" ظهرت العديد من الأفكار الى الوجود على شكل أخطاء وأوهام ولكنها صارت حقائق لأن الناس جعلوا موضوعها حقيقيا بعد فوات الأوان" – فردريك نيتشه- انسان مفرط في انسانيته،II، شذرة 190،
لقد أيد ديكارت في السياق اللاتيني تأويل ميتافيزيقا أرسطو حينما ضرب مثال عن الفلسفة الأولى في رسالة التصدير للطبعة الفرنسية لكتابه مبادئ الفلسفة باستعارة الشجرة وقارن بها مجموع العلوم حيث "الجذور هي الميتافيزيقا والجذع هو الفيزياء والأغصان التي تتفرع من الجذع هي كل العلوم الأخرى".
على هذا النحو إن الميتافيزيقا هي معرفة الله والنفس بواسطة العقل الطبيعي. وبرهنته على ذلك أن الفكر يطمح لبلوغ المطلق سواء بالمعنى الوجودي أو الأخلاقي بواسطة الحدس العقلي والاستدلال الرياضي. وبالتالي الميتافيزيقا هي جذر شجرة العلوم ولا تبحث في الله ووجوده وصفاته وفي النفس وخلودها فحسب وإنما تبحث أيضا في المبادئ التي تقوم عليها العلوم وفي أسس المعرفة بوجه عام. ومن هذه الناحية يهتم بالفلسفة بصفة عامة وبالميتافيزيقا بصفة خاصة ومعناها الحكمة ويقصد بها الفطنة التي يجب أن يتم السلوك في الحياة وفقا لها بل المعرفة الكاملة، وبالتالي فإن الفلسفة الأولى معرفة العلل الأولى والمبادئ القصوى[1]. إن مضمون الميتافيزيقا هو تفسير الصفات الرئيسية المنسوبة إلى الله وتفسير كون أرواحنا لا مادية وإيضاح كل المعاني الواضحة القائمة فينا. أما منهجها فيقوم على استنباط النتائج من المبادئ. هكذا تبحث الميتافيزيقا عند ديكارت في أسس المعرفة وتشير إلى معرفة الأمور المعقولة.
غير أن لايبنتز في "خطاب حول الميتافيزيقا" يرى أن ديكارت أحدث انشقاقا في وحدة الميتافيزيقا باختلافها عن أرسطو في تفسير طبيعة المبادئ التي تهتم بها. إذا كان أرسطو قد أطلق اسم المبادئ على البديهيات والقضايا الأولية الأكثر عمومية في استعمال البرهان فإن ديكارت يفيد بكلمة مبادئ على جملة من الحقائق الفلسفية التي اكتشفها على غرار الكوجيتو ورأى أن أنا موجود هي في الحقيقة مبدأ أي ينبغي أن يبدأ التفكير منها، وبالتالي يجب التفريق بين مبادئ المعرفة مثل مبدأ عدم التناقض عن مبادئ الوجود.
" ان القول أنا هو نتيجة شعور مباشر بينما مبدأ عدم التناقض لا يمكن أن يدرك الا نتيجة سير تحليلي ارتدادي يرجع البرهان إلى الافتراضات الأولى التي بدأ منها"[2]. لقد سعى لايبنتز الى أغناء ميتافيزيقا أرسطو وذلك بإضافة مبادئ عقلية جديدة إلى جانب مبادئ الذاتية أو عدم التناقض ينحت لايبنتز مبد العلة الكافية الذي يقر بأن لا شيء يحدث دون سبب. كما يضيف مبدأ الاتصال في أحداث العالم ، والذي يقرر بأن الطبيعة لا تقوم بالفطرة بل كل ما فيها متصل مع بعضه البعض دون أي انقطاع. كما أضاف مبدأ الأحسن وقرر فيه بأن الطبيعة تسلك أبسط السبل في انجاز أفعالها والبشر يوجدون في أحسن العوالم الممكنة. لكن كيف واصل عمونيال كانط هذه المراجعة النقدية للميتافيزيقا التي بدأها لايبنتز؟ ولماذا جعل من ميتافيزيقا الحرية إمكانية ميتافيزيقية مقبلة في صورة علمية تفتك لنفسها مكانا بين الضرورات؟
" كان فلاسفة القدم ينظرون إلى كل صور الطبيعة بوصفها حادثة والى المادة حسب حكم العقل العامي بوصفها أصلية وضرورية ولكن لو أنهم بدل ان ينظروا إلى المادة نسبة إلى كونها أسا للظاهرات نظروا إليها في ذاتها في وجودها لكانت فكرة الضرورة المطلقة تبددت على الفور". بهذا المعنى كان كانط يرى أن أشياء الميتافيزيقا هي غير يقينية وغامضة ومثيرة للحيرة ويسهل الشك فيها وتوقع المرء في المتاهات والمضيقات التي لا مخرج له منها وتنتشر حيث الظلامية والتعصب وتسبب التناقض والجهل.
بيد أن العقل البشري له من حيث الطبيعة هذا الميل نحو طرح عدة أسئلة التي لا يقدر على الإجابة عليها وذلك لكونها تتجاوز قدرته على المعرفة وبالتالي يسقط العقل عندما يحاول التفكير فيها التناقض والوهم.
" حقل معركة من هذه النزاعات التي لا تملك هدف معين. هذه هي ما سوف يكون الآن الميتافيزيقا"[3]
لقد سميت الميتافيزيقا ملكة العلوم لأنها تهتم بالأشياء اللامادية مثل الله والروح وتتميز عن الدين وعن التويولوجيا بماهي تعبيرته العقلية ولكنها تتجاوز إلى ماوراء التجربة بواسطة مفاهيم مجردة ومقولات فارغة وبسبب ذلك لم تقدر على بلوغ الطريق الواثق للعلومية وأعلن كانط عن نهاية مباحثها العقيمة.
بيد أن كانط أبقي إمكانية قيام ميتافيزيقا مقبلة بعد الانتهاء من النزاعات التي غذت المعارك في حقلها.
تصبح الميتافيزيقا داخل الفلسفة النقدية تقييم المعارف التي تعود إلى العقل وحده بمعزل عن التجربة وترتبط بشروط ممارسته. هكذا لا يقدر العقل على معرفة الأشياء في ذاتها ( جواهر الأشياء) ولكن هذه الأخيرة تمثل نبض الإيمان العقلاني الذي يثبت المسلمات العقل العملي (الله والنفس والحرية). تتمثل وجهة نظر كانط في التمسك بإمكانية الميتافيزيقا حتى إن لم تكن في صورة علم بالمعنى الدقيق للكلمة.
لكن هل يمكن للتفكير الماورائي أن ينزل من سماء التجريد المثالي ويكون مقدمة لميتافيزيقا تجريبية؟
لقد بين برجسن في كتابه الفكر والمتحرك أن الميتافيزيقا هي العلم الذي يطمح إلى تخطي الرموز ويسعى إلى امتلاك الحقيقة بشكل مطلق بدل معرفتها بصورة نسبية والانتقال إليها بدل معالجتها عن بعد من نقاط مرجعية مختلفة هي اللغة والذكاء الصناعي ويقوم الحدس بهذه المهمة بماهو معرفة مباشرة.
بهذا المعنى لا يوجد شيء مشترك بين الميتافيزيقا وتعميم التجربة بل تعرف التجربة التامة والحاسمة وتكون الروح هي الموضوع المحدد للميتافيزيقا والحدس هو المنهج الخاص بها. بيد أن الميتافيزيقا ليست أعلى علم وضعي ولا تأتي بعد العلم، بل تعتبر نفس الموضوع من أجل تحصل على معرفة أكثر علو. إذا كان العلم يهتم بالمادة فإن الميتافيزيقا يدرس الروح، ولما كانت المادة والروح يتماسان فإن الميتافيزيقا والعلم يحوزان على قدرة من تلاقحهما على طول المساحة المشتركة بينهما.
من هذا المنطلق تشير الميتافيزيقا إلى المعرفة التي تتجاوز من جهة مواضيعها المحدودة الهوة التي تفصل بين العلم البشري والحقيقة وتتمكن من بلوغ المطلق. من المعلوم أن الهوة التي تفصل المعرفة عن الحقيقة لا يمكن اجتيازها وذلك بفعل ثلاثة أسباب: كل تجربة تفترض موضوعا حقيقيا ، وكل تحريف لهذا الموضوع بواسطة معرفتنا يكون جائزا ويخضع لمعايير محددة وبالتالي نملك أداة لتجاوز هذا التحريف المختزل في لاتواصل المكان والارتباط بتلبية الحاجات التي تفترضها الحياة الانسانية.
إن الحدس هو قبل كل شيء الجهد الروحي المبذول في اتجاه الحقيقة الكلية والمعطى من هذا الواقع الذي تفترضه كل معرفة بالمطلق ويتطلبها تجاوز الحياة اليومية ببلورة الوحدة المفقودة بادراك الديمومة.
غير أن نظرية برجسن في الميتافيزيقا تطرح مشكلين هما: امتداد الميتافيزيقا من جهة موضوعها ومنهجها من ناحية ، وكذلك علاقتها بالعلوم من جهة نظرية المعرفة ونظرية الوجود من ناحية ثانية.
لقد كشف برجسن في مقدمة إلى الميتافيزيقا التي كتبها عام 1903 أن الميتافيزيقا تمتلك المشروعية بالمقارنة مع كل الواقع حتى ولون كان بطريقة خاصة وعلى كل المواضيع المحددة والوقائع الجزئية، وأن العلم مطالب بأن يتخطى منهجه الخاص وأن يستهدف الديمومة بواسطة جهود حدسية.
اذا كان الذكاء قادر على بلوغ الحقيقة المطلقة للمادة ضمن إطار المكان فإن الميتافيزيقا تضاعف هذا المحصول بأن تبلغ الحقيقة المطلقة للروح ضمن إطار الديمومة وتلتقي مع العلم في نفس التجربة. ويبدو من المفارقة التمييز بين الميتافيزيقا والعلم لأن العلم يحوز على بعد ميتافيزيقي عندما يطمح إلى بلوغ الواقع وأن الميتافيزيقا تتضمن بعدا علميا عندما تبتعد عن التعميم وتريد امتلاك موضوع محدد (الروح).
هكذا لا توجد ميتافيزيقا عامة وإنما تحمل على وقائع جزئية ومواضيع محددة تبعا لذلك تصور برجسن الميتافيزيقا على أنها علم وضعي وبالتالي هي اختصاص تقدمي يقبل الاكتمال والتكامل بصورة تدريجية.
لقد جسد برجسن ، وفق عبارة مرلوبونتي، بشكل تام المقاربة الميتافيزيقية للعالم والميتافيزيقي في الانسان وذلك حينما حاول ردم الهوة بشكل محايث في حضن الواقع بين بعدين من المعرفة أو العلاقة مع الواقع.
ثمة دائما في كل علاقة مع كل حقيقة وفي علاقة الذات بذاتها جانب ميتافيزيقي يستحق العناية واللحاق به.
-لكن كيف جعل مارتن هيدجر من ميتافيزيقا التقنية مطية من أجل استئناف السؤال عن الكينونة؟
تبحث الميتافيزيقا من وجهة نظر النزعة الوجودية في المعنى الشامل والعام للوجود البشري ولكن دون أن تقوم ببلورة نسق مغلق وفكرة كلية وتظل في علاقة مع الحرية وتجد اكتمالها على صعيد الفعل والأخلاق.
لقد أعلن ماراتن هيدجر نهاية الميتافيزيقا الغربية والاقرار في نفس الوقت باخفاقها وذلك بالانطلاق من الإرادة النتشوية التائقة نحو قلب الأفلاطونية. لقد ضاعت بالانشغال بالموجودات ونسيت الوجود ولذلك حرص هيدجر على الاستئناف عن طريق بناء الأنطولوجيا الأساسية ودفع الفكر نحو إعادة طرح السؤال الأساسي ماهو الوجود؟ ولقد دشن بذلك عصر العدمية بالنسبة للفلسفة الغربية. غير أن هذه النظرية الماورائية تعرضت الى موجة تشكيك وعملية هدم من طرف فلاسفة الرجة وخاصة نيتشه وفرويد ولقد تعامل الفكر الماركسي مع الميتافيزيقا تعاملا سلبيا واعتبرها بنية فوقية زائفة وفي تعارض مع الجدلية العلمية وسبب اغتراب الوعي وتشير إلى الوجود الثابت وغير الزمني وتؤدي إلى الإيديولوجيا الزائفة.
فماهو مصير المطلق في ظل سيطرة النسبي؟ وبماذا يلبي المرء رغبته في المعرفة بعد اكتفائه بالعالم؟
المصادر والمراجع:
Bergson Henry, introduction à la métaphysique 1903
Bergson Henry, Pensée et mouvant , 1907
Daval (Roger), la métaphysique de Kant, édition PUF, Paris,1951.
Descartes (René), Méditations métaphysiques (1641), II, 10-18, 1963,
Kant Emmanuel, critique de la raison pure, préface de 2 éditions,
Jolivet (Régis), l’homme métaphysique, collection je sais-je crois, troisième partie qu’est-ce que l’homme ?, Librairie Arthème Fayard, Paris, 1958.
Leibniz, discours de métaphysique, 1686,
Lefranc (Jean), la métaphysique, édition Armand Colin, Paris, 1998.
Zarka (Yves Charles) et Pinchard (Bruno), Y a-t-il une histoire de la métaphysique ?, édition PUF, Paris, 2005.
[1] ديكارت ( رونيه)، مبادئ الفلسفة، المقدمة.
[2] Leibniz, discours de métaphysique, 1686, édition
[3] Kant Emmanuel, critique de la raison pure, préface de 2 édition,
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق