أهي خطوة للوراء من أجل اثنتين للأمام؟/ جواد بولس

مع انتهاء أعمال "المؤتمر الوطني لدعم القضية العربية الأرثوكسية"، مساء الأول من أكتوبر  الماضي، وإعلان البيان الختامي الصادر عن جميع الفعاليات والجهات والشخصيات الوطنية المشاركة في بيت لحم، بدأت عمليًا المعركة الحاسمة على تحديد معالم وتداعيات المرحلة  المابعد المؤتمر، فجميع القوى المتواطئة والمستفيدة من عمليات تسريب العقارات  أطلقت أعنتها مباشرة ورماحها في محاولات منها لعرقلة تنفيذ مخرجات المؤتمر وكبح روح "الانتفاضة" الصريحة التي رفرفت في سماء مدينة المهد وملأت حقول الرعاة وعودًا ندية وتراتيل تنبئ بالعواصف القادمة لا محالة. 
لقد حاول كثيرون إفشال المؤتمر منذ لحظة الإعلان عنه، ووظفوا في سبيل ذلك قدرات هائلة وفيالق من المتعاونين والمفسدين وجربوا كل الوسائل في مساعيهم الشيطانية، فالمؤامرة على عقارات الكنيسة الأرثوذكسية النفيسة، تعد في رأيي، من أكبر وأخطر المؤامرات المحاكة بدهاء بارع وبإعداد معقد وبخبث الخلايا المنشطرة، لا سيما ونحن نعرف أن الضالعين فيها هي جهات سياسية متعددة، وشركات أخطبوطية خاصة بعضها مدفوع بمحفزات أيديولوجية مخلوطة بمطامع مادية "خنازيرية"، ونعرف كذلك أنهم نجحوا في تجنيد عدد من رؤساء الكنيسة اليونانيين وفي مقدمتهم  ثيوفيلوس الواقف على رأس الكنيسة، وإلى جانبه أعضاء من مجمعه "المقدس" ويساعدهم مجموعة من المستشارين والقانونيين العرب وغيرهم من المنتفعين.
لقد كانت أصداء الصفقات المتدحرجة من أدراج البطركية المقدسية أكبر من ضغوط الجهات المتورطة والمستفيدة، وتفاصيل العقارات المسربة المنشورة موجعة ومستفزة فأدهشت حتى "البوم والغربان" الحائمة في فضاءات البلاد، وأضعفت من حاولوا، خفية أو علنًا، دق الأسافين وإعطاب عجلات قطار الوطن، ويشهد على إخفاق جميعهم الإجماع الكبير على نص البيان الختامي الذي سيبقى وثيقةً مشرفة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني وشهادة عز وفخر بحق العرب المسيحيين الارثوذكس في فلسطين والاردن.
سيحسب تأكيد المؤتمرين "على عروبة وفلسطينية القضية الأرثوذكسية" من أبلغ العناوين المفصلية وأهم من جميع التفاصيل اللاحقة، فجميع من حضر أكد على ضرورة "اعتبار الملف الأرثوذكسي وأوقافه ملفًا وطنيًا فلسطينيًا وأردنيًا بامتياز "وأعلنوا كذلك أن هذا الملف "هو واحد من الملفات الإستراتيجية لمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائل العمل الوطني كملف القدس والعودة والللاجئين والأسرى .." لا أوضح ولا أفصح.
ومن اللافت في البيان أيضا إشارة المؤتمرين وتأكيدهم على الثوابت الفلسطينية سيما ما جاء في كلمة السيد محمود العالول، نائب رئيس حركة فتح وعضو لجنتها المركزية والذي نقل بدوره تحيات الرئيس محمود عباس مؤكدًا على أهمية القضية العربية الأرثوذكسية. 
لوهلة بدا أن الأمر قد قضي وباتت النتيجة محسومة ومواقف الرأي العام متساوقة مع ما جاء في البيان فمن "واقع المسؤولية الوطنية في الحفاظ والدفاع عن حقوق وثوابت شعبنا الوطنية نرى أن أي شخص، مهما كانت صفته الاعتبارية، يفرط بهذه الحقوق والثوابت هو خارج عن الصف الوطني ومعادٍ لقضية شعبنا العادلة، وعليه نرى في البطريرك اليوناني ثيوفيلوس، الذي أبرم الصفقات المشبوهة مع الاحتلال، شخصًا غير مرغوب فيه في أراضي السلطة الفلسطينية .." وقد سبقت هذا الاعلان مطالبة المؤتمرين بضرورة  "كف يد البطرك ومجمعه من خلال سحب الاعتراف به تمهيدًا لعزله ومحاسبته.." وبناءً عليه قرر المشاركون "عزل البطرك ثيوفيلوس وعدم استقباله ولا في أي مناسبة واعتباره وحاشيته وكل من يسير في فلكه خارجًا عن الصف الوطني". 
من بيت لحم طارت كلمة فلسطين الموحدة وباركها سيادة الرئيس محمود عباس وجميع  الفصائل الوطنية وصار متوقعًا ومطلوبًا عدم التعامل والتواصل مع  ثيوفيولس ورجاله، لكننا فوجئنا يوم الأحد المنصرم بنشر خبر عن قيام دولة رئيس الوزراء الدكتور رامي الحمدالله باستقباله ووفد مرافق له في مقر رئاسة الوزراء في رام الله. ووفقًا للخبر فلقد "تم بحث سبل تثبيت الوجود الوطني المسيحي في فلسطين والتحديات التي تواجه أبناء القدس مسيحين ومسلمين والتطورات الأخيرة في بعض السياسات الإسرائيلية" ثم يضيف الخبر "أن رئيس الوزراء نقل تحيات الرئيس محمود عباس ودعمه الكامل  للبطريك وللجهود التي تبذلها البطريكرية في الآونة الخيرة..". 
لم يعلن عن هذا اللقاء من قبل ولا عن مسبباته، كما ولم نقرأ عن حيثيات ما جرى باستثناء ما ورد في النبأ الذي نشرته جريدة "الدستور" الأردنية، بطريقة تؤدي، حتى من دون قصد، خدمة ثمينة ودعمًا كبيرًا لثيوفيلوس والوفد المرافق له، وتحمّل تبعات وجبة الدعم هذه على كاهل رئيس الوزراء الفلسطيني ومن حضر اللقاء من أعضاء في اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس.
فلن يختلف إثنان على أن عنوان الخبر الصحفي الذي أعلن أن "الحمدالله يلتقي ثيوفيلوس الثالث ويدعم مواقف البطريكرية المقدسية الارثوذكسية" سوغ عملية استغلاله في محاولة لإجهاض توصيات مؤتمر بيت لحم، وايصال رسالة لجميع من تحركوا ضد مسلسل الصفقات المشين مفادها، بأحسن الأحوال، بأن "يحططوا عن بغالهم"، كما قالت العرب. 
قد يكون اللقاء خطوة إلى الخلف من أجل أثنتين إلى الأمام، وكم أتمنى ذلك، ولكن بغياب التفاصيل والخلفيات الكافية والصحيحة سيبقى من حق المتابعين للحدث أن يشعروا بشماتة ثيوفيلوس وبتسجيله "انتصارًا" مقيتًا في وقت استبشرت فيه الجماهير بقدرتها على التصدي لمخطط الإجهاز الكامل على عقارات الكنيسة وانقاذ "أم الكنائس" من أخطر المؤامرات التي تحيق بها. 
في الواقع أصدر ديوان رئيس الوزراء رامي الحمدالله بيانًا نشرته وكالة "معًا" يوم الثلاثاء الماضي أكد فيه "على أهمية الوقف الإسلامي المسيحي في القدس وسائر الأراضي الفلسطينية المحتلة والجهود المبذولة بهدف الحفاظ على الأراضي الوقفية الإسلامية والمسيحية والوقوف في وجه أي تسريب للأراضي والعقارات من خلال البيع أو التأجير ". وقد قرأنا ذلك بوجع فلا نقاش حول صحة الموقف والاعلان، لكن صورة ثيوفيلوس وهو يتصدر الديوان بجانب رئيس الوزراء الفلسطيني وخلفهما علم فلسطين العالي كانت مستفزة لكل حر وعاقل، فهو ورجاله لم يبذلوا ولا يبذلون جهودًا من أجل الحفاظ على العقارات الفلطسينية وإحالة قضية التسريب إلى التعميم، كما جاء في النص، وكأنها تنفذ بأيدي عناصر مجهولة، فيها تبرئة له من ضلوعه في عمليات التفريط كما دمغته الوثائق المنشورة ووصفه بيان بيت لحم. 
ويكفي مشاهدة ابتساماته خلال اللقاء لنعرف كيف خطط هو ومعاونوه لتوظيف الحدث كمواد تنظفه من أخطر المؤامرات على الوجود العربي المسيحي في فلسطين والقدس تحديدًا . 
وقد جاء في بيان رئيس الوزراء كذلك أنه "ناقش خلال لقائه وفدًا برئاسة بطريرك الروم الأرثوذكس ثيوفيلوس الثالث وبحضور وزير القدس عدنان الحسيني ووزيرة السياحة رولا معايعة واللجنة الرئاسية العليا لشوون القدس ممثلة بحنا عميرة وحنا عيسى وزياد البندك وهاني الحايك، سبل دعم المقدسيين وصمودهم في وجه الممارسات الإسرائيلية".
كنا نتمنى لو أفادنا أعضاء اللجنة الرئاسية ومعدو الخبر كيف يمكن لمن فرط ويفرط بالأملاك الفلسطينية أن "يدعم المقدسيين وصمودهم في وجه الممارسات الاسرائيلية "؟ كيف سيتسنى له ذلك وهو المسؤول الرئيسي عما اسميته "مذبحة العقارات العربية المسيحية في فلسطين" كما أسلفنا وقلنا.
لا أعرف من نصح الدكتور رامي الحمدالله بعقد هذا اللقاء، لكنني على يقين أنها لم تكن نصيحة صادقة وصدوقة، فأنا واثق من مواقف الحمدالله الحازمة أزاء كل قضية وطنية خاصة إذا تعلقت بالأرض والصمود عليها،لأن تاريخه الشخصي والعائلي والعام يشهد له وعلى مواقفه وأصراره غير المساوم في هذه المسائل.
فلذلك ورغم الوجع الذي أصاب الكثيرين، مسيحيين ومسلمين، أقترح أن تمضي لجنة المبادرين في خطواتها وتتابع عملية تعميم وتطبيق المقررات الصادرة عن المؤتمر، وتعلن سريعًا عن تشكيل "لجنة المتابعة" الدائمة المقر اقامتها من ١٧ عضوًا، كي تجتمع هذه اللجنة بشكل فوري وتسعى بداية لوضع استراتيجات وبرامج عمل مدروسة ومؤثرة وفي مقدمتها التوجه بطلب لعقد لقاء مع سيادة الرئيس محمود عباس، وبعده مع دولة الرئيس رامي الحمداللة، فأنا على قناعة أنهما سيستمعان بشغف للحقائق ولوجهات النظر الوطنية وسيكونان مستعدين للتعاون مع أصحاب الحق والقضية، ففي النهاية لا خلاف معهما على الرواية ولا نقاش حول تعريف الخيانة والتفريط في هذه المسألة. وبالتوازي مع هذه الخطوات على اللجنة أن تتقدم في نفس الوقت بطلب للقاء جلالة الملك عبدالله بن الحسين، فالأردن كان وما زال صاحب المكانة والرأي والمسؤولية في كل ما يتعلق بالأماكن المقدسة في القدس.  
لقد خبرنا كيف عمل ويعمل ثيوفيلوس وطواقمه خلال السنين الماضية وإلى أي مدى يوغلون في مؤامراتهم، وتوقعنا أن يحاولوا إجهاض ما بشرت به بيت لحم، لكننا نؤمن أن في فلسطين والأردن ستبقى الأمور محكومة في خواتيمها، ونحن، أهل البلاد "من قبل تفتح الحقب"، رفاق الفجر، على يقين أن الغاصب لن يفلت بفعلته فالقدس قد تمهل لكنها أبدًا ما أهملت ولن تهمل! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق