أهم سمات حكم الأنظمة الدكتاتورية هو غياب الشفافية وانعدام المسائلة؛ والتى بغيابهما تصبح البيئة مهيئة لميلاد الفساد؛ فيبدأ نبتة صغيرة غير مرئية داخل أروقة النظام السياسى وسرعان ما ينمو ويتشعب داخل كل مؤسسات الدولة؛ لتتآكل شئ فشئ كل القيم الأخلاقية فى المجتمع؛ ورغم الحرص العبثى لتلك الأنظمة الدكتاتورية وخاصة تلك الحكيمة منها على تعطيل وصول الفساد للنظام القضائى قدر الإمكان إلا أن فايروس الفساد يصله لا محالة، وذلك بدفع من قوة القصور الذاتى لأى مؤسسة فى المجتمع أمام انحدار النظام الدكتاتورى، ومع انهيار النظام تكون الدولة أشبه بهيكل عظمى يتنفس به بقايا من روح تراهن الثورات على قدرتها على الصمود مستقبلاً، وهذه هى روح التعايش الحضارى المتصل على الأرض للكيان السياسى للدولة، وهى الرابطة الخفية الوحيدة التى تمنع إنهيار الكيان السياسى رغم فداحة عبث الأنظمة الدكتاتورية فى مصير ومستقبل مجتمعاتها، تلك القوة الخفية التى تظهر فى اللحظات الحرجة للأمم وتوقف الانهيار .
لقد رأينا تلك الروح تتجسد فى الجمهورية الروسية عقب سقوط الاتحاد السوفيتى، حيث بقيت روسيا النواة الصلبة بروح تاريخها للتعايش الحضارى المتصل عبر التاريخ؛ وسقطت الإمبراطورية الشيوعية؛ ومن قبلها الإمبراطورية القيصرية؛ لكن روسيا بقيت ونهضت من جديد؛ وأخذت ميراثها المستحق من الإمبراطويات العابرة.
ومثال آخر التجربة الألمانية حيث منعت تلك الروح انهيار ألمانيا بعد سقوط الامبراطورية البروسية؛ وبعد هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى وسقوط الامبراطورية النازية فى الحرب العالمية الثانية، ورغم أن الأنظمة الدكتاتورية الحاكمة الملكية والنازية تركت ألمانيا عشية سقوطها أثراً بعد عين؛ لكن قوة روح التعايش الحضارى المتصل الألمانية استطاعت النهوض مجدداً، وأعادت توحيد ألمانيا بعد قرابة نصف قرن من التقسيم بين ألمانيا الشرقية والغربية على يد المستشار هولمتكول؛ والذى لم يشفع له هذا الانجاز التاريخى فى ملاحقته قضائياً فى قضايا فساد فى نظام الحكم الألمانى الديمقراطى العادل.
وكذلك فرنسا التى غيرت بثورتها العقل الأوروبى والعالمى؛ وعبرت من عصور الظلام نحو عصر التنوير والجمهورية الديمقراطية رغم بحور الدماء التى سالت فى خضم ثورتها؛ إلا أنها فى النهاية عبرت نحو المستقبل بقوة روح التعايش الحضارى المتصل للشعب الفرنسي، وحالها حال الأمة اليابانية والبولاندية وشعوب عدة تمثل نماذج مماثلة؛ تؤكد أن روح التعايش الحضارى المتصل الكامنة؛ والتى لا تظهر الا فى اللحظات التاريخية الصعبة؛ هى فقط التى تحمى الأمم من الاندثار سواءً على أيدى أنظمتها الدكتاتورية؛ أو من غزو الأنظمة المماثلة الخارجية .
وفى المقابل سطر التاريخ نماذج سقوط لدول وتفكك لمجتمعات بسبب دكتاتوريات أنظمتها أو بسب غزو لأنظمة دكتاتورية خارجية؛ والعديد منها لم يبقى منها إلا سطور فى كتب التاريخ الدولة السوفيتية ويوغسلافيا نماذج ماثلة ورغم الاختلاف فى طريقة تفكك الدولتين سلميا ودمويا إلا أن انهيار النظامين الدكتاتوريين فى كلا الدولتين كان سيؤدى حتما لتفكك الدولتين لكيانات سياسية لأن روح التعايش الحضارى المتصل عبر التاريخ لم تكن موجودة، وكانت قوة النظام الدكتاتورى هى الرابط الوحيد للكيان السياسى، وتلك القوة ليس بمقدورها حتى وإن طال عمرها أن تخلق روح التعايش الحضارى؛ بل على العكس فهى معول هدم لحاضر ومستقبل تلك الأمم، وتاريخياً تعد الإمبراطورية العثمانية ومن قبلها العباسية والأموية نموذج آخر لنظام الحكم الدكتاتورى الشمولى الثيوقراطى، ظاهرياً العلمانى المتطرف وواقعيا الأفشل تاريخياً فى صياغة روح التعايش الحضارى المتصل بين شعوبه، وليس أدل على ذلك من موجات الفتن الدموية و حركات الانفصال التى بدأت باكراً فى الدولة الأموية بدولة عبدالله ابن الزبير فى الحجاز؛ وحتى دولة محمد على باشا فى مصر أواخر حكم الامبراطورية العثمانية لما يزيد عن ألف عام من الانحدار الحضارى؛ والتى كانت نتيجته ما نراه اليوم من حال أمة اسلامية كانت أكثر الأمم المؤهلة تاريخياً، بحيازة أعظم قوة لروح التعايش الحضارى المتصل، لكن فساد أنظمتها الدكتاتورية المتعاقبة أرداها فى قاع سحيقا فى ذيل الأمم، لدرجة أن ما يزيد عن ألف عام لم يكن بمقدوره إيجاد دولة تمثل أى نواة صلبه لتلك الإمبراطورية، وبقيت أقاليمها تحتفظ بروح التعايش الحضارى المتصل بفعل حضارات سابقة كالدولة المصرية والدولة الفارسية (ايران) اللتان زاد الحقبة الاسلامية من روح التعايش الحضارى المتصل لكليهما ضمن حدودهم السياسية التاريخية .
مظاهر أخرى لروح التعايش الحضارى المتصل؛ نجدها اليوم لا زالت ماثلة فى الحالة الفلسطينية؛ الذى أقتلع شعبها من أرضه وشرد فى أسقاع المعمورة لصالح شعب مصطنع لكن الفرق بين المصطنع والطبيعى أن شعب فلسطين لديه روح التعايش الحضارى المتصل على أرضه؛ تلك الروح التى لا يملكها ما يعرف زيف بشعب الله المختار بروح التعايش الحضارى؛ بتلك الروح صمد ما تبقى من شعب فلسطين متماسكا على أرضه؛ ولولاها ما بقى لفلسطين ذكر حتى بسطر فى كتب التاريخ؛ وبرغم ما فعلته اسرائيل وما تفعله سيبقى الفلسطينى هنا حتى لو عُزل فى كنتونات فى الضفة؛ أو مناطق داخل ما يعرف بالخط الاخضر؛ أو حوصر فى غزة أو شرد فى الشتات . هناك قوة كامنة خفية روح توحده إنها روح التعايش الحضارى المتصل لقرون على أرضه؛ تلك التى يفتقدها عدوه الذى لم تجمع فكرته الصهيونية أكثر من ثلث شعبه المختار ليعود لكيانه الذى لا تجمعهم على هذه الأرض إلا قوتهم ورفاهية عيشهم؛ أما روح التعايش الحضارى المتصل تاريخيا مع هذه الأرض فلا وجود لها بينهم فجلهم يحمل جواز سفر آخر لدولة الجذور
إن الدكتاتوريات تُهدم وإن شيدت قصورها وارتفعت .. فطوبها من جليد أحمر .. مائه دماء الشعوب التى لا محال ستسخن يوماً ما لينهار البنيان من قواعده .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق