"عشان ما تبنيهاش أكتر من كدا" إيفان الرهيب و سور العاصمة المريب/ هادي حمودة

مع شديد الأسف لا يسعني سوى أن تذكرني ممارسات الرئيس السيسي و نظامه في الآونة الأخيرة سوى بعصور تاريخية عرفت بعصور الظلام التي كنت أتخيل أننا خرجنا منها خاصة و بعد أن اختارته غالبية الشعب كرئيس ثوري ساند ثورات التحرر و الحرية و العدالة الاجتماعية إلا أن:
استمارة "عشان نبنيها" جاءت لتتوج قمة الرجعية الفكرية و الإفلاس الحضاري و الفكري، و التفكير الذي شاخ و تحجر في فترة كنا نتوهم أننا جئنا بأصحاب هذا الفكر ليديروا البلاد و يتقدموا بنا إلى الأمام. هذا الذي جرنا إليه النظام الحالي الذي فشل في إرساء أي مبدأ و كل مبدأ من مبادئ الثورات المصرية المعاصرة بل و انقلب عليها كلها و سنناقش هذا في مقال آخر، و لا تذكرني الاستمارة الخرقاء العرجاء إلا بالاتحاد السوفيتي و دعايته و مماراسات الرجعية السحيقة التي تجاوزتها أكثر الدول شمولية مثل روسيا نفسها ،باستنثناء دولة واحدة هي كوريا الشمالية، و كأن الزمن قد رجع بنا إلى عصر الستينيات من القرن الماضي – و التي و للحق أعتقد أننا تحجرنا و تجمدنا فيها أو هي من تجمدت بنا و علينا ليقف بنا الزمن عندها - لكن مع فوارق كثيرة. أولها أن الرئيس السيسي و إن حاول التشبه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إلا أن عبد الناصر رغم توجيهه للإعلام و كبت الحريات، له العديد من الانجازات التي لازلنا كمصريين نعتاش عليها بل و يدمرها السيسي نفسه و ينقلب عليها بسياساته الداخلية و الخارجية، و لن أذكر السد العالي، و الصناعات الثقيلة، و الحربية، و مجانية التعليم، و العدالة الاجتماعية، و الانحياز إلى الفقير، و الدعم الذي بات يرفع و ما إلى خلافه. لكنه – عبد الناصر- لم يفرط في أي أرض مصرية أو غير مصرية أيا ما كانت، بل له خطاب شهير يمكن الاستماع إليه على اليوتيوب يقول فيه أن تيران و صنافير أراضي مصرية، هذه التنازلات أبدا لم يحدث أيا منها و حتى بعد هزيمتنا إبان النكسة و هو صاحب مقولة "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة" في الوطن العربي، لم يدخل في صفقات سرية  تقايض على ما لا نملكه و هي حقوق الشعب الفلسطيني في صفقات القرن و التي بكونها سرية تستحضر في مخيلتي صفقة وعد بلفور المشؤومة لأنها لو مشرفة و لو كان هناك ثقة في أنها ستستقبل بالترحاب لكان قد أعلن عنها و قام إعلام الزمبلك بوصفها على أنها نجاح عظيم للنظام بحنكة القائد و سياساته الجبارة. لم يسمح ناصر بلوبي بترولي ليشكل سياسات مصر الخارجية و الداخلية و يتحكم في مقدارتها و أقوات شعبها، و لم يسمح بأن تصبح سياسات مصر الخارجية متمحورة حول الدول المانحة للرز و بتوع مسافة السكة سواء في الدفاع عنهم أو تأييدهم عن حق أو بدون، و لم تكن سياسات ناصر الخارجية متمحورة حول تبيض الوجه و اكتساب الشرعية الدولية على الرغم من اعتلائه سدة الحكم عن طريق انقلاب عسكري أيده الشعب، بل بالعكس كانت سياساتنا الخارجية حرة متحررة ناهضت و تحدت الاستعمار في كل مكان و ساهمت في تحرير أفريقيا و العالم العربي من الاستعباد و الاحتلال و الاستعمار و بهذا دانت لنا الكثير من دول العرب و أفريقيا و دول عدم الانحياز و احترمنا حتى ألد أعدائنا بينما تتلاعب بنا أثيوبيا و ليس للنظام الحالي بالا إلا لتبييض صورته و إكساب نفسه شرعية دولية و محاولة ضمان ديمومة المساعدات و المنح و التي لا تنفك سوى أن تتوقف إحداها و تتصدع شرعية و صورة النظام الدولية إما بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، أو الفشل الفكري و الديموقراطي، أو بسبب فشل سياسات و خطط مكافحة الإرهاب و الترويج للسياحة و هكذا.
بنى عبد الناصر مصر الدولة و مؤسساتها ليس من الديون المهولة و بناء الصروح و التي سنتحدث عنها، بل جعل من التعليم حق أساسي، انحاز للفقير ليجعله يشعر أن عبد الناصر و إن كان رجلا يراه البعض ديكتاتورا تطرف في استخدام القوة إلا أن الفقير في عهده تأكد من أن مصر له و هي بلده و له فيها قدرا من الحقوق و المكان و المكانة ما تجعله ينتمي لبلده بعد أن كان الفلاح المصري مسخر لخدمة النبلاء و هذا على عكس السيسي و دولته الذي في عهده سحق الفقير سحقا. شجع ناصر الصناعة و الزراعة أولا قبل كل شيء، و آمن أنه لا نهضة للعرب في ظل الاحتلال و الاستعمار و اغتصاب فلسطين. هذه هي الفوارق الحاسمة، و عليها أن العالم كان يخشاه و يخشانا، لكن هاهي أثيوبيا مثلا و ها هي دول الخليج التي أصبحت تصنعنا و تصنع سياساتنا الداخلية و الخارجية و مقدراتنا و حتى بالمساعدات التي تلقها نظام السيسي منهم لم نستطع حتى الان الاعتماد على الذات و لو بالقدر اليسير بعد كل هذه الاعوام من تلقي المساعدات و عندما ايقن النظام أنه لا مساعدات أكثر مما قدم ذهب و استدان من صندوق النقد الدولي و أودع القروض في البنك المركزي و هلل إعلامه بأن النظام نجح في زيادة الاحتياطي النقدي وصورهذا على  أنه إنجاز عظيم و كأنه عن طريق نجاح سياسات النظام و رئيسه في استنهاض الصناعة و الهمم و المشاريع و التكنولوجيا الاتي عدن علينا بالمكاسب الحقيقية و ليس عن طريق القروض! هذا شكل الرصيد الذي يجعل الكثيرين منا يغفرون لعبد الناصر مساوئه و انهزامه إبان النكسة.
و ها هي قطر " قطر بتاعت النخلة و الجملين" تكيل لنا الصفعات على حد وصف إعلام النظام المحتكر الموجه الذي صور من قطر قوة عظمى تحيك المؤامرات في كل مكان ضد مصر و تؤثر في اليونيسكو، و الولايات المتحدة و إيران و تركيا و سوريا و الإرهابيين و العالم كله و في نفس الوقت و كأن العالم يدار من الدوحة. لذا و لكل ما سبق فأني ألتمس العذر لعبد الناصر الرجل الاشتراكي ذو الفكر و النهج الاشتراكي الواضح المتمثل في الرجل الواحد و الحزب الواحد و لذا فأنا لا أعده كاذبا أو استغلاليا و إن كان قد قسى على معارضيه، و قد أتجاوز عن أي سلبيات على الرغم من أني مؤمن تمام الإيمان بأن زمن الحكم العسكري و زمن الاشتراكية قد ولاّ و انتهيا و لا يجب أن يرجع بنا الزمن للوراء. و أخيرا و ليس بأخير ترك ناصر لنا الناصرية، ترك إرثا فكريا و قوميا و عربيا سواء اتفقنا معه أو اختلفنا، سواء أحببناه أو كرهناه، إلا أنه ترك إرثا، و حلما و إلهاما وطنيا و عربيا قوميا و تكامليا.
أما الموضوع الثاني الذي يرجع بنا للوراء و يثير الحنق فهو صرح العاصمة الإدارية الجديدة "و جدار إيفان الرهيب". هي الأخرى تذكرني بعصر أبعد بكثير من عصر الستينات، تذكرني بالقرن السادس عشر الميلادي عصر قياصرة روسيا البعيد ، عصر إيفان الرهيب. نعم، إيفان الرهيب الذي أفرط في قمع المعارضين و الإمارات التي و حدها فيما بعد لتصبح روسيا و الذي بلا شك له بعضا من الانجازات المحورية التي غيرت تاريخ روسيا. إيفان الرهيب الذي كان أول حاكما روسيا يحمل لقب "تسار" أو القيصر ،  و الذي دخل في صراع مع النبلاء و الأمراء ,  و طوائف من الشعب  ليحد من نفوذهم و يبسط نفوذه المطلق في عملية تاريخية غاية في القسوة و القمع و البطش عرفت بالـ "oprichnina"و التي تضمنت تأسيسه لشرطة سرية تجسست و قمعت كل معارض له، كما قام بصياغة القوانين الخاصة و المحاكم نفسها التي عززت مكانته و قمعت المعارضين، إيفان الذي قتل ابنه نفسه عندما عارضه. إيفان الرهيب الذي فشل في نهاية الأمر و أنتهت روسيا من بعده وحدها و هي تحارب قوى أوروبية كبيرة و متعددة.
 عرف عنه – إيفان الرهيب-  أنه من شدة تشككه فيمن حوله و جنون العظمة و الارتياب الذان انتاباه قرر ترك العاصمة موسكو و نقل مقره إلى مدينة بناها سميت بـ "أليكساندرفسكايا سلوبودا" و التي تعرف الآن باسم مدينة "أليكساندروف" في روسيا الاتحادية، بنى هذه المدينة لتصبح مقر حكمه و إداراته و أحاطها بسور منيع و عزل نفسه و اعتصم بأسوارها عن فئات الشعب!! و هنا أتعجب حقا ما فائدة الأسوار في القرن الواحد و العشرين و ما مغزى إحاطة العاصمة الجديدة بسور عظيم؟ و لا أحد يعلم ما جدوى بنائها سوى من علمي بالتاريخ أقول أن الدول التي نهضت قامت بالعكس تماما مما يقوم به السيسي و نظامه، فهم بنوا الصناعة و التعليم و القاعدة التكنولوجية أولا على التوازي قطاع الصحة، و كان توسيع هامش الحريات أمرا هاما إن لم يكن التحرر ثم أتت مشروعات البذخ فيما بعد من عائدات المشاريع الصناعية و الزراعية العملاقة و التي نقلت عن العالم المتقدم التكنولوجيا لترسخها في بلاد مثل الصين و سنغافورة و ماليزيا و العديد من الدول الأخرى الأكثر تحررا من تلك الدول السابقة الذكر. لكن ما نقوم به هو العكس فالرئيس السيسي يبني الهرم من رأسه لا من قاعدته.
هكذا عاد بنا نظامنا المنتخب إلى عصور انتهت، و يحاول إعادة انتاجها دون أي مراعاة لظرف أو مكانة تاريخية و ثقافية لمصر و لن أقول حضارية لأن مصر فقدت حتى أدنى مكونات الحضارة.  في النهاية و بعد فترة رئاسية كاملة للرئيس السيسي أقول لو أن بنائه لمصر كانت و ستكون تكلفته هي الارتداد عن كل ما جعل المواطن ينتخبه فليرحل و كفاه و كفانا بنائه لها على هذا المنوال، و لا نريده أن يبنيها على حساب المواطن المطحون و الطبقة الوسطى التي خسفت بها الأراضين السبع، و على على نفقة الأجيال القادمة التي و رثهم قروضا هي الأكبر في تاريخ مصر كله، و لا على حساب الحرية و حرية الاعلام و العادالة، كفاية أرجوك ماتبنيهاش أكتر من كدا، لم يطلب أي مصري منك أن تبني لنا أليكساندروفسكايا سلوبودا" أخرى.
hady.hamdy@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق