أفرد طه حسين في كتابه الموسوم " تجديد ذكرى أبي العلاء " (2) فقرة قصيرة خاصة أسماها [ البعث ] حاول فيها معرفة حقيقة موقف وقناعة أبي العلاء المعري في موضوعة القيامة بعد الموت أو النشور أو البعث ، والموضوعة هذه تمثل واحداً من أركان الديانة الإسلامية كما هو معروف. بذل الدكتور طه حسين في سبيل ذلك جهداً كبيراً مستقصياً ما قال أبو العلاء في هذه الموضوعة من أشعار . لم تسعفه هذه الأشعار ولم تساعده للوصول إلى نتيجة قطعية بعد أنْ نقّب وقلّب يمنةً ويسرة ً حتى إنتهى إلى نتائج ليست قاطعة حاسمة فخلص مرة ً إلى القول إنَّ الرجل شكّاك لا أكثر ، أو إنه ينفي البعث ، أو أنَّ الرجل مسلم مؤمن ملتزم بأركان دينه ، وثمة مرة رابعة أفاد فيها أنَّ أبا العلاء لا يستطيع الجزم في أمر البعث والآخرة والحساب ، أي أنه متردد حائر . كانت هذه أبرز إستنتاجات طه حسين فيما يخص موقف المِعرّي مما يأتي الإنسانَ فيما بعد الموت . أكرر ، إعتمد طه حسين على ما قال المِعَرّي من أشعار في هذا الصدد وهو منهج علمي سليم لا غبار عليه ، لكني لا أراه كافياً وافياً بل وأحسب أنَّ الركون إلى هذه الأشعار وحدها لا يكفي ولا يشفي الغليل ولا يوصل الباحث إلى النتيجة المُبتغاة . ما هو البديل إذاً ؟ البديل أو المتمم هو كتاب رسالة الغفران (1) لأبي العلاء المعري . نعم ، في هذا الكتاب يجد الباحث ضالته ويقف على مواقف الشاعر الضرير الحقيقية ومعتقداته حول الآخرة والجنة والنار . من يدرس رسالة الغفران دراسة متأنية يجد المعري واضحاً فيما تناول وكتب في رسالته . يجده ليس رجلاً شاكاً في العالم الآخر ( الآخرة ) حسبُ ، بل وساخراً منه أيما سخرية ... سخرية تتبدى في كل كلمة قالها أبو العلاء وفي كل سطر دبّجه وفي كل فكرة تناولها . لكنه كان ذكياً جداً حذراً جداً فتوارى خلف أساليب لغوية وآيات قرآنية تجنبه نقمة الناقمين وغضب المتعصبين وتجنبه الكثير من المتاعب وهو الرجل الأعمى العاجز المكتفي بغيره . أجلْ ، كانت السخرية أسلوب وسلاح الرجل في هدم أسطورة النار والجنة والحياة بعد الموت . إتخذ الأدب والشعر والعديد من آيات القرآن الكريم وسائلَ وأساليبَ لهدم كل ما راكمت الأديان من أفكار ومعتقدات وتصورات حول العالم الآخر الذي ياتينا بعد الموت . فلا قيامة في نظره ولا حشر ولا حساب ولا كتاب ولا من جنة ولا من نار . سأعتمد لإثبات صحة إستنتاجي هذا على مواقف محددة وردت في كتاب ( رسالة الغفران ) وأترك الحكم النهائي للقارئ الكريم . قبل أن أنصرف لعرض بعض ما ورد في رسالة الغفران من أفكار وحجج مبطنة تنسف العالم الآخر، عالم الغيب ... سأنقل قبل ذلك بعض ما كتب طه حسين (2) حول الروح والبعث ثم أستعرض بإختصار شديد ما قال في بعض أشعار المعري ذات العلاقة .
[[ لا يشك أصحاب الديانات في البعث ، ولا يمتري المسلمون في حشر الأجسام ، بذلك نطق القرآن الكريم في كثير من آياته . فأما الفلاسفة الماديون فينكرونه جملةً . وأما الفلاسفة الإلهيون من اليونان " ولا سيما الأفلاطونية " فينكرون حشر الأجسام ، ولا يؤمنون ببعث الأرواح كما نفهمه نحن من الدين ، ولكنهم يقولون بخلود الروح ، وإنها تنتقل بعد الموت إلى عالمها العقلي ، فتشقى أو تُسعد بتذكار ما صنعت في الحياة . ولا بدَّ عندهم من أن تعودَ إلى صفائها بعد المحنة . فلما نُقل هذا المذهب إلى المسلمين صبغه الفلاسفة منهم صبغة الإسلام فسموا رجوع الروح إلى عالمها العقلي بعثا ً ، أما أبو العلاء فقد إضطربَ رأيه في البعث إضطراباً شديداً فمرةً أثبته فقال :
وإني لأرجو منه يومَ تجاوزٍ
فيأمرُ بي ذاتَ اليمينِ إلى اليسرى
وإنْ أعفَ بعد الموت مما يريبني
فما حظيَ الأدنى ولا يديَ الخُسرى
وتارةً يُنكره نصاً فيقول :
ضحكنا وكان الضحكُ منا سفاهةً
وحُقَّ لسكان البسيطةِ أنْ يبكوا
تحطمنا الأيامُ حتى كأننا
زجاجٌ ولكنْ لا يُعادُ له سبكُ
على أنَّ أبا العلاء لم ينفِ البعث في هذين البيتين وحدهما ، بل نفاه أكثر من ستين مرة في اللزوميات . ومن أشنع قوله في ذلك ما رواه القفطي وياقوت .... ثم يقول طه حسين : وتارةً يقف أبو العلاء في أمر البعث موقف الشك فيقول
يا مرحباُ بالموتِ من منتَظَرٍ
إنْ كان ثمَّ تعارفٌ وتلاقِ
وتارةً يجزم بمذهب أفلاطون في الروح فيقول
وإنْ صدئتْ أرواحُنا في جسومنا
فيوشكُ يوماً أنْ يعاودَها الصقل ُ
ثم يواصل طه حسين سوق حججه فيقول : ومهما يكن من شك أبي العلاء أو إنتحاله الشك في البعث ، فإنه لا يرتابُ في قدرة الله عليه ، وفي ذلك يقول :
وقدرةُ اللهِ حتى ليس يُعجزها
حشرٌ لجسمٍ ولا بعثٌ لأموات ِ ]]ِ
إنتهت مقتبساتي مما قال طه حسين .
لقد سبق المتنبي أبا العلاء في تناول موضوعة علاقة النفس بالجسد بعد الموت ولخص موقفه منهما بدقة وإختصار شديد وفي بيت شعري واحد بناه على شكل تساؤل نسبه لغيره مستخدماً أسلوب المبني للمجهول ( قيلَ ) لكي ينأى بنفسه عن إتهامات مبغضيه وأعدائه وكانوا كُثراً في حياته وبعد مماته قتلا غيلةً . قال المتنبي (3):
تخالفَ الناسُ حتى لا اتفاقَ لهمْ
إلا على شَجَب ٍ والخُلفُ في الشجَبِ
فقيل تخلصُ نفسُ المرءِ سالمةً
وقيل تشركُ جسمَ المرءِ في العطبِ
خلاصة دراسة طه حسين لمسألة البعث لدى المعري في أشعاره :
أولا / إنه يشك فيه يوماً
ثانياً / وينفيه يوماً آخر
ثالثاً / إنه حائر في الأمر عاجز عن القطع به .
رابعاً / وإنه لا يشك في قدرة الله على إتيانه .
وهذه ثنائية غريبة ، يؤمن المعري هنا بالله وبقدراته الخارقة لكنه لا يؤمن في أماكن أخرى بالبعث أو يشكك به أصلاً . فهل من الممكن فصل الإثنين عن بعضهما ، أي وجود الله الخالق وعدم وجود حشر وقيامة وحساب وجنة ونار ؟ نعم ، هذه هي عقيدة أبي العلاء كما أرى . أسالُ المعري وهو في قبره سؤالاً : إذا محونا النصف الآخر لعالمنا ، عالم ما بعد موتنا ، فما جدوى وجود إله خالق يقال عنه سرمدي لم يلدْ ولم يولدْ خارج المكان والزمان ؟ هل يستمر في خلق بشر جديد يوماً بعد يوم يلقيهم على أديم الآرض ويقول لهم وداعاً لا أراكم ولا ترونني يا معشر البشر ... لا من حساب ولا من جنة ولا نار ؟ إذا صح ذلك {{ وجود الله بدون بعث وآخرة وقيامة وحساب }} فإنَّ معكوسه سيصح بعد ذلك .أعني وجود البعث ولكن لا من وجود للرب الخالق !! وهذا هو منطق الأفلاطونيين ـ وربما تأثر بهم المعري ـ الذين (( ينكرون حشر الأجسام ولا يؤمنون ببعث الأرواح ، ولكنهم يقولون بخلود الروح وإنها تنتقل بعد الموت إلى عالمها العقلي فتشقى أو تُسعد بتذكار ما صنعت في الحياة ، ولا بدَّ عندهم من أن تعودَ إلى صفائها بعد المحنة )) . الأجسام فانية تتفسخ تحت التراب لكنَّ الروح خالدة أكانت صالحة أم طالحة في الحياة . وفي عالم العقل تصفو وتتنقى الأرواح الشقية الشريرة التي لم تكن صالحة في الحياة أي تتطهر لتغدو متطابقة مع مثالية عالم العقل . إذاً ليس في عالم أفلاطون نارٌ للكفرة والملحدين تعذبهم فيها ملائكة النار ، بل هناك ما يشبه المدارس أعدت لغسل أدمغة العاقين والكفار وغير المؤمنين يتطهرون فيها ليدخلوا بعد ذلك ملكوت العقل الأبدي الخالد . وهذا ما ذهب إليه دانتي في الكوميديا الالهية حيث أوجد منطقة تتوسط الجنة والنار أسماها المطهر. الروح هنا لا تتعذب ولا تٌشوى بنيران جهنم ولا من سلاسل حديد في الأعناق وحول الأرجل . الرحمة هنا وكل العناية بالإنسان سواء من قبل خالقه إذا كان هناك ثمة من خالق أو من قبل الموكلين بعالم العقل كما يتصوره الأفلاطونيون وبعدهم دانتي . ديننا الإسلام قاسٍ مقفل لا يعفو في الآخرة عن مسيء ولا يقبل توبة وهو شديد السادية فصور العذاب والتعذيب وأساليبها وأدواتها كثيرة في القرآن الكريم وقد تعلم منها البعثيون وتبنوا أسلوب الإسراف في السادية وقتل الناس وتعذيبهم والتمثيل بأجسادهم قبل وبعد قتلهم . ليس من خيار أو طريق ثالث للإنسان في الإسلام ، إما الجنة أو النار . طرفان متناقضان كليةً ً، في غاية التطرف والتباعد . ليس من منطقة وسطى فيما بينهما . لا وجودَ للتدرج أو التوبة فالغفران في الآخرة . التوبة مقبولة في الدين الإسلامي ولكن في حياة الإنسان في دنياه الفانية . لا تُقبل التوبة منه بعد موته ما دام قد وصل الآخرة كافراً أو ملحداً أو غير مؤمن أو مشركاً أي يحمل رأياً أو معتقداً أو قناعة مخالفة للدين الإسلامي . لا الله ولا دينه الإسلام يقبلان الإختلاف في الرأي والمعتقد . لا أزعم أن المستبدين وجبابرة التأريخ جميعا ً تعلموا وأخذوا طبيعة وأساليب الإستبداد عن الدين الإسلامي فالإستبداد ظاهرة قديمة جداً بداياتها إنقسام المجتمعات البشرية إلى مسُتغِل ومُستغَل .
المِعَرّي والجنة
أعود للمعري ورسالة الغفران لأتناول مسألة الدخول إلى الجنة وكيف صورها وبأية سخرية رسم فصولها . إستغرق هذا الموضوع الصفحات 101 إلى 109 من كتاب رسالة الغفران مبتدئاً بالعنوان [ حديث الدينونة ] حيث يقص ( إبن القارح ) قصة دخوله الجنة فيقول :
[[ لما نهضتُ من الريم ( الريم : القبر ) وحضرت حرصات القيامة والحرصات مثل العَرَصات ، أُبدلتْ الحاء من العين ، ذكرتُ الآية <<
تعرجُ الملائكة ُ والروحُ إليه في يوم ٍ كان مقداره ُ خمسين ألف سنة ٍ ، فاصبرْ صبراً جميلاً >> فطالَ عليَّ الأمدُ واشتدَّ الظمأ ُ والومدُ ، والومد شدة الحر وسكون الريح ، كما قال أخوكم النميري :
كانَّ بيضَ نعام ٍ في ملاحفها
جلاه ُ طل ٌّ وقيظ ٌ ليلهُ وَمَدُ
وأنا رجلٌ مهياف ، أي سريع العطش ، فأفتكرتُ ، فرأيتُ أمراً لا قوامَ لمثلي به . ولقيني الملك الحفيظ بما زُبرَ لي من فعل الخير ، فوجدتُ حسناتي قليلة كالنفأ ِ في العام الأرمل ، والنفأ الرياض ، والأرمل قليل المطر ، إلا أنَّ التوبة في آخرها كأنها مصباح آبيل ( أي راهب ) رُفع َ لسالك سبيل ]].
أين السخرية في هذا القول ؟ وهل فيما قال الرجل شئ من جدية أو إيمان بدين ورب ؟ قام إبن القارح من قبره فحضر أحد أماكن أو مشاهد القيامة على أمل لقيا خالقه وقد قدّم َ للمَلك المسؤول عن التحقيق والمساءلة والمحاسبة كشفاً أو حساب َ ما فعل في دنياه وكل ٌّ يحمل كتابه في يمينه حسب بعض نصوص القرآن . لكنه تذكّر وهيأ نفسه لإنتظار طويل جداً قبل أن يستطيع مقابله ربه . ماذا تذكر ؟ آية ً قرآنية تقول (( تعرجُ الملائكةُ والروحُ إليهِ في يومٍ كان مقدارهُ خمسين ألف سنة ٍ فاصبرْ صبراً جميلاً )) . على الرجل إذا ً أن ينتظر خمسين ألف سنة حتى يصله الدور فيحظى بلقاء وجه ربه . الطريف أنَّ المعري يسمّي مكان الإنتظار هذا
" الموقف " وهو تعبير شائع معروف في عالم الشرطة في العراق في الأقل ... وهو مكان أو غرفة مخصصة لإيداع من عليه تهمة أو وشاية أو قام بمخالفة أو جناية أو جنحة يقيم فيها إنتظاراً لساعة التحقيق معه فيما فعل . الموقف ... أي الحبس المؤقت !! حبس مؤقت في دنيانا لكنه حبس طويل في عرصات القيامة ... حبس يستغرق خمسين ألف سنة . هذه أول نكتة يسخر المعري فيها من عالم البعث والقيامة والحساب وطرق هذا الحساب ولا يستثني من ذلك فكرة الرب نفسها !!
مع رضوان خازن الجنان
بعد هذه المقدمة الساخرة وما إعتورها من فذلكات لغوية لا أرى لها من لزوم ، وستتكرر هذه الفذلكات في الكثير من صفحات رسالة الغفران وسأشير إلى أبشعها وأكثرها بعدا ً عن الضرورة ... بعد المقدمة هذه ينتقل المعري / أو إبن القارح إلى رضوان خازن الجنان فكيف كان لقاؤه برضوانَ هذا وما دار بينهما من حوارات ؟ سألخص الطريف لكني سأثبت الهام جداً حرفياً كما كتبه المعري . نظم أبياتاً في رضوانَ هذا يسترضيه فيها ويجامله بل ويستعطفه ثم أُضطر َّ إلى مدافعة الناس حتى بلغ نقطة منه بحيث يسمعه ويراه ويبدو أنه قد قرأها عليه لكن رضوان تجاهله ولم يأبه به . لم يفقد الأمل ، نظم أبياتاً شعرية أخرى بحيث ينتهي أحدها كقافية بالإسم رضوان (( بانَ الخليطُ ولو طُوِّعتُ ما بانا ... )) وكرر محاولة الدنو من رضوان وقرأ الأبيات الجديدة فلم يعره الأهمية المطلوبة . كتب الكثير من الأشعار التي يمكن إدخال الإسم رضوان في آخر أحد أبياتها فلم يغثه أو لم يفهم هذه الأشعار ولم يقم لها وزناً . فقد إبن القارح ( المعري ) صبره :
[[ دعوتُ بأعلى صوتي : يا رضوانُ ، يا أمين الجبّار الأعظم على الفراديس ، ألم تسمعْ ندائي بك وإستغاثتي إليك ؟ فقال : لقد سمعتك تذكر رضوانَ وما علمتُ ما مقصدك ، فما الذي تطلب أيها المسكين ؟ فأقول : أنا رجل ٌ لا صبرَ لي على الدواب أي العطش ، وقد إستطلتُ مدة الحساب ومعي صك بالتوبة ، وهي للذنوب كلها ماحية ، وقد مدحتك بأشعار كثيرة ووسمتها بإسمك ، فقال وما الأشعار ؟ ... فقلتُ الأشعار جمع شعر وكان أهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات ، فجئتُ بشئ منه إليكَ لعلكَ تأذنَ لي بالدخول إلى الجنة في هذا الباب ، فقد إستطلتُ ما الناسُ فيه وأنا ضعيفٌ مَنين ولا ريبَ أني ممن يرجو المغفرة وتصح له مشيئة الله تعالى.
فقال : إنك لغبين الرأي ! أتأملُ أنْ آذنَ لك بغير إذن ٍ من رب العزة ؟ هيهات هيهات ! ( وأنى لهم التناوش من مكان بعيد / من سورة سبأ ) ]] .
حوار ساخن مؤثر بليغ بين الخازن أو الحارس أو الأمين على الجنان ورجل كبير مريض قد يكون مصاباً بمرض السكري لأنه لا يصبر على العطش يقف بباب الجنة وجهاً لوجه مع الأول حاملاً صكاً بالتوبة أو كتاب براءة وحسن سلوك وعدم محكومية ... يرجوه فيه منه الدخول إلى الجنة لكنَّ حارس الفراديس الأمين يتصلب في موقفه ولا يلين ويرفض طلب الرجل المسن العليل بحجة أنَّ الأمر منوط بقرار رب العزة . رضوان هذا موظف والله ِ نزيه مضبوط لا يحيد عن أصول وقواعد النزاهة والإستقامة في أداء واجبات الوظيفة ، ينفذ فقط ما يأتيه من أوامر ونواه ٍ . صك التوبة لا يكفي لدخول الجنة . هذا الصك بحاجة إلى تزكية وتصديق من لدن رب العالمين ... بحاجة إلى ختم أصلي وتوقيع أو بصمة الإبهام الأيمن . رضوان شرطي أمين صارم لا يخالف أوامر ربه فكم كان مقدار ما يتقاضى من راتب لقاء هذه الوظيفة المتعبة وبأية عملة يقبض مرتباته اليومية كعامل أو الشهرية كموظف أو الأسبوعية على الطريقة الإنجليزية ؟ هل قرأنا سخرية أكثر بلاغة ً من سخرية المعري مما يدور هناك في الأعالي من مهازل وما يُعرض من أفلام هندية وأخرى كارتونية ملونة وبالسينما سكوب ؟
مع زُفَر ، خازن الجنة الآخر
يئس المسكين إبن القارح من رحمة رضوان القاسي الذي لا يفهم الشعر ولا يتقبله كرشوة والشديد الإلتزام بما يمليه ربه عليه فمال إلى خازن ٍ آخرَ إسمه زُفَر لعله يتجاوب مع نداءاته ويستجيب لتوسلاته فيسمح له بالدخول. إتبع ذات المنهج الذي سلك مع رضوان فنظم له أشعاراً كثاراً وسمها بإسمه على وزن ما قال لبيد :
تمّنى ابنتاي أنْ يعيشَ أبوهما
وهل أنا إلا من ربيعة َ أو مُضرْ
أي أن يستبدل كلمة مضر بكلمة زُفر مثلاً ... تجاهله زفر كما فعل رضوان قبله . لم يهتم بما قال من شعر بل وعلّق قائلاً :
[[ لا أشعر بالذي حممتَ أي قصدتَ ، وأحسب هذا الذي تجيئني به قرآن إبليس المارد ولا ينفق على الملائكة ، إنما هو للجان وعلموه ولدَ آدم فما بغيتك ؟ فذكرت له ما أريد فقال : واللهِ ما اقدر لك على نفع ، ولا أملكُ لخلقٍ من شفعٍ ، فمن أي الأمم أنت ؟ فقلتُ من أمة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال : صدقتَ ، ذلك نبي العرب ومن تلك الجهة أتيتني بالقريض ، لآنَّ إبليسَ اللعين نفشه في إقليم العرب فتعلمه نساءٌ ورجال ، وقد وجبَ عليَّ نصحك فعليك بصاحبك لعله يتوصل إلى ما إبتغيتَ ]] .
زفر أفضل من رضوان ، إذ أخلص له النصح مقترحاً أن يتصل بعم النبي الحمزة بن عبد المطلب . زفر أكثر حنكة وذكاءً من زميله رضوان . إنه حكيم ساخر وفيلسوف . يعرف من أين وكيف أتى الشعر ُ أمة َ العرب . ويعرف علاقة الشعر بإبليس الغاوي والمستكبر والمغرور . يعرف ما قال القرآن بالشعر والشعراء . يعرف أن النبي نفسه كان متهماً بأنه شاعر وساحر وكاهن ومجنون فنفى هذه التهم عن نفسه . ثم ، الأكثر طرافة ، فهم زفر ما قرأ إبن القارح له من أشعار لكأنها قرآن !! قرآن إبليس . إنه لا ريبَ يعرف أسماء وأشخاص عدد من عرب الجزيرة ممن إنتحلوا أقوالا تحاكي آيات القرآن من أمثال سجاح ومسليمة الكذاب وغيرهما ممن لا نعرف . ثم في قول زفر إشارة جدَّ ذكية إلى الآيات الشيطانية التي جاءت في سورة النجم (4) من باب المساومة والمناورة العالية الدبلوماسية بين محمد وأبي سفيان ... ثم أُضطر النبي وكان ما زال في بدايات رسالته إلى التنصل عنها وألغائها تحت ضغط زوجه خديجة وعمه العباس كما يذكر المؤرخون ومنهم أخذ سلمان رشدي وقائع فصلين من فصول روايته الآيات الشيطانية المعروفة . (( قرآن إبليس )) !! لمحمد قرآنه ولإبليس قرآنه الخاص . الجان لا الملائكة علموا بني آدم نظم الشعر، وإبليس أشاعه في إقليم العرب خاصة ً فإنتشر بين النساء والرجال على حد سواء !! إنه مقطع شديد التركيز كثير المغازي واضح السخرية من الكثير من الأمور التي تخص المسلمين ودينهم وتصوراتهم حول البعث والجنة . ليس دخول الجنة بالأمر اليسير كما نعلم وكما يخبرنا القرآن دستور المسلمين ولكن أبا العلاء المعري يقارب ثم يدنو كثيراً من أبواب الجنة هازئاً ساخراً ضاحكاً منها ومن حرّاسها الأمناء ومن كافة العقول التي يؤمن أصحابها بيوم فيه يبعثون ويحاسبون ثم يدخلون الجنة أو النار حسب أعمالهم في الدنيا العاجلة . كيف إجترأ هذا الرجل الضرير على قول كل ما قال بهذا الصدد ؟ أما خشيَ العواقب الوخيمة ؟ كيف وقف وحيداً يواجه طواغيت عصره من حكام وسلاطين ورجال دين ؟ أكان عماه شفيعاً ومبرراً لجرأته غير المسبوقة في عالم تأليف الكتب من أمثال رسالة الغفران ؟ كيف مرر هزءَه وسخريته على هؤلاء الحكام وعلى طبقات رجال الدين ووعاظ السلاطين ؟ كيف ؟
مع حمزة بن عبد المطلب
أصغى إبن القارح لنصيحة زُفر فيمم وجهه صوب الحمزة ونظم فيه شعراً جارى فيه أبيات كعب بن مالك التي رثى فيها الحمزة وخاطب صفية عمة النبي وأخت الحمزة :
صفية َ قومي ولا تعجزي
وبكّي النساءَ على حمزة ِ
ثم يقول
[[ وجئتُ حتى وليتُ منه فناديت : يا سيدَ الشهداء ، يا عم رسول الله صلعم ، يا إبن أبي عبد المطلب ! فلما أقبل عليَّ بوجهه أنشدته الأبيات فقال : ويحك ! أفي مثل هذه المواطن تجيئني بالمديح ؟ أما سمعتَ ألآية
" لكل إمرئ منهم يومئذ ٍ شأن ٌ يُغنيه ِ " فقلتُ بلى قد سمعتها وسمعتُ ما بعدها " وجوه يومئذ ٍ مُسفرة ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذ ٍ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكَفرة الفَجرة " فقال إني لا أقدرُ على ما تطلب ، ولكني أنفذ معك توراً أي رسولاً ، إلى إبن أخي علي بن أبي طالب ليخاطبَ النبيَ صلعم في أمرك . فبعث معي رجلاً ، فلما قصَّ قصتي على أمير المؤمنين قال : أين بينتك ؟ يعني صحيفة حسناتي ]] .
هكذا نرى أسلوب المعري في التدرج ملتمساً شفاعة البسيط ثم الكبير الإسم والمسؤولية . تدرجاً منطقياً سلسا لا يجد القارئ فيه تعسفاً أو إفتعالاً أو مشقة لفهمه والإقتناع به . هدف المعري المركزي هو الوصول إلى نبيه بإعتباره الأقرب لمقام الله في الجنة . ليس في طوق عمه الحمزة الوصول إلى إبن أخيه ولكنَّ علياً قادرٌ على ذلك لسببين قويين أولاهما إنه إبن عم النبي وربيبه وثانيهما إنه صهره ، زوج كريمته فاطمة الزهراء . لذا صرفه الحمزة ووجهه إلى علي بن أبي طالب مع رسول .
يغير المعري من سياق رسالة الغفران فيفرد بابا ً يسميه ( مع أبي علي الفارسي ) وهو أحد علماء النحو المعروفين . لم أجد في هذا الباب ما يضيف شيئاً جديداً لأطروحتي ووجهة نظري في فهم وتفسير رسالة الغفران وهي كالقرآن حمّالة أوجه ٍ متعددة متباينة سوى الفقرة الأخيرة فقد وجدت فيها أمرا ً ساخراً هازئا ً مرحاً يستوقف القارئ :
[[ ... وشغلتُ بخطابهم والنظر في حويرهم ( الحوير العداوة والمضادة )
فسقط مني الكتاب الذي فيه ذكر التوبة ، فرجعتُ أطلبه فما وجدته ]] .
هل كتاب التوبة هذا هو البينة التي سأل علي ٌّ إبنَ القارح عنها ففسرها هذا بأنها صحيفة حسناته ؟ أظن ذاك . كيف ضيعها وأين ضاعت منه ثم أليس لديه نسخة ثانية منها كما نفعل في أيامنا هذه ؟
مع الإمام علي
وقفة إبن القارح مع علي فيها الكثير من الطرافة بل والغرابة . هوَّن عليٌّ على إبن القارح من أمر ضياع كتاب توبته لكأنه كان على علم بهذا الضياع . قال له [ لا عليك ، ألك شاهد ٌ بالتوبة ؟ قلت نعم ، قاضي حلب وعدولها ] . يشهد قاضي حلب بعد تردد على صحة توبة علي بن منصور إبن القارح فيتوجه هذا إلى أمير المؤمنين مذكّرا ً إياه بما التمس منه وهنا تحدث مفاجأة غريبة : يعرض عليٌّ عنه بجفاء وخشونة فيقول له [ إنك لترومُ حددا ً ممتنعا ً ولك أسوة ٌ بولد أبيك آدم ] !. ما تفسير هذا الإعراض والطرد وقد سبق وأنْ طالبه أمير المؤمنين بشهادة شاهد على توبته وقد فعل الرجل وأتاه بالشاهد الذي شهد له بالحق على توبته ؟! أفما كان من الأوفق أن يطرد الرجل منذ لحظة اللقاء الأولى بدل تعنيته ومضاعفة شقوته وبلائه خاصة ً وقد ضاع منه كتاب توبته ؟ ثم ، ما تفسير كلام أمير المؤمنين [ ولك أسوة بولد أبيك آدم ] ؟ يدل ظاهر هذا الكلام على تمسك علي ٍّ بمبدأ المساواة بين البشر سواءً أكان المقام أو المناسبة في الدنيا العاجلة أو الآجلة ، على الأرض أو في السماء ، فالبشر متساوون وهم سواء أمام ميزان العدالة . هذا ظاهر القول ، أما الإحتمالات الأخرى المخفية فأراها غير بعيدة عن إحتمال أن يكون قصد الأمير أنَّ ابني آدم تخاصما فقتل أحدُهما الآخرَ ... أي أن َّ الظلم وأنَّ الجريمة َ قديمتان وأنَّ طلب التوبة ليس بالأمر المستجد على بني البشر ... فقد تكون يا إبن القارح أنت نفسك قاتلاً في دنياك رغم شهادة قاضي حلب ببراءتك ونظافة يدك ؟ مَن قال إنَّ القضاة جميعاً نزيهون منزهون لا ينطقون إلا بالحق ؟ فيهم المرتشون وفيهم المنحرفون جنسياً وفيهم السرّاق وفيهم وفيهم فهم في آخر الأمر بشر كباقي البشر . ما كان الأمير واثقاً من براءة وتوبة إبن القارح .
في نهاية هذه الفقرة من المواجهة الساخنة ( الدرامية ) بين علي ٍّ وعلي ، عليٍّ الأمير وعلي ٍّ إبن القارح يعود المعري إلى سخريته اللاذعة التي تحمل أبعد وأعمق الدلالات . أحرج وأخجل موقف أمير المؤمنين إبنَ القارح ، نشف ريقه وشفتاه ، طلب الماء فقال :
[[ وهممتُ بالحوض فكدتُ لا أصل إليه ، ثم نغبتُ منه نغبات ٍ لا ظمأ بعدها ، وإذا الكَفرة ُ يحملون أنفسهم على الوِرد ، فتذودهم الزبانية ُ بعصيٍّ تضطرمُ ناراً ، فيرجعُ وقد إحترقَ وجههُ أو يدهُ وهو يدعو بويل وثبور]]
هل هناك أكثر بلاغة وأروع تعبيراً من هذه الصورة التي شكلها خيال المعري ؟ يطرده صهر الرسول ولا يحقق سؤلته ... يشعر بالحرج وربما بالذل ... يظمأ فيرى نفسه قريباً من حوض الكوثر ... ينجح في تناول شئ من مائه السلسبيل ... يفاجأ بوجود بشرغيره بالقرب منه ساعين بكل جهدهم لتناول بعض ماء الحوض ... يفاجأ أكثر إذ يكتشف أنهم من الكفار ، أي أنه وهم سواسية في الظمأ وفي المصيبة وفي القرب من حوض ماء الخلود ... التائب بشهادة والكافر سواسية . الكل عطاشى فالعطش عنصر آخر يوحد ما بين البشر حتى لو كانوا هناك ... في السماء ينتظرون قرار الحسم في قضاياهم والبت في مصائرهم . [ ... فتذودهم الزبانيةُ بعصيّ تضطرم ُ نارا ً ، فيرجعُ وقد إحترقَ وجههُ أو يدهُ وهو يدعو بويل ٍ وثبور ] . أية سادية مفرطة يمارسها بعض الملائكة المتخصصين بفنون التعذيب والتمثيل بحق المخالفين لشرعة أو دين ربهم ؟ عصيٌّ من نار تحرق الوجوه والأيدي التي تتجاسر فتمتد لأخذ غُرفة ماء ٍ من حوض أبدي لا ينضب ما فيه !! من ذا يلوم يزيدَ بن معاوية أو عبيدَ الله بن زياد أو الحرَّ الرياحي الذين حرّموا الماء على الحسين بن علي ومَن معه في رمضاء الطف قريباً من كربلاء عام 61 للهجرة ؟ كان الحسين مخالفاً ليزيد ومعارضاً لحكم خلافته أي أنه كان ذا موقف ورأي مخالفين كما هو شأن فئة الكفرة مع ربهم الذي سلط عليهم عذابين ، نار العطش ونيران العصي الملتهبة . القوي يختار ويفرض نوع العقوبة على غريمه وخصمه . هذا جزاء الإختلاف مع الحكام في الرأي والمعتقد !!
يأخذنا المِعرّي بعد جولة مفاوضاته الفاشلة مع علي بن أبي طالب إلى زوجه إبنة الرسول فاطمة الزهراء . ها قد إقتربنا رويدا ً رويداً من سدرة المنتهى حيث كرسي العرش وحيث يجلس النبي إلى يمين رب العزة الذي خلق السماوات والأرض في سبعة أيام ثم إستوى على العرش وكان العرش فوق الماء . يتخذ المعري من فاطمة جسراً وسطاً للوصول إلى أخيها إبراهيم وقد أوصلته بالفعل .
مع فاطمة الزهراء
طاف إبن القارح قبل أن يلتقي فاطمةَ وهي تخرج من الجنة للسلام على أبيها إذ يقوم لشهادة القضاء ... طاف على " العترة المنتجبين " وتضرع لهم أن يسألوها في أمره لعلها تسأل أباها فيه . أنقل فقرات مما قال المعري في أمر فاطمة لطرافتها وما فيها من غمزات ولفتات تثير التساؤلات والتفكير في الكثير من أمور ديننا :
[[ ... فلما حان خروجها ونادى الهاتف أنْ غضوا أبصاركم يا أهلَ الموقف حتى تعبرَ فاطمة ُ بنت محمد صلعم ، إجتمع من آل أبي طالب خلق ٌ كثير من ذكورٍ وإناث ، ممن لم يشربْ خمراً ولا عرف قط منكرأ فلقوها في بعض السبيل فلما رأتهم قالت : ما بال هذه الزرافة ؟ ألكم حال تذكر ؟ فقالوا نحن بخير ، إنا نلتذ ُّ بتحف أهل الجنة ، .... وكان فيهم علي ٌّ بن الحسين وإبناهُ محمد وزيد وغيرهم من الأبرار الصالحين . ومع فاطمة ، عليها السلام ، إمرأة أخرى تجري مجراها في الشرف والجلالة فقيل مَن هذه ؟ فقيل : خديجة إبنة خويلد بن أسد بن عبد العُزى ومعها شباب على أفراس من نور فقيل مَن هولاء ؟ فقيل : عبد الله والقاسم والطيب والطاهر وإبراهيم بنو محمد صلعم . فقالت تلك الجماعة التي سألتُ : هذا ولي من أوليائنا قد صحّت توبته ولا ريبَ إنه من أهل الجنة وقد توصل بنا إليك صلى الله عليك ، في أن يُراحَ من أهوال الموقف ويصيرَ إلى الجنة فيتعجلَ الفوز . فقالت لأخيها إبراهيمَ صلى اللهُ عليه ، دونك الرجل فقال لي : تعلّقَ بركابي . وجعلتْ تلك الخيلُ تخلل الناسَ وتنكشف لها الأمم والأجيال . فلما عظُمَ الزَحامُ طارت في الهواء وأنا متعلق بالركاب ]] .
أولاد النبي يمتطون صهوات أفراس من نور !! واحدة من لوحات المعري السوريالية وكان أحدهم إبراهيم الذي عرض على إبن القارح أن يتعلقَ بركابه ، أي بركاب فرس من نور ، فما أكبر حظوة هذا الرجل المرشح لدخول الجنة بتزكية من فاطمة ودعم من أخيها إبراهيم . بعد هذا المقطع يصل إبن القارح لحضرة نبي الإسلام ولسوف نرى ما يؤول إليه مصيره.
الرسول الشفيع
لقد شفع الرسول لإبن القارح بعد أن نظر في سجل عمله في الديوان الأعظم وقد خُتمَ بالتوبة . شفع له وحصلت الموافقة على دخول الجنة . الموافقات النظرية شئ ودخول الجنة شئ آخر . ما زالت أمام الرجل عقبات . تعلّق بركاب إبراهيمَ بعد إنصراف أخته فاطمة فأعانه على بلوغ الصراط المستقيم . هنا يواجه مشكلة أو محنة العبور . تعينه فاطمة الزهراء في أن توظف له خادمة ً إحدى جواريها . وبالفعل ، تساعده الجارية على تخطي العقبة وعبور الصراط ولكن كيف ؟ هنا تبلغ دعابة المعري وروح السخرية وجنوح الخيال أقصى المديات فيخلط الجد بالهزل والجنس غير الطبيعي المبطن بالشعر . وبعد كل هذه الدعابات والنجاح في عبور الصراط يواجه محنة آخرى هي الأخيرة في مسلسل محنه وتمحنه في الحياة الأخرى .
جعل المعري من محنة عبور الصراط فيلماً متحركاً نابضاً بالحياة والرمزية الساخرة لكأنه تعمد بذلك أن يضع أمام قارئه عقدة العقد بالنسبة للدين الإسلامي . فالجنة هي مبتغى المسلمين المؤمنين حيث الحور العين والولدان المخلدون (5) وأنهار الخمر واللبن والعسل والأثمار دانية القطوف والحياة الأبدية . الصراط هو عنق الزجاجة وهو الهدف والطريق لبلوغ الجنة . ليس عبور هذا الصراط بالأمر الهين على بعض الناس ، إذ سوف يقاسي إبن القارح ويعاني من محاولات عبوره بل ويعجز عن العبور لولا مساعدة الجارية .
الصراط
بلغ إبن القارح الصراط لكنه لم يستطع إجتيازه ... ربما لكبر سنه أو لدقة طريق العبور وضيقه أو ربما لفرحة ٍ أو رهبة ٍ تعتري مَن يحاول العبور والجنة في مرمى البصر . لكني أرى أن صاحبنا المعري قد تعمّد فأجاد في تشكيل لوحة عُسرة العبور عقبة ً أخرى تقوم في وجه التائب والمرشح لدخول الجنة . العِقاب كثارٌ فما جدوى التوبة إذا ً وعلام يتوب المخطئ والكافر والزنديق والمُشرك والناكر للدين الإسلامي أصلاً وفصلاً ؟ أم أنَّ الجنة كالفنادق درجات ونجوم ؟ للمؤمن الحق المثالي الذي لم يخالف ربه جنة درجة أولى بسبع نجوم وللمخالف العنيد الذي تاب في دنياه جنة أخرى درجة رابعة بنجمة واحدة مع عذاب وعراقيل وتوسلات ووساطات ؟ ما هذا التفاوت ولِمَ يخدع القرآن ُ المسلمين ؟ يا ناس !! ليس لكم إلا دنياكم !! ما عدا ذلك كذب وهُراء وهلوسات !! لا آخرة ولا من جنة ولا نار !!
أعود لفقرة الصراط فما قال المعري فيها ؟ أقرأها فأغرق في الضحك . رجل بصير يرسم لوحات كاريكاتورية غير مألوفة يمتزج الهزل ُ والهزءُ فيها بالشعر والأخيلة التي لم تمر بخاطر بشر قبل المعري . سأنقل من هذه الفقرة اللوحات الأكثر طرافة وأهمية :
[[ ... قيل لي هذا الصراط ... فبلوتُ نفسي في العبور فوجدتني لا أستمسك فقالت الزهراء صلعم لجارية ٍ من جواريها يا فلانة ُ أجيزيه فجعلت تمارسني وأنا أتساقط ُ عن يمين ٍ وشَمال فقلتُ يا هذه ، إنْ أردتِ سلامتي فاستعملي معي قولَ القائل في الدار العاجلة :
ست ُ إنْ أعياكِ أمري
فاحمليني زقفونة ْ
فقالت وما زقفونة ْ ؟ قلت أنْ يطرحَ الإنسانُ يديه على كتفي الآخر ويُمسكُ الحاملُ بيديه ويحمله وبطنه إلى ظهره ، أما سمعتِ قول الجحجول من أهل كفرطاب :
صلحت حالتي إلى الخلفِ حتى
صرتُ أمشي إلى الورى زقفونة ْ
(( لعل الأصل والصواب هو : إلى الورا أي إلى الوراء بدل الورى والفرق كبير وواضح / الملاحظة مني )) .
... فتحملني وتجوزُ كالبرق الخاطف . فلما جزتُ قالت الزهراء عليها السلام : وهبنا لك هذه الجارية فخذها كي تخدمك في الجنان ]] .
ما الذي جعل المعري أن يركب هذا المركب الصعب فيفتعل العجز عن عبور الصراط ليستعينَ على العبور بظهر إمرأة بدل ظهر رجل ؟ أوليس في هذه الصورة الكثير من الجنس والتوق للمرأة التي حرّم نفسه منها في حياته ؟ كان في إمكانه القول على سبيل المثال إنَّ الجارية قادته من ذراعه أو أركبته جحشاً أو مهراً من مهاري الجنة بدل أن تعرض ظهرها له فيمتطيه !! أي رجل لا يتهيج جنسياً وهو على ظهر إمرأة من نساء الجنة والجنة ونساؤها قد أُعدت للمتقين ؟؟!! هذا هو منهج أبي العلاء وموقفه من مسألة الجنة . إنه يراها بحق مقلوب الأرض . إنها محض أحلام وأمنيات محرومين للطعام والجنس والشراب والنعيم السرمدي . فالقبيح على الأرض ، كحال حمدونة ، جميل هناك في الجنان والأسود ، كما هو حال توفيق السوداء يغدو أبيض ناصعاً بلون الكافور{ المصدر الأول ص 123 } وعبور الصراط لا يصح إلا بركوب ظهر وركوب الظهر شذوذ جنسي مزدوج فيما يخص النساء . ثم ، ( وهبنا لك هذه الجارية ) !! أبهذا الأسلوب الرخيص يتم التعامل مع النساء ؟ يدخل الرجل الجنة ومعه إمرأة فكيف سيكون حاله حين تطأ قدماه أرض هذه الجنة مع بقية النساء من الحور العين اللواتي لم يطمثهن َّ أو يطأهن َّ إنسٌ ولا جان ... خفيضات الطرف كأنهن َّ الدر المكنون ؟
هل إنتهت رحلة إبن القارح وهل بلغ مركز الجنة المبتغى ؟ كلا ! سيجد عقبة أخرى أمامه . سيقابل الخازن رضوان الذي كان أول من قابلَ وسأله الإذن بدخول الجنة . سيطلب منه جوازَ مرور كما يحصل معنا في هذه الأيام لدى محاولتنا عبور حدود دولة إلى أخرى ( باسبورت ) .
هل معك جواز ؟
[[ فلما عبرتُ إلى باب الجنة قال لي رضوان : هل معك جواز ؟ قلت لا ، قال لا سبيلَ لك إلى الدخول إلا به ]] .
ينقذه إبراهيم من ورطته الأخيرة هذه فيدخله الجنة .
الدخول إلى الجنة
[[ وإلتفتَ إبراهيمُ صلى الله عليه فرآني وقد تخلفتُ عنه فرجعَ إليَّ فجذبني جذبة ً حصلني بها في الجنة ]] .
إستغرقت رحلة العذاب هذه ستة أشهر من شهور دنيانا حسب تقرير المعري قضاها في الموقف إياه ، موقف المحجوزين والمحجور عليهم في إنتظار محاكمتهم والنظر في أمرهم !!
ملاحظات عابرة
تطرق المعري في رسالته إلى أمور لغوية لا قيمة كبيرة لها ولا من طرافة . فلقد تساءل عن وزن " أوِزّة " على سبيل المثال { المصدر الأول ص 121 }... يسمي العراقيون الأوزة " وزّة " لا أكثر ، تماماً كما يسمون الأرز / أرزْ " رُزْ " بحذف الهمزة ولا نجد في ذلك أية مشكلة أو إعواص . كذلك يتعسف المعري فيشتق من كلمة أعجمية لعلها فارسية ... يشتق مصدراً ومن المصدر يشتق فعلَ ماض ٍ وفعلَ حاضر ... أعني " زبرجد " وهو إسم أحد الأحجار الكريمة { المصدر الأول ص 100 } علماً أن كثرة من الناس تسمي هذا الحجر " زُمَرّدْ " وهذا قريب من التسمية بلغات أخرى ، فهو في الألمانية " زمراكد " وبالأنجليزية " إيزمرالد " وبالإيطالية " زمرالدو " . فكيف إشتق المعري مصدراً من " زبرجد " ؟ حذف حرف الدال فكان المتبقي " زَبرَج ْ " وقال هذا هو المصدر ... ثم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك وأشد تعسفاً فإشتق فعلاً ماضياً من هذا المصدر وقال " زَبرَجَ " وإشتق فعلاً مضارعاً فقال " يزبرجُ " . معلوم أنَّ لكل فعل فاعل ، تُرى ، ما هو فاعل الفعل زَبرَجَ ؟ وما معنى هذا الفعل إذ لكل فعل معنى أو أكثر ؟
هوامش
أولا ـ كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري (( دار الكتب العلمية . بيروت . الطبعة الأولى 1990 )) .
ثانياً ـ طه حسين (( كتاب من تأريخ الأدب العربي . الجزء الثالث / تجديد ذكرى أبي العلاء . دار العلم للملايين . الطبعة الثالثة 1980 )) .
ثالثاُ ـ ديوان المتنبي (( دار بيروت للطباعة والنشر . 1980 / الصفحة 436 )) .
رابعاً ـ سورة النجم // ذكر بعض المؤرخين أن آيتين أو ثلاث وردت في سورة النجم ثم أسقطها النبي محمد بدعوى أنها جاءت من وحي الشيطان وليس من وحي جبريل الوسيط بينه وبين ربه . إنها الآيات الشيطانية ... آيات سلمان رشدي ... أذكر منها : تلك الغرانيق العُلى . وإنَّ شفاعتهن َّ لتُرتجى . وقد جاءتا قبل الحذف في سورة النجم بعد الآيتين : أفرأيتم اللاتَ والعُزى . ومناةَ الثالثة َ الأخرى .
خامساً ـ لقد كثر في القرآن ورود ذكر الوالدان المخلدين ، الأمر الذي أثار في رأس المِعرّي بعض الأسئلة وبعض الشجن . ففي المحاورة بين إبن القارح وإبليس { المصدر الأول ص 137 و 138 }يقول الأول لإبليس :
[[ إنَّ الخمرَ حرِّمت عليكم في الدنيا وأحلت لكم في الآخرة ، فهل يفعل ُ أهل الجنة بالولدان المخلدين فعلَ أهل القريات ؟ فيقول : عليك البهلة " أي عليك اللعنة " ، أما شغلك ما أنت فيه ؟ أما سمعتَ قوله تعالى : ولهم فيها أزواجٌ مطهرة ٌ وهم فيها خالدون ؟ ]] .
أي أمر تركه المعري ولم يطرقه أو يناقشه أو يسأل فيه ؟! عجيب أمر هذا الرجل الأعمى المكتفي بغيره ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق