح...أحترق.
أشعّ على دم المصباح
كالشّفق المعتّق ....في سماء الصّيف ...
كالبلّور ..
أندلق ...
وأمتلئ احمرارا
على قفا تفاحة شاميّة ...
ربعي لأحمرها ...
والرّبع للزّيتون في قرطاجة
والرّبع للرّمّان في غرناطة
والرّبع في سهل البقاع.
قوس القصيدة
ينحني
......كالرّيح
..............تعتصر
.....................الشّعاع.
-2-
تخباني السّطور بمقلتيها..
..تكحّل بصري...
تشدّ أجنحتي
لكي لا تشرد الأرباع في
الملكوت .
....للزّيتون أنباء هنا
و للرّمّان ذاكرة هناك
و للتّفاح شوق إلى خدّيه ..
في بيروت .
لماذا حينما تصحو الشّعوب
تجيء من ماض إلى ماض؟
لماذا حينما تنسى .....
......تموت؟.
...وترمّم الأرباع تاريخ المياه...
"مجردة" يصبّ على "الفرات"
و"دجلة" يحدوه "نيل "....
والبحيرات استدارت حولها
قصص اللّواتي
قد تنازعن الغسيل.
ليت لي عنق النخيل لكي أرى ...
ليت لي صبر النّخيل.
😚
..أمشي ...
فتشتبك مع ظلّي خطايا.
أكتب ما تخباه المرايا...
عن تفاصيل الفراشات الصّغيرة..
عن حماقات الصّبايا ..
عن تضاريس الهجير
على خدود الأرض ...
......عنّي...
أعتلي البرج العتيد.
أرى ...ما لا يرى...قبلي وبعدي...
ولا رأى أحد سوايا .
دعابة التّاريخ أوقات.
فوقت للّذي انتصر
ووقت للّذي خسر
ووقت للّذي فرّ
ووقت للّذي كرّ
ووقت للّتي نسيت على خدّي أناملها ....
لتنسيني...هوامشها...
ووقت للشّعوب لتستمر.
والوقت توق.
والتوق شرق.
والشّرق طوق للهموم وللجياع.
إنّي أحنّ إلى ثمارك...
انت .....يا......... أنثى الغلال …
وياسمين الشّوق
.....مأدبة التوحّد...
واندماج اللّبّ في الأرباع...
...يا ....شبق الغلال.
..... وأنت....
يا شبهي....متى....
متى...تهبّ من لفح؟
ومن قحط ؟
ومن عطش؟
ومن ملح؟
....متى...؟
متى ستبعث من أحفورة الطّين....
.....
.....
......وذاكرة الرّمال.
ثانياً- القراءة:
منذ السّطر الأوّل يعبّر الشّاعر عن استنارة داخليّة تمهّد لكشف حقيقةٍ ما، أدركها في داخله، نتيجة تأمّل وقراءات للأحداث المتتالية والمؤلمة لواقع يعايشه. (أشفّ من ألقي... فينضح قلقي...). يعود إلى الدّاخل لفهم الخارج بشكل أفضل بنظرة تأمّليّة تفصّل هذه الأحداث وتعبّر عن حزن وقلق يجتاحان ضمير الشّاعر الوجداني.
وإذا كان الشّعر عالم الحرّيّة، فلا بدّ من أن يحرّك في قلب الشّاعر التّوق إلى الحرّيّة بمفهومها القيميّ، ولا بدّ من أن تتصارع في داخله معرفيّة المبادئ المتعلّقة بها، وتتجاذب الأحاسيس وتولّد في عمقه مشاعر الألم إذا ما واجه واقعاً انتُزعت منه الحرّيّة عنوةً تحت شعار الحرّيّة ذاتها.
أرنق .....
في زجاج الرّوح...أحترق.
أشعّ على دم المصباح
كالشّفق المعتّق ....في سماء الصّيف ...
كالبلّور ..
أندلق ...
ولا ريب أنّ السّطور المتتالية ستبيّن معالم قصيدة سياسيّة يطلق من خلالها الشّاعر صرخة تعبّر عن حالة فيها الكثير من الأحاسيس المرتبطة بالانهزاميّة. لكنّها تطرح في ذات الوقت أسئلة عدّة تستفزّ القارئ وترجعه إلى داخله كما الشّاعر، ليتشارك وإيّاه هذه التّساؤلات.
بعيداً عن التّصنيفات، حيث يصعب التّصنيف في الشّعر، لأنّ الشّعر هو الشّعر وحسب، ولأنّ الشّعر هو غير السّياسة. وقد يشكّل التّصنيف عائقاً أمام انطلاق روح الشّاعر. كما أنّ الشّاعر ليس بصدد كتابة تحليل سياسيّ، وإنّما يطلق صرخة وجع، ويعبّر عن همّ إنسانيّ إزاء واقع مرير، ليكتشف المتلقّي انغماس الشّاعر في الواقع وابتعاده عنه في آن، ليلقي نظرة شاملة من جهة، إلى تاريخ مضى، ساحب ظلّه إلى الحاضر ليغذّيه، فتلتبس ملامح المستقبل. ومن جهة أخرى، يضع نصب أعين القارئ واقعه المتأزّم ليستشفّ بنفسه حجم المأساة.
وكي لا تستحيل القصيدة مقالاً سياسيّاً، أو خطاباً يُنزل الشّعر من رتبته الأصيلة، فلا يتوجّه مباشرة إلى القارئ، ليعلن عن مواقف سياسيّة، بل يصبّ فكره السّياسيّ في قوالب فنّيّة لا تلغي جماليّات الشّعر، ويخلق معجمه الشّعريّ الخاص ليكشف عن رؤيته. وبالتّالي فالقارئ الذّكيّ يستشفّ مواقف الشّاعر من خلال النّصّ وما اعتمد عليه من معجم شعريّ. فلا ينزلق إلى شرح الشّعر، فينفي عنه جماليّة الرّمز، والغنى المعرفيّ.
ولعلّ الشاعر قد وقع في مثل هذا الفخ، حينما توضّحت معاني المقطع الأولّ والثّاني من القصيدة في المقطع الثّالث من القسم الأوّل:
قوس القصيدة
ينحني
......كالرّيح
..............تعتصر
.....................الشّعاع.
فالمقطع الّذي سبق كشف عن تشرذم الشّاعر الدّاخليّ وأوضح بشكل أو بآخر ما يرنو إلى التّعبير عنه، فرسم صورة تعيد القارئ إلى تاريخه، فربط بين الشّام وغرناطة لما بينهما من تاريخ مجد مشترك، لكنّه يحيل كذلك إلى انهزاميّة العرب المشتركة؛ حيث تسليم غرناطة العربيّة كآخر ما سقط من الممالك، فاستحال المجد خنوعا واستسلاما. وها هو الحاضر يشي بمثل ذلك الماضي الّذي كان.
هذه الثيمة تتكرر كذلك عند الحديث عن مجد تونس التّاريخيّ في قرطاج ومجد لبنان في سهل البقاع، فثمّة حاضر مليء بالقتامة والدم والتّشرذم:
وأمتلئ احمرارا
على قفا تفاحة شاميّة ...
ربعي لأحمرها ...
والرّبع للزّيتون في قرطاجة
والرّبع للرّمّان في غرناطة
والرّبع في سهل البقاع.
ويحاول الشّاعر أن يدخل إلى عمق التّكوين الطّبيعي للمدن العربيّة المعاصرة ومدينة غَرناطة الموصوفة بالبعد (هناك)، لكنّه استحضرها هنا بنغمة حزن طافحة في موسيقى النّصّ، فتآلف الزّيتون في تونس مع الرّمّان في غرناطة مع التّفاح في بيروت، وكلّها تحدّث أخبار تلك المدن المصابة:
....للزّيتون أنباء هنا
و للرّمّان ذاكرة هناك
و للتّفاح شوق إلى خدّيه ..
في بيروت .
ثمّة مفارقات عدّة بُنيت عليها القصيدة، أهمّها إشكاليّة استحضار التّاريخ وقراءته أو تقديسه وكيفيّة الاستفادة منه. في ظلّ واقع عربيّ يتغّذى على الأمجاد أكثر ممّا يتعلّم منها. فتستولي عليه ذكريات مجيدة دون أن يبحث في ثغرات وصلت به إلى حال مأساويّ. فيكرّر التّاريخ بمآسيه ومحنه، ولا يسعى إلى استعادة المجد. فإذا ما استذكر الماضي انغمس فيه وانفصل عن الواقع، وإذا ما نسيه فنى نفسه وأعاد سلسلة الأحداث الانهزاميّة:
لماذا حينما تصحو الشّعوب
تجيء من ماض إلى ماض؟
لماذا حينما تنسى .....
......تموت؟
والشّاعر يدرك تمام الإدراك تلك الخيوط المتشابكة، والتّفاصيل الّتي أدّت إلى ما هو عليه الواقع العربيّ. ولعلّه يرى من الواقع ما لا يُرى، أي أنّه يكشف عمّا خلف الكواليس، ليكون الواقع مغايراً لما هو مسكوت عنه ومحجوب عن الأنظار. وبالتّالي فالواقع شيء وما أتى بهذا الواقع شيء آخر.
..أمشي ...
فتشتبك مع ظلّي خطايا.
أكتب ما تخبّئه المرايا...
عن تفاصيل الفراشات الصّغيرة..
عن حماقات الصّبايا ..
عن تضاريس الهجير
على خدود الأرض ...
......عنّي...
أعتلي البرج العتيد.
أرى ...ما لا يرى...قبلي وبعدي...
ولا رأى أحد سوايا.
وهنا يقتفي الشّاعر آثار غربته عن هذا الواقع وانفصاله عنه (أرى ...ما لا يرى...قبلي وبعدي.../ ولا رأى أحد سوايا) فإذ يرى ما سبق يعبّر عن رؤيته لما سيأتي. غير أنّه وحده يرى عمق التّفاصيل، وتيه المستقبل. ما يكشف لنا عن وعي موجع عند الشّاعر، يعرّف من خلاله أنّ التّاريخ مجرّد حقبات، أفضل ما تعلّمه أنّها لا تعلّم شيئاً:
دعابة التّاريخ أوقات.
فوقت للّذي انتصر
ووقت للّذي خسر
ووقت للّذي فرّ
ووقت للّذي كرّ
ووقت للّتي نسيت على خدّي أناملها ....
لتنسيني...هوامشها...
ووقت للشّعوب لتستمر
ولتبلغ القصيدة هدفها كرسالة توقظ في القارئ ضميره النّائم في أحضان التّيه والاستسلام والتّجاذبات السّياسيّة يتوجّه إليه الشّاعر بطريقة غير مباشرة ليتساءل عن ميعاد انتفاضة الوعي لدى الشّعوب العربيّة، ونهوضها من الحالة التّخديريّة الّتي جعلت منها شاءت أم أبت أداة لرسم شرق أوسط جديد الّذي دلّت عليه القصيدة:
..... وأنت....
يا شبهي....متى....
متى...تهبّ من لفح؟
ومن قحط؟
ومن عطش؟
ومن ملح؟
....متى...؟
متى ستبعث من أحفورة الطّين....
.....
.....
......وذاكرة الرّمال.
لعلّ هذه الخاتمة المفتوحة على قلق التّيه والدّخول إلى مستقبل مجهول جعلها خاتمة محمّلة بالأسئلة، أسئلة تهزّ الوعي المصاب بالتّخدير بأمجاد ماضٍ كان يوما ما مجيداً، ليكون القارئ أمام تحدٍ ذاتيٍّ وجماعيّ ليحدّد "متى سيبعث من أحفورة الطّين" فيشهد حاضرا ومستقبلا زاهرا كما كان الماضي المجيد، لكن دون إعادته أو استحضاره كما هو، وهنا لا بد من استبصار الوعيّ المحرّك للقوّة الدّافعة بعزم وثبات للتّخلص من وجع السّيطرة الماضويّة وتكثيف حاضر مؤلم والخروج من تيه المستقبل الذي لا يرحم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق