تقدم الهند من وقت الى آخر مفاجآت ونماذج للعالم، أو لنقل دروسا إنْ شئت. وكان آخر هذه المفاجآت قيام رئيس حكومتها "ناريندرا مودي" في 12 سبتمبر الجاري بتعديل وزاري منح من خلاله إبنة موظف السكك الحديدية المنحدرة من ولاية تاميل نادو الجنوبية السيدة "نيرمالا سيتارامان" حقيبة الدفاع خلفا للوزير "آرون جايتلي" إلذي عهدت اليه حقيبة المالية. وبهذا اصبحت سيتارامان أول إمرأة هندية تشغل حقيبة الدفاع وتستقل بها في تاريخ بلادها (إذا ما استثنينا احتفاظ رئيسة الحكومة الاسبق السيدة انديرا غاندي بالمنصب لنفسها لفترة قصيرة مرتين خلال الستينات والسبعينات). وبهذا أصبحت سيتارامان أيضا واحدة من ضمن 17 إمرأة شغلن هذا المنصب الرفيع في العالم حتى الآن، بل ربما هي الأبرز على هذا الصعيد إذا ما أخذنا في الاعتبار مسؤوليتها عن الجيش الهندي الذي يصنف ضمن قائمة أقوى 10 جيوش في العالم، ناهيك عن أمر آخر هو مشاركتها لثلاث وزراء آخرين (بينهم وزيرة الخارجية) في "لجنة الشرطة الحكومية" المسؤولة عن قضايا أمن البلاد.
والجدير بالذكر أن مودي حرص في أول تشكيلة وزارية قدمها بُعيد توليه منصبه في مايو 2014 على توزير أكبر عدد ممكن من النساء في حكومته، فمنح ست حقائب لهنديات تنوعت تجاربهن وخبراتهن وأتين من خلفيات عرقية وثقافية ودينية وجهوية مختلفة. وكان أبرزهن وزيرة الخارجية الحالية السيدة "سوشما سواراج" التي دخلت التاريخ الهندي ــ مثل زميلتها سيتارامان ــ لكن كأول وزيرة مستقلة بحقيبة الخارجية.
في أعقاب إختيارها لشغل حقيبة الدفاع عقبت سيتارامان على الحدث بالقول:"إنه نموذج رائع لكل البلاد التي تقتدي بالهند، ولكل من يراقب الهند ويتساءل عما يجري لنسائها".
نعم. إنه نموذج ودرس لجهة وضع الثقة في نساء الوطن ومساواتهن مع الرجال في المناصب السيادية الرفيعة دون خوف أو تردد. وهو من جهة ثانية نموذج ودرس لجهة انتقاء النساء من ضمن أصحاب الخبرة والكفاءة دون النظر إلى خلفياتهن الاثنية او الثقافية او الجهوية. وللهند، في هذين السياقين، تجارب مشهودة. إذ سبق لبرلمانها أن إنتخب في عام 2007 لاعبة التنس السابقة السيدة "براتيبا باتيل" كأول إمرأة لشغل منصب رئاسة الجمهورية، علما بأنها قبل ذلك كانت قد درست القانون ومارست المحاماة ونالت مقعدا في برلمان ولاية مهاراشترا (بومباي) وشغلت وزارات الصحة والاسكان والتعليم ما بين عامي 1962 ــ 1985 وحازت على منصب نائب رئيس مجلس الشيوخ في الفترة من 1986 إلى 88، وتولت منصب حاكم ولاية راجستان.
وهاهي الهند عادت ومنحت ثقتها لإمرأة صاحب خبرة ومراس من نسائها الموهوبات لشغل حقيبة دفاعها، علما بأنها شغلت من قبل مناصب: الناطق الرسمي باسم حزب "بهاراتياجاناتا" الحاكم، وزيرة دولة للمالية، وزيرة التجارة والصناعة، عضومجلس الشيوخ عن ولاية اندرا براديش (حيدر آباد)، وتشغل حاليا عضوية مجلس الشيوخ عن ولاية كارناتكا (بنغلور).
لكن قبل هذا الحدث، الذي أعطى المرأة الهندية دفعة معنوية أخرى في سلسلة محاولات الارتقاء بها منذ سنوات الاستقلال الأولى، كان هناك حدث آخر في يوليو المنصرم شد أنظار المراقبين. ونعني بهذا الحدث إنتخاب رئيس جديد للجمهورية خلفا للرئيس المنتهية ولايته "براناب موخرجي". حيث انتخبت الهيئة الانتخابية المكونة من أعضاء منتخبين في مجلسي النواب والشيوخ والمجالس التشريعية المحلية السياسي والمحامي المخضرم وعضو مجلس الشيوخ السابق ما بين عامي 1994 و2006 "رام نات كوفيند"(71 عاما) ليصبح الرئيس الرابع عشر في تاريخ الهند المستقلة.
صحيح أن الكثيرين ينظرون إلى منصب رئاسة الجمهورية في الهند كمنصب شرفي، على الرغم من أن صاحبه هو رأس البلاد والمواطن الأول والقائد الأعلى للقوات المسلحة، ناهيك عن أنه وحده يتمتع بحق حل البرلمان وتسمية رئيس الحكومة في حالات النتائج غير الحاسمة في الانتخابات العامة على نحو ما حدث في مطلع التسعينات، وصحيح أن البعض إستاء من إنتخاب "كوفيند" كونه أول رئيس ينتمي إلى الحركة القومية الهندوسية بقيادة "بهاراتيا جاناتا"، لكن الصحيح أيضا هو أن جل المراقبين رحبوا بانتخابه بسبب إنتمائه لطبقة الداليت أو المنبوذين التي تقع في أسفل السلم الاجتماعي وتعاني الحرمان والاقصاء والفقر، وذلك على أمل أن يساعد إنتخابه في تحسين ظروف أبناء هذه الطبقة المقدر عددهم بمائتي مليون نسمة.
وعلى الرغم من أن وجود منبوذ مثل "كوفيند" في سدة الرئاسة الهندية، ليس حدثا غير مسبوق لأنه سبق وأن تولى منبوذ آخر المنصب ذاته ما بين عامي 1997 و 2002 هو الرئيس "كوشيريل رامان نارايان" المنحدر من أصغر ولايات الهند واقلها سكانا (كيرالا) والذي كان قد حصل على الدكتوراه في العلوم والقانون وعمل سفيرا للهند في بانكوك وانقرة وبكين وواشنطون، إلا أنه في القراءة الاجمالية مؤشر على أن الهند تساوي بين مواطنيها لجهة وصولهم إلى المنصب الأعلى في البلاد، دون النظر إلى أي اعتبار سوى تحقق خمسة شروط هي: بلوغ سن 35 فما فوق، المواطنة الهندية، سلامة العقل، خلو صحيفة المترشح من الافلاس والإدانة الجنائية، علاوة على ألا يكون موظفا في الدولة بإستثناء الوظائف التالية: نائب رئيس الجمهورية، حاكم أي ولاية هندية، وزير إتحادي لأي ولاية. وإذا كان وصول إثنين من المنبوذين إلى سدة الرئاسة لا يكفي دليلا على صحة ما نقول، فإن دليلنا الآخر هو وصول أربع شخصيات من الاقلية المسلمة إلى منصب الرئاسة هم: محمد هدايت الله، وفخر الدين علي أحمد، وذاكر حسين، وعالم الذرة أبوبكر زين العابدين عبدالكلام.
د. عبدالله المدني
*استاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: سبتمبر 2017
الايميل: Elmadani@batelco.com.bh
عبارة الهامش:
إنه درس لجهة وضع الثقة في نساء الوطن ومساواتهن مع الرجال في المناصب السيادية الرفيعة دون خوف أو تردد. وهو من جهة ثانية نموذج ودرس لجهة انتقاء النساء من ضمن أصحاب الخبرة والكفاءة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق