المكشوف بين العرب في إسرائيل/ جواد بولس

في ظل الإجماع العريض القائم بين معظم الأحزاب والحركات والمؤسسات السياسية والمدنية الفاعلة بين الجماهير العربية في إسرائيل، ومن خلال اتفاق معظم قيادييها على تشخيص طبيعة نظام الحكم المتشكل في الدولة وما يبيته قادتها المتنفذون لمستقبل هذه الجماهير، سأعالج هنا، كما وعدت في مقالتي السابقة، سؤالًا  تمهيديًا آملًا أن يساهم في تغيير أنماط ألنقاش السائدة وجذبها إلى نواحٍ غير مألوفة وإن بدت للبعض "مشاغبة" أو ربما جريئة.
الشائع في قواميس السياسة وأروقة السياسيين العرب، أن يبدأ المتكلم منهم بالتأكيد على عنصرية الحكومة الإسرائيلية وعلى استعداء رئيسها والمتنفذين حوله للجماهير العربية التي يعتبرونها، جهارةً، عدوًا إسترتيجيًا مباشرًا يهدد أمن الدولة وسلامة مواطنيها اليهود. ويلي ذلك خطابُ التصدي والقسم، فالقادة تنذر إسرائيل وحكامها بالويل والثبور وبعظائم الأمور لأنهم مقتنعون بأن الجماهير "ستفهم الصخر إن لم يفهم البشر" ؛ وبما أننا تعودنا على تلك الممارسات المعادية وألفنا الردود عليها وصلنا في الحقيقة إلى حافة متاهات الدهشة وأمسينا نعيش حياة يحيطها العبث ويسكن في جنباتها القلق؛ فهل في هذا الواقع يملك المجتمع العربي، بمنظوماته السياسية المتحكمة في خواصره وقواعده الاجتماعية والدينية المتجذرة في تراثه وكيانه، قدرات موضوعية تؤهله وتمكنه من وضع حلول ناجعة وحقيقية لحالة الصدام القائم والمستمر مع أجهزة الدولة ؟ وهل تستطيع هذه الأجسام بهياكلها القائمة وبخطابات قاداتها المكرورة أن تبقي على إنجازات الماضي وتطور مكانة الجماهير إلى ما هو أحسن؟ 
من البديهي أن يكون الرد على هذه الأسئلة بالإيجاب وذلك ليس من باب التفاؤل الضروري كشرط أساسي من مقومات الصمود والبقاء وحسب، بل كدافع للاجتهاد على التغيير، ولقطع الطريق على قادة إسرائيل ومنعهم من تحقيق ما يخططون له..
من الممكن وبنظرة سريعة كاشفة تشخيص أربعة تيارات سياسية وفكرية متواجدة باشكال ووتائر متعددة بين المواطنين العرب، وربما  أوضحها، برأيي، هو التيار الإسلامي أو "الحالة الإسلامية"، على تباينات فروعها التكتيكية،  فيليه تيار تمثله الجبهة الديمقراطية، بما زالت تحافظ عليه   من  ميزاتها التاريخية، ثم التيار القومي الذي في فيئه ترتاح عدة  أطياف متفاوتة في قواها، ورابعهم  تيار"غير المنتمين" لجميع من سبق ذكرهم، وقد يكون هذا هو الأكثر تنوعًا من حيث عدد الفئات وحجمها الحقيقي.. 
أما إذا نظرنا إلى كيفية تعاطي قادة هذه التيارات مع مجمل القضايا الأساسية السياسية والاجتماعية  سنلحظ أنهم يمارسون نضالاتهم  المشتركة،  على الأغلب،  في تضاريس سياسية "مشوهة "  وبدوافع مموهة ، ففي كثير من الحالات يكون ما نسمعه أو ما نشاهده غير حقيقي وأقرب لكونه حالة مخادعة سأطلق عليها ظاهرة  "كأنّه" وهي أكثر الظواهر انتشارًا في جميع أماكن تواجدنا.. 
فإذا دققنا، على سبيل المثال، في تجربة القائمة المشتركة كمثال لإنجاز يعدّه البعض من أنفس ما أبدعته الجماهير العربية في إسرائيل، سنكتشف أعراض ظاهرة " كأنّه" وسنشعر بما سببه التكتيم عليها من فشل ومراوحة مضنية في وحل الشعار وعرقلة لتطوير أنماط من العمل السياسي المجدي، ذلك على الرغم من اتفاقنا على أن إقامة المشتركة كان حدثًا مميزًا وأن صمودها يعتبر نجاحًا، ولكن سيصبح إدمانها على أدائها السياسي بالمستويات والآليات القائمة غير كاف ومسألة فيها نظر. .  
 من الطبيعي أن تحمل هذه التيارات مواقف فكرية مختلفة وحتى متناقضة نظريًا ولكن من غير الطبيعي أن تمارس اختلافاتها بشكل عملي وعادي وشبه يومي، لا سيما إذا عددنا تلك القضايا الخلافية فسنجدها تغطي مساحة الحياة برمتها مثل : الموقف من تحديد المخاطر والاتفاق على أولوياتها، الموقف من دولة إسرائيل وعلى كيفية التعامل مع مؤسسات الحكم فيها، ماهية الخطاب الفاعل الشامل الذي يجب تبنيه وإلى من يجب توجيهه وكيفية العمل على تحقيقه، الموقف من حل القضية الفلسطينية، الموقف من القيادة الفلسطينية، الموقف من الأنظمة العربية، الموقف من طبيعة النظام الاقتصادي المرغوب، تعريف الحقوق الفردية الأساسية، الموقف من المرأة وحقوقها، الموقف من تعريف الحلفاء والأعداء على الساحة الدولية، الموقف من أهمية ومكانة التراث والابداع والفنون، الموقف من تعريف العنف المستشري في المدن والقرى العربية  والاتفاق على مسبباته وعلى الحلول لمواجهته، وغيرها من قضايا جوهرية بدون تناولها بحزم ووضوح لن ينجح أحد بمعالجتها وبمواجهتها. .
لن اتناول هنا تأثير جميع هذه التناقضات وسأكتفي بالإشارة إلى عيّنتين بارزتين تعاني القائمة المشتركة من الأولى بينما تصيب الثانية لجنة المتابعة العليا.. 
فمعظم الأحزاب والحركات الشريكة في القائمة أعلنت في برامجها ولوائح مبادئها عن ضرورة التعاون مع كافة القوى اليهودية في الدولة، أو كما جاء، على سبيل المثال،  في مبادئ حزب التجمع الديمقراطي الوطني" مع كافة القوى اليهودية التي تشاركنا التطلع إلى مستقبل مبني على المساواة التامة والاحترام المتبادل في دولة ديمقراطية مشتركة ومع قوى يهودية بخصوص قضايا عينية. " 
على الرغم من وضوح الكلام، خاصة في نهايته، سنكتشف أن النص وضع بتقنية  "الكأنه" الضبابية وكي يتيح، ربما، فُسح التصرف الحر لمؤسسات الحزب حسب الظروف والمعطيات، كما حصل عندما هاجم قادة التجمع بحدة مواقف النائب أيمن عودة وفكرته المعلنة لإقامة جبهة عربية يهودية واسعة تقف ضد الاحتلال وفي وجه خطر الفاشية وتدعم حقوق المواطنين العرب في المساواة التامة القومية والمدنية.. 
لم يقتصر المشهد على موقف حزب التجمع المعارض لفكرة النائب عودة ومشاركاته في أعمال احتجاجية عربية يهودية، كان آخرها بعد مشاركته في مظاهرة ضخمة في تل أبيب  بمناسبة الذكرى الخمسين لحرب حزيران وضد الاحتلال، فالقادة الجبهويون التزموا الصمت من الهجوم على رفيقهم وبعضهم انضم إلى معسكر المهاجمين في موقف معاكس لمبادئ حزبهم القاطعة، والتي  كُرّرت قبل أيام فقط وأكدت مجددًا على ضرورة " إقامة أوسع تحالف يهودي -عربي في مواجهة الاحتلال وخطر الفاشية." 
فهل تغيّرت الأحوال في زمن السراب هذا، وهل التحقت الجبهة أيضًا بموضة "كأنه" الساحرة والخطرة.
 وعساني أذكر هنا من اختاروا مزاولة العمل السياسي من داخل الكنيست الإسرائيلية  بأنهم اختاروا الوقوف على منصات مغايرة عن تلك التي اختارها من   رفضوا هذا الخيار متحسسين من الاعتراف بأحد رموز "الكيان الصهيوني"  وشرعيته السيادية الإسرائيلية.
فمن جنح للعمل تحت سقف القانون الإسرائيلي ومن قلب السلطة التشريعية تبنى  في الواقع  فرضية تقضي بتفضيله العمل السياسي من داخل "البيت" والمشاركة والتأثير على عملية التشريع وسيرورة الحكم، وذلك بغية تغيير النظام السياسي في الدولة، وصار واجبهم  يستدعي سعيهم الدؤوب وراء إيجاد الحلفاء وتجنيدهم سواء من أجل موقف سياسي عام أو من أجل "قضايا عينية" كما جاء في برنامج حزب التجمع المذكور
وبعيدًا عن جبهة الأحزاب وإشكالاتها، فما زلنا نأمل وننتظر نهوض لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية في إسرائيل واحداثها للتغيير المنشود في بناها وفكرها وآليات عملها، اذ تكفي مراجعة عرضية لتصريحات من يقف على رأس لجنة "الحريات" المتفرعة عن لجنة المتابعة، وهو ليس الوحيد، لنعرف كم جارحة هذه التناقضات وعميقة،  فرئيس المتابعة وقائدها السيد محمد بركة، يكنّ الاحترام للرئيس محمود عباس  وللقيادة الفلسطينية، بينما يجزم زميله في قيادة المتابعة على أن " المرأة الزانية تتمنى لو كل النساء الشريفات مثلها حتى لا يعيرها أحد بزناها.." هكذا في صفحته الواسعة الانتشار ويضيف أن " أبو مازن يحاصر غزة ويطلب من الاحتلال أن يزيد حصاره لها لأنه وقع في دنس التسويات.. ولم تفعل ذلك غزة فأنه يريدها أن تكون مثله حتى لا يعيره أحد بأعماله المعيبة.. هكذا تتمنى المرأة العاهرة أن يكون حال كل امرأة شريفة.."
لا أتصور  أن مؤسسة رائدة خاصة إذا كانت في أهمية ومكانة لجنة المتابعة،  ستنجح بأداء مسؤولياتها بنجاعة في وقت يجل رئيسها شخصيًا ويحترم سياسيًا الرئيس محمود عباس والقيادة الفلسطينية بينما يقف جانبه في صدارة  هذه المؤسسة من يصف   هذه القيادة بغير "الشريفة" ويُقرع رئيسها بما وصف!!
نحن أمام مشهد أقل ما يستجلبه هو الالتباس،  لكنه في الواقع  أكثر تعقيدًا وادهاشًا ، واذا اضفنا عليه وضع بعض المؤسسات الأهلية والجمعيات التي سأفرد لها مقالًا مستقلًا، وواقع اللجنة القطرية لرؤساء المجالس والبلديات على ما فيها من خلل وضعف سيصبح الجواب على تساؤلنا أعلاه واضحًا، فهذه المؤسسات، ببناها القائمة وبمضامينها الحاليه، عاجزة عن وضع الحلول في وجه سياسة القمع الرسمية . 
مع هذا ما زلنا نثق بمن وعدوا فبينهم من ولدتهم التجارب وتربوا على زنود طيّبة. وكم لا أريد لهذا التفاؤل أن يخيب..          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق