كم هو محزن هذا الكائن اللّغويّ المسمّى "الشّعر"، يتزاحم على أبوابه كلّ متطفّل "غريب الوجه واليد واللّسان"، حتّى غدا عدد الشّعراء أكثر من عدد الصّراصير. أتأمّل حالنا نحن الذين كنّا نشارك في الأمسيات الشّعريّة، كثيرين كنّا، لكنّنا لم نكن شعراء، كلّ واحد منّا كان يحرص على أن يصطحب معه صديقه، ويتوسل إلى آخرين كي يحضروه، وإذا لم يأت هؤلاء الآخرون، يبدأ مسلسل العتاب و"الحرد الثّقافي" الأزعر. وعندما كانوا يحضرون، إن أسعفنا الحظّ وكان عدد الجمهور مساويا لعدد الشّعراء المشاركين أو أقل قليلا، كانوا يتلهّون بمكالماتهم وجوّالاتهم، وإن سكتت التّكنولوجيا، تراهم يغيبون في أحاديث جانبيّة، بالتّأكيد كانت ساخرة من مجموعة الصّراصير الصّائية في خراب العالم المنهار.
الآن أدركت احترام الشّعراء لشعرهم، وكينوناتهم الإنسانيّة أوّلا، وأتفهّم جيّدا رفضهم مشاركة الصّراصير حفلات الاحتباس اللّغوي، كانوا يحصّنون أنفسهم ضدّ السّخرية والتّردي والانصياع لظاهرة "الصّرصرة" المتزاحمة على معمعان الأصوات المبهمة في مهرجانات اللا كلام.
لم تكن ظاهرة الشّعراء الصّراصير لتظهر لولا هؤلاء المدّعين شعرا، لقد أفسدوا بظاهرتهم متعة أن تكون "شاعرا محترما"، أنظر إلى احتجاب الشّعراء الكبار في صوامع جماليّاتهم الزّاهية الّتي تزداد نصاعة يوما بعد يوم، كلّما تعمّقوا في ذواتهم، واستمعوا إلى دقّات قلوبهم الصّافية، وهي تتلقّى الوحي شعرا إلهيّا يتسرّب إلى كل خليّة في أفكارهم، فتتولد القصائد كائنات نورانيّة لا تشبه إلا نفسها. فيزهر الكون جمالا رائقا، ويتحول الكون إلى جمهور صامت يستمع برهافة إلى ذلك النّور الرّاشح في كلّ صورة أو معنى، فيغيب عن الوعي البشريّ "الصّرصوريّ" ليرتوي من عذب الرّوح الرّبانيّة المتجلّية في كلّ جملة.
كلّ شيء فاسد هذه الأيّـام، لأنّ الشّعر فاسد، إنّه مصنّع في عُلَب من البلاستيك والنّيكل والنّحاس والحديد الصّدئ، معالج بالأصباغ واللّغة الجاهزة، تنظر إليه وفيه، لا تجد شيئا، تحاول أن تتذّوقه لا طعم له، تفوح منه رائحة، تشبه رائحة صرصور "مفعوس". أتذكر هذه الرّائحة وأنا كنت طفلا، عندما كنت "أجرم" بصرصور بريء متسلّل إلى غرفتنا الوحيدة، لأراه بعد قليل وقت وقد تجمّعت عليه أسراب من "الذّر"، إن هذا هو حال شعرنا اليوم، شاعر صرصوريّ "مفعوس" تتكالب على رائحته النّتنة أسراب من صغار النّمل.
أبشّركم، وأبشّر نفسي، وأبشّر كلّ صرصور مزهوّ بنفسه، أنّ الظّاهرة مستمرّة، بل ستنتعش أكثر وأكثر، فقد صارت الصّراصير أكثر تكاثرا، وعلا صوتها، وتهيّأت أسراب الذّر لتنبش هياكلها لتتركها شبه قوقعة، سرعان ما يتهاوى ما بقي من قوقعتها، ولا تستطيع المقاومة. فظاهرة الشّعراء الصّراصير في ازدهار، وتعيش حداثيّتها في أبهى صورها، تعرّش في كل اتجاه وتفخر أنها تنتسب إلى هذا المحفل العظيم من الشّعر الصّرصوريّ في أكمل صورة متطوّرة حداثيّة لا تعرف غير الصأصأة في اللّيالي الحالكة.
ظاهرة تستحقّ العناية والدّراسة؛ فهي حالة نادرة لم تمرّ بها البشريّة منذ أقدم عصورها البدائيّة، وحتّى الآن، ظاهرة نقديّة بكر، سيكون لها مآلها المحمول على أكتاف العرّافين الكاذبين، والدّجّالين من الإعلاميّين البررة، والأنبياء الغارقين المحتالين، والنّاشرين المدهشين، المستقيمين على الجادّة العرجاء وسط متاهة ألعاب الفيديو بأيدي أطفال صغار، ما زالوا يتدرّبون على الاستماع إلى أصوات الصّراصير كلّما امتنع النّوم عن أن يداعب عيونهم الباحثة عن الهدوء. لكنّهم لا يعرفون أنّ ثمّة جوقة من الصّراصير أكبر حجما وأشدّ تفاهة سيصدمهم صوتها ويصطدمون بها في كلّ ناحية من كتاب أو برنامج تلفزيونيّ أو مجلّة أطفال، وتحوّلهم إلى كائنات لا تعي، ولا تستطيع أن تنام إلّا وهي معبّأة الكيان بهذه الظّاهرة العجيبة، ظاهرة الشّعر الصّرصوريّ. فلتفرحي يا أسراب "الذّر"، فتهيّئي، فإنّ موائدك وفيرة!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق