ربما كانت صدفة ان تجمعني بشاعرتين لبنانيتين في امسية شعرية أعدتها الزميلة القاصة مشلين بطرس مشكورة في قاعة بلدية الجديدة لأطلع على تجربتيهما الشعرية من خلال مجموعتيهما ( الثورة الأنثى / منى مشون ، إمرأة عذراء / ناريمان علوش)
في البدء أقول : تمتلك الشاعرتان مُخَيِّلة (القوة التي تخيِّل الأشياءَ وتصوِّرها ) تؤهلهما لرؤية الواقع من خلال استدعاءهما للصور الحسية والتي هي مجموع الجراح الدامية المخزونة في مناطق الحس المحفوظة عن الآخر، حيث تعمل مخيَلَتهما على تحفيز الحوار مع الآخر الشخصي حينا، والآخر تجربة ومغامرة حينا آخر. إن هذا المرسوم الإبداعي يستمد نفوذه من سلطة المخيلة وسماحها بالحركة الحرة داخل الزمن، حيث يلتحم الغائب بالحاضر ليقتحم الآتي، بهدف التحرر من قيود المرجعية المحفوظة من خلال مفردتان طاغية الحضور في لغتهيما الشعرية ألا وهي ( الحب والتقاليد) ... وتبين لي كل منهما تفجر طاقاتها عبر لعبة الوصف، والتلمّس، وعبر التصاق قصائدهما وملفوظاتهما بهاجس الأنثى اليومي لرسم لوحة جميلة عن الآخر / الرجل ، لوحة يفوح منها ثورتهما ولكن لكل منهما اسلوبها الخاص بها ، اعتمادا على حركة الانا لدى كل منهما ....
فالأنا لدى منى تكون طاغية على النص وواضحة أكثر فتقف بالضد من الرجل وجها لوجه وكما تقول في ظهر الغلاف :
لم أعد أرتجف ... لم أعد أهتم
ولن أنتفض جزعا ... في المنام
فانا من سيتخذ القرار ...
سأمشي كيفما أشاء ..
لا كما تشاء
وفي قصيدتها ( الأوهام ص47 ) تقول :
قررتَ أن تخوض الحرب وحدك
وأنا قررت الصمود في وجهك
أما لدى ناريمان فتكون الأنا سلسة غير ثائرة فتحاول تصحيح تسلط الرجل من خلال مواكبتها له كمواكبة النور للظل لتعكس صورة الرجل السلطوية وأحيانا الماكره وكما تقول في ظهر الغلاف :
ربما خلقنا أنا وانت لنبقى كالظل والنور
لا نلامس بعضنا البعض أبدا ...
أنت نصفي ، ونصفي كلمات
قد كتبتك فأقرأني ...
ربما تجد نصفك في نصفي ...
وفي قصيدتها ( كم صعب عليك أن تفهم ص73 ) تقول :
فماذا لو كنت تعلم ؟
بخبث مشاعرك
وبأن جرحي بدخان رحيلك تسمم
أه لو كنت تشعر
ففي كل لحظة من لحظاتهما الشعرية الحرجة ومفارقتهما للبنى الشعرية الحكائية، تدون الشاعرتان مدونتهما الشعرية الجميلة في ملفوظات مشحونة بالدلالة الشعائرية والمشاكسة الحسيّة معتمداً فيها عملية السرد المباشر برموز تهز الوجدان بإنسيابية تمليها المشاعر والأحاسيس والإنفعالات ، متشابكة في لوحة تعبيرية واضحة المعالم رغم كثافة ظلالها .
كلاهما تثوران على الواقع الذي إنحاز للرجل وسلمه مقاليد الحكم... كلاهما تكتبان بأسلوبا جميلا يفوح منه هاجس أنثوي كتب بمفردات رومانسية واذرع لينة تطغي على قصائد الديوان ، إذ يكتنز الملفوظ بكثيرٍ من الوجد، وبما يجعله مكشوفا، ومسكونا بشعريةِ ما يُحيل اليه صورة الأنثى، بوصفها قاموسا، أو طقسا والذي غالبا ما يكون فعلا متعديا أميل الى ان يجعل الصورة الشعرية ذاهبة باتجاه الصمت...
تقول ناريمان في جنون المطر ص42 :
دعني أخلع خجلي
فالعشق ليس معيبا
أفتح تلك النافذة المغلقة
فبخار أنفاسنا يحجب
عن المطر الرؤية
أما منى فتقول في قصيدتها صمتي أنا ص27 فتقول :
صمتي يبحر في أعماق حواسي ...
فيغرقني في حزني ولا يغرق ...
يعيش في قفص صدري عصفورا حرا ...
فأطير في فضاء يأسي ولا يطير ...
هذا التقعر الشكلي الذي يشبه المرآة المقعرة يلائم ما نسجتهُ مخيلة الشاعرتين من التقصد الوجودي، لما له من دلالة راسخة بعمق الصورة المسخرة لتراقب وتعكس الخوف من المجهول لتجعلك تعترف كم كنت قاسيا تجاه نصفك الآخر...
في البداية أثار عنونة المجموعتين ( الثورة الأنثى ـ منى مشون / إمرأة عذراء ـ ناريمان علوش ) إلى تأويل افتراضي لحاضنة المنطق الفلسفي ... أن هذه العنونة وعناوين أخرى لقصائدهما تشير إلى مدى تعلقهما، بأشتغالات إشكالية الصراع اليومي حول الوجود الانساني وخصوصا حين يتعلق هذا الوجود بمدى ديمومة السلوك الذكوري تجاه نصفه الاخر / الأنثى .. لذا اختارتا صورهما الشعرية من تداعيات الرؤيا للاحداث التي لا تزال تمثل دقائق الحياة والوجود نراهما تقيمان حواراتهما ولكن بخطين متوازيين منى كما قلنا تواجه الخصم وجها لوجه أما ناريمان فتحاول بكل هدوء ان تعكس صورة الآخر المشوهة عله يراها بنفسه ويتراجع عنها :
أي رجل هو أنت لتكشف شيفرتي وأرقامي
تحملني في سحب دخانك
تحبسني بانفاسك
تتنشقني
تتنفسني في صدرك
ها أنا أسيرة في داخلك
ناريمان / رجل من دخان ص48
حبك غريب عجيب !
حبك قريب بعيد !
حبك فريد من نوعه !
حبك عبثا يغير لونه
منى / حبك ص23
وهكذا في عناوين قصائدهم :
ناريمان / التعلق والعبودية ، جنون المطر ، أوبرا العشق الأزلي ، رجل من دخان ، إحتلالي بك...
هذه العناوين وغيرها تتراقص بحد ذاتهِا مع ذهنيتان قلقتان من مصير إنسانة تود الخلاص / الإفلات من الدونية السفلية التي أعدتها لها التقاليد ، لذا جاءت عبر سيل من التمني أو المواجهة الفعلية بالتحليق المتقارب من الرجل . وفي إطار علاقة العنونة مع عوالم الشعر تتبدى القصيدة وكأنها تحمل ثنائية اللذة والضحية، فإنها تقارب أيضا وفكرة القصيدة المشهدية، حيث تبدو الكتابة فيها وكأنها حكايات مسكونة بتمثلات وجودية، تحضر فيها الشاعرة بوصفها الباحثة عن المعنى، والمشغولة بإحالة العالم/ الوجود الى ماتحتمله اللغة، بوصفها الرؤيا المتاحة إزاء ما تعيشه الأنثى من غياب والى ما يمكن أنْ تتوافر عليه الشاعرة من طاقة تفترض فكرة المراقبة والاستدعاء، وجرأة في التعرّف على مايجري .
مهارتهما في صياغة الشعرية، ودأبهما على الاختزال، والعناية بالتصوير، تعكس تحولا مهما في تجربتهما في النظر الى الأشياء الرامزة التي يتشكل منها المشهد الشعري:
لك المسرح
ولي عيناك بجمالها أسرح
لك المتحف
ولي قلبك بحبه أهتف
ناريمان / أوبرا العشق الأزلي ص44
بعد كل فصل من فصول المسرحية ...
أتقنتُ الدور وحفظتُ التمثيلية ..
وقبلتُ البداية ورضيتُ النهاية
وعرفتُ أنني البطلة وأني الضحية
منى / المسرحية ص22
هذه الهواجس تتحرك بالنيابة عن الرعب المتأصل في الذات المصابة بخوف مستديم طفوليا ( هذا رجل وهذه إمرأة ) لتمكنهما من الولوج إلى الباطن فتتحرك هذه الهواجس بأشكال مثيرة ثم تختفي لتتحول إلى أشياء تتراءى بقدر التخيلات المتحفزة في أعماق الذات كما هي رؤى الأحلام والكوابيس والمرئيات التي يتحسسها المعني بحالته . إن دسامة التجربة الوجودية لدى الشاعرتين أدت إلى اتحاد (الأنا) مع الإرادة ؛ على أساس الشعور بالذات في "...أنا أريد..."
تلك الأماكن لم تعد كما عهدناها
فقدت رونقها وجمالها
باتت تتنهد وحشة
حين أمر بجانبها تتحرق أشواقي وتقودني أليها
فابحث عنك في زواياها
ناريمان أنقاض ذكريات ص67
أحاول الأقتراب من الأفق البعيد ...
فلا أنا أصل ولا هو يقترب ..
وينتهي أمري عند ضفة نهر ..
فاض حزنا من غيمة تذرف قهر ...
منى / غابتي الحزينة ص24
إن حالة التحدي واكبتهُما منذُ اللحظة الأولى في كتابة قصائدهما كلاهما يتحدان الواقع المرير الذي ورثناه وأزدنا عليه ولكن في النهاية :
لكني لا أجد سوى دموع
دموع الأماكن الحزينة على رحيلك
فألملم ذيول خيبتي
وأعود منكسرة
ناريمان / أنقاض ذكريات ص67
وآخر محاولاتي ...
كانت أختراق السماء ...
فلا أنا تجاوزتها
ولا كسرت الزجاج ...
فقررت في النهاية أن أنام ...
منى / غابتي الحزينة ص25
فكلّ القصائد تعيش لحظتها الشعرية بوصفها خطابا في استعادة حقوق الأنثى، عبر تمثلات اللغة، أو عبر احالاتها الدلالية، وعبر التصاقها بما تستنبته شفرات الرجل، في جسد الانثى ليُعيد انتاج نصه الوجودي، حيث يبدو الرجل وكأنه الكائن اللانهائي، أو المنطوق المتعالي :
فأجرد نفسي من كل شئ
فتحتلني أنت
لتستوطن أجزائي وأعود ممتلئة بك
ناريمان / إحتلالي بك ص50
وأنت من حمل القمر ... وأشعل الشهاب
وأنت من يفتح البحار .. ويغلق السماء
وأنت ... وأنت ... وأنت ... كل الرسل
والولاة والأنبياء ...
ولو كنت أنثى .. قادرا على الأنجاب ..
لشاركت الإله ... أو ربما ... أنكرت الإله
منى / أنت الرجل ص15
إجمالاً اقول أن الشاعرتين ينحوان إلى مديات قريبة من الواقع ، فتراهُما يوظفان أفكارهِما وصورهما كأنهما محبطٌتان حتى الثمالة من تصحيح المتغييرات الحاصلة في مناخات تعجُ بغرائبي الطرح ربما غير المقبول نوعا ما . وبما أن نقطة الارتكاز في قصائدهما هو الزّمن الآني الذي يتحكم في بنية الشاعرتين الفكرية و العاطفية، فأنتج لهما رؤية لملامح المأساة و تَدْمِي في أعماقهما جرح الحب نجدهما تنسحبان من حلبة الصراع الى حد ما:
فتنسحب تلك العصافير
التي تغرد في أحشائي أبتهاجا
خوفا من أن تغتالها لحظة الفراق
المطر الأسود يلطم أجسادنا
ويجلد أحاسيسنا حداداً
ناريمان / موعد مع الوداع ص 109
لن يكترث أحدنا للآخر بعد الآن ..
إنا انتهينا وفات الأوان ...
وزال القلق .. والخوف .. وما كان ...
وأنقضى الحب ...والأمل ..والحنان
والرغبة والشوق . .. صار أزمان ...
منى / بعد الآن ص36
إلا أن هذا الأحباط تحول الى عنف لدى كل منهما وإنطلاقا من مأساوية الأنا وغبنها تتشكل المفارقة الوجودية المتمثلة في ذلك القلق والإرتباك الذي باتت تعاني منهما ذات الشاعرة ، ومن هنا تصبح الأنية" حادة و مزعجة فنجدها ما تزال تعاني من ضغط الأنا و قوتها ، مما دفع بالشاعرتين التوجه نحو الأنتقام ...
سيأتي عصر تلتهب فيه أشواقك
كما ألهبت شرايين قلبي بطيف دخانك
كن كالنار تحرق كل ما خلفها
لكني أبداً لن أكون حطبا لنيرانك
ناريمان / رسالة زوجة حاقدة ص70
وأخيراً .. قررت أن أمارس الجنون ...
في الواقع .. لا في الخيال ...
في الحب .. لا في المحال ...
سأذهب أليك بكامل إرادتي .. وقواي ..
سأقترب منك وأعانقك بكلتا يداي ..
سأحاصرك وأعتقلك بلحظ عيناي ...
وأخيرك بين هلاكي .. والعذاب
منى / الجنون ص61
وفي الختام أقول :
عند الوقوف قليلا أمام لّوحاتهما الّتي تتجلّى فيهما عناصر التناقض الوجودي في أقصى جدل وأرقى تداخل، تلفت انتباهنا قضية مهمّة ؛ إلا و هي صعوبة الفصل التام بين (أنا) الشاعرة وذاتيتها، وبين (الأنا) الجمعي و تراكماتها التّاريخية، و ذلك لسبب بسيط ؛ وهو كون ذات كل من الشّاعرتين تحمل في خصوصيتها النفسية و الفـنية و الفيزيولوجية كثيرا من ملامح الفترة الزمنية الّتي اتّسمت بالتناقض التّراجيدي،
أن فعالية النص الشعري في مجموعتيهما يكمن في مخزون الطاقات الدلالية التي تتجلى وتتمظهر في مخزون تشكيلاتها والتي تؤسس للذات الشاعرة ، كلاهما كانتا تشتغلان ضمن القصيدة الغنائية التي هي بحد ذاتها تصويرا للذاتية وللعالم الداخلي .. كلاهما لا ينفصمان عن الذات الشاعرة الفاعلة في صيد «ياءات» المتكلم الأنوية لدى كلا الشاعرتين، فـ ( أنا الفاعل) هنا في النص دال يُنتج ويرسل مجموعة من الإشارات التي تؤدي إلى معمارية نصيّة تتجهّ نحو تخليقات المعاني في حركة الأفعال وموجاتها الدافعة والنابضة في النص: " لذا نجدهما يكثران من استعمال ضمير( انا / انت) . .. كلاهما يلعب الأحساس الدور الأول من حيث الزمن في صياغة قصائدهما متكئين على لغةٍ ناعمة تحتفي بالحياة ومعاناتها والتفاصيل اليومية في حياة الانثى بسبب العادات التي جعلت من الرجل أن يكون السيد.. انها صور للمعانات اليومية لذا كانت الشخصية موضوعا لنفسهما، كلا منهما حاولتا ان تترجم صراعهما اليومي لتكشف ما في داخلها من عاطفة جياشة.... المهم هنا كما يقول ن. اي. دبرو ليوبوف. . ليس الاحساس نفسه ولا استيعابه السلبي، بل رد الفعل الداخلي لذلك الانطباع الذي يستلم من الخارج . وحيث تتبدى الأصوات التي توهب البهجة والنشوة، والتوتر الذي يجعل القصائد وكأنها رسائل الى رجل تلتصق حروفه لتكون وجودا، وتتبعثر حروفه ليبدو وكأنه إحالة الى تتبع ثنائية الحضور والغياب في حياتهما ...
لقد أشعرني شعرهما بالانبهار , ومن أولى القصائد التي ضمتها المجموعة حتى آخر قصيدة منه , لجمال لغتهما , وسحرهما وبساطتهما وشفافيتهما , ومقدرتهما على صياغة المفردات والصور الشعرية والتعابير لتغدو العلاقات الأسلوبية بين الدال والمدلول ، علاقات بنائية تضادية تارة، وأخرى تجاورية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق