يلعب المثقف العربي دورا حيويا في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي، من خلال ما يقوم به من توعية للمواطنين بتناقضات الواقع ومشكلاته، وإحياء هممهم وتقوية عزمهم على التغيير، وتفجير طاقاتهم الدفينة باتجاه الخلق والإبداع، والعمل باستمرار على إعادة تأصيل الثقافة الاجتماعية في موروثها العريق، وحسن قراءة المدنية الحديثة قراءة نقدية واعية تساعد على تغذية الهوية الحضارية لدى المواطنين وتعزيز تفاعلها الإيجابي مع الثقافات الوافدة.
ونظرا لهذه الأهمية البالغة التي يكتسيها دوره في حركة الإصلاح والبناء والتطوير، فإنّ المثقف غالبا ما كان محور اهتمام القادة السياسيين واستهدافهم، سواء بالتوظيف أو بالإغراء أو بالاحتواء أو بالإقصاء أو بالتهميش، مما انعكس عليه سلبا وعقد الكثير من مهماته.
المثقف العربي ورجل السياسة
بما أن المثقف يهتم بجميع القضايا في الدين واللغة والسياسة والعادات والتقاليد والأفكار والمفاهيم، ويُسهم في تشكيل سلوك الناس ومواقفهم وآرائهم، فلم تكن مهمته يسيرة في أداء رسالته الاجتماعية والحضارية، ذلك أنه قد اصطدم برجل السياسة الذي لم يكن ينظر إليه بصفته شريكا في تحقيق النهوض الاجتماعي والتطور الحضاري، بل بصفته منافسا حقيقيا على المجتمع يتمتع بقدرة فائقة على التأثير والتوجيه والتأطير قد تدفع إلى قلب الأوضاع السياسية، وبالتالي إلى إزاحة السياسي عن عرش السلطة.
هذا الاصطدام مثّل سببا بارزا في تشتيت جهود المثقفين، وتضاؤل قدرتهم على الفعل المؤثر والتوجيه المستحكم بسبب انشطارهم إلى فرق كانت محكومة غالبا بالخلاف والتجاذب، ويمكن لي اختزال هذه الفرق على النحو التالي في:
- مُوالين مدجنين يقومون بالدعاية للأسس التي يقوم عليها النظام السياسي ويبرّرون اختياراته وأخطائه
- مُنكفئين مُنطوين على أنفسهم، حذرين من غطرسة السياسيين، مكتفين بالقيام ببعض الدراسات والبحوث الحيادية
- مهاجرين فارين من القهر السياسي، باحثين عن مناخ آمن يتمتعون فيه بحرية الفعل الثقافي والحماية السياسية
- معارضين متشبثين بمهمة التغيير، متحملين لكلفة ذلك من التهديد والملاحقة والاضطهاد
بهذا التقسيم والتشتيت نجح رجل السياسة على امتداد الوطن العربي في احتواء المثقفين أو إقصائهم وتهميشهم، وبالتالي نجح في تحجيم دورهم والحد من تأثيرهم، الأمر الذي عطّل حركة التغيير، وقلص من فرص التحضر والازدهار.
المثقف العربي: مأزق.. فانزواء
رغم الاتفاق الغالب حول أهمية دور المثقف في إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي، وفي البناء الحضاري، فإن عديد الأصوات قد بدأت تتعالى خلال العقدين الأخيرين معبّرة عن أفول المثقف وانتهاء دوره، وبالتالي عدم حاجة المجتمع العربي إليه.
هذه المواقف لم تظهر من فراغ، ولم تكن مجرد تحامل، بل جاءت كإفراز طبيعي لما آل إليه وضعه من عجز عن تحمل مسؤولياته تجاه المجتمع، ومن عدم وفائه بتعهّداته التي أناطها بعهدته في إحداث التغيير المحمود والتطوير المنشود.
لقد بات واضحا بالفعل أنّ المثقف العربي قد وقع في مأزق حضاري خطير حال دون نجاحه في مهمته الرسالية، ويمكن رصد هذا المأزق في العناصر التالية:
- اغتراب المثقفين عن تراثهم العربي الإسلامي بقطيعتهم معه، وانخراطهم منذ أواسط القرن العشرين في المعارك الأيديولوجية الماركسية أو القومية أو الاشتراكية، والاشتغال على بناء نظريات ثورية تتجه نحو تحريض المواطن على نسف البنى التقليدية، وزعزعة النظم الرجعية وفرض تغيير جذري يؤسس لقيام نظام سياسي جديد قومي أو أممي...، ورهنوا بالتالي نجاحهم وفشلهم بمدى تحقق هذه النظريات الأيديولوجية على أرض الواقع.
ولذلك كانت صدمة المثقف قوية وارتجاجه عنيفا، يوم وقف شاهدا على تهاوي الأيديولوجيات، بداية مع سقوط جدار برلين، ومرورا بتفكك الاتحاد السوفيتي سابقا، وانتشار النزعات الانفصالية في أوروبا الشرقية.
- استسلام المثقف لثنائيات جاهزة ظل يتخبط فيها العقل العربي لعقود عديدة، لعل من أبرزها ثنائيات الأصالة والمعاصرة والدين والدولة والأنا والآخر والجديد والقديم...، وانخراطه في تقليب النظر فيها من منطلقات عقائدية وزوايا خارجية أدّت في الغالب إلى تجاذبات بين المثقفين كانت تغذيها الحسابات الأيديولوجية المختلفة.
ورغم جهوده المبذولة وتوسله بشتى المناهج التحليلية والبنائية الغربية، لم يتوصل المثقف العربي إلى معالجة مشكلاته الفكرية وحسم إشكالاته الحضارية، وواجه في الآن نفسه أزمة غير مسبوقة كانت ذريعة كافية للتشكيك في كفاءته وفي الدور الذي يلعبه.
- انقسام ذات المثقف وتمزقه بين انتمائه الوطني حيث يواجه مجتمعه عديد المشكلات بما في ذلك غياب الحرية والعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبين انتمائه للغرب الذي يمثل مرجعية فكرية له، وسندا سياسيا قويا قادرا على حمايته من عسف نظامه السياسي.
وهذا الانقسام كبّل طاقاته، وعطل إرادته في الفعل الثقافي الحر والمستقل، وقلص من فرص نجاحه في لعب دور طلائعي لمجتمعه وفي إحداث التغيير المطلوب.
المثقف العربي: من الثورة إلى الإصلاح
ليس خافيا اليوم ما يمر به المثقف العربي من انطواء وانزواء بفعل المأزق الذي انساق إليه، وبالتالي تراجع دوره الريادي، وضمور تأثيره في المجتمع العربي الذي يعاني من التخلف والفقر والقهر.
وهي وضعية باعثة على القلق في ظل الانجذاب المتزايد إلى النزعات الانغلاقية، التي تستعمل التكفير والتخوين والعنف في التعاطي مع المخالفين.
ولتدارك أمره المحيّر والخروج من مأزقه الراهن، لا بد للمثقف العربي من مراجعة مشواره الطويل والوقوف على دوافع انتكاسته، من أجل رسم مسار جديد يأخذ بأسباب النهوض والتحضر، والتي تبدو ملامحه في نظرنا على النحو التالي:
- المصالحة مع التراث بالارتكاز عليه في كل مقاربة ثقافية هادفة إلى إحداث التغيير الاجتماعي والبناء الحضاري، والعمل على تحرير الفعل الثقافي من قيود الاستعمالات الأيديولوجية المختلفة، وإخراجه من نطاق الصراع والاتباع إلى نطاق المشاركة والإبداع، ومن نطاق التبعية والتقليد إلى نطاق الخلق والتجديد، بما يساعد على استشراف المستقبل وتعبيد الطريق إليه.
- التحرر من الثنائيات العديدة التي ظلت تخيم على العقل العربي وتؤطره على مر قرن من الزمن أو يزيد، وذلك بإعادة صياغة الأسئلة الحضارية وتجديد الإشكاليات الثقافية التي استنزفت المثقف العربي، دون أن يظفر بنتائج في مهمة التغيير السياسي والاجتماعي والحضاري.
- التخلي عن النظريات الثورية الساعية إلى نسف الموجود وتأسيس المنشود، باعتماد أساليب راديكالية ثورية من شأنها أن تجنّد ضدها رجل السياسة محليا وحلفاءه خارجيا، والعمل على الانخراط في مشروع إصلاحي طويل المدى، يتدرج من الجزئي إلى الكلي ومن المرحلي إلى الاستراتيجي.
وهذا بدون شك يستدعي اتباع أسلوب مرن ونظر بعيد وذكاء متقد في التعامل مع الماسكين بالحكم، وحسن الاستفادة منهم في تحقيق مشاريع الإصلاح الاجتماعي والبناء الحضاري، دون السقوط في التبعية والمهادنة أو الصراع والمواجهة. وحسبنا الشيخ محمد عبده خير قدوة لهذا الاتجاه، ذلك أنه أدرك منذ بداية عصر النهضة ضرورة التحالف السياسي من أجل تنفيذ مشاريع فكرية إصلاحية. وما كان له حقيقة أن يحول أفكاره إلى واقع ملموس، لولا قدرته على التأثير في رجل السياسة، وجرّه إلى التفاعل الإيجابي معه على قاعدة التقاء المصالح واستبعاد الصراع.
خاتمة
إن حالة الانتكاس التي يمر بها المثقف العربي في المرحلة الراهنة، تدعو إلى إعادة النظر في مشواره الطويل، إذا كان معنيا باسترداد موقعه الطلائعي ومهمته الحيوية في تحقيق الإصلاح الاجتماعي والبناء الحضاري.
فانسلاخه عن تراثه وانخراطه في ثنائيات جاهزة، وخوضه للمعارك الأيديولوجية واصطدامه برجل السياسة، كل ذلك أوصله إلى وضع مأزقي أفقده الفعل والتأثير، فانحصرت مهمته في تلقّف الوقائع والأحداث، والاكتفاء بتحليلها انطلاقا من أدوات معرفية أيديولوجية دون أن يتمكن من لعب دور في صنعها.
لذلك لا بد - لعودته إلى وظيفته الطلائعية في التوعية والتوجيه والتأطير- من مصالحة حقيقية مع التراث، وإعادة صياغة أسئلته وإشكالياته، واستكمال مهمة الإصلاح التي شرع فيها جيل المصلحين الذين سبقوه بالفعالية والجدوى، مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي وغيرهم، دون أن السقوط من جديد في حبال الأيديولوجيا أو الانخراط في إشكالياته القديمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق