أقلّيات إثنية في أمَّة مُجزّأة/ صبحي غندور

نجد على امتداد الأرض العربية محاولات مختلفة الأوجه، ومتعدّدة المصادر والأساليب، لتشويه معنى الهويّة العربية، ولجعلها حالة متناقضة مع التنوّع الإثني والديني الذي تقوم عليه الأمّة العربية منذ قرونٍ عديدة.
مشكلة "الأقلّيات الإثنية" في عدّة أوطان عربية ترتبط بالفهم الخاطئ للهويتين الوطنية والعربية، حيث يعتقد البعض بأنّ الحلّ لهذه المشكلة يقتضي "حلولاً" انفصالية كالتي حدثت في جنوب السودان وفي شمال العراق، وكالتي يتمّ الآن الحديث عنها لمستقبل عدّة بلدان عربية. وهذا الأمر هو أشبه بمن يعاني من مرضٍ في الرأس فتُجرَى له عملية جراحية لبتر أحد اطرافه!!. إذ أساس مشكلة غياب "حقوق بعض الأقليات" هو انعدام مفهوم المواطنة ورداءة الوضع الدستوري، وليس قضية "الهويّة". ففي الولايات المتحدة نجد اعتزازاً كبيراً لدى عموم الأميركيين بهويتهم الوطنية الأميركية (وهي هُويّة حديثة تاريخياً)، رغم التباين الحاصل في المجتمع الأميركي بين فئاته المتعدّدة القائمة على أصول عرقية وإثنية ودينية وثقافية مختلفة. فمشكلة الأقلّيات موجودة في أميركا لكنّها تُعالج بأطر دستورية وبتطويرٍ للدستور الأميركي، كما حدث أكثر من مرّة في مسائل تخصّ مشاكل الأقلّيات، ولم يكن "الحلّ الأميركي" لمشاكل أميركا بالتخلّي عن الهويّة الأميركية المشتركة ولا أيضاً بقبول النزعات الانفصالية أو تفتيت "الولايات المتّحدة". 
عجباً، كيف مارست الإدارات الأميركية المختلفة وبعض الدول الغربية سياسة في المنطقة العربية تتناقض مع خلاصات تجاربها الخاصّة، وكيف شجّعت على تقسيم الشعوب والأوطان وعلى إضعاف الهويّة العربية عموماً بينما رفضت هذه الدول دعواتٍ انفصالية في مجتمعاتها، كما حدث مؤخّراً في إسبانيا وقبلها في بريطانيا وفرنسا وفي حقبة الحرب الأهلية الأميركية!. 
طبعاً لم يكن القصد البريطاني والفرنسي من رسم الحدود بين أجزاء الأرض العربية، في مطلع القرن العشرين، مجرّد توزيع غنائم بين الإمبراطوريتين الأوروبيتين آنذاك، والذي جرى من خلال الاتفاقيات المعروفة باسم "سايكس- بيكو"، بدلالة أنّ البلدان العربية التي خضعت لهيمنة أيٍّ منهما تعرّضت هي نفسها للتجزئة، فالهدف الأول من تلك التجزئة كان إحلال هويّاتٍ محلّية بديلاً عن الهويّة العربية المشتركة، وإضعافاً لكلّ جزء بانقسامه عن الجزء العربي الآخر.
ورافقت هذه الحقبة الزمنية من النصف الأول من القرن الماضي، محاولات فرض التغريب الثقافي بأشكال مختلفة على عموم البلدان العربية، والسعي لزرع التناقضات بين الهويّات الوطنية المستحدثة وبين الهويّات الأصيلة فيها كالعروبة الثقافية، ثمّ أيضاً بين العروبة والدين في أطر الصراعات الفكرية والسياسية.
وقد تميّزت الحقبة الزمنية اللاحقة، أي النصف الثاني من القرن العشرين، بطروحات فكرية وبحركات سياسية يغذّي بعضها أحياناً المفاهيم الخاطئة عن الوطنية والعروبة والدين، أو لا تجد في فكرها الآحادي الجانب أيَّ متّسعٍ للهويّات الأخرى التي تقوم عليها الأمَّة العربية. فهويّة الأمّة العربية هي مزيج مركّب من هويّات (قانونية وطنية) و(ثقافية عربية) و(حضارية دينية). وهذا واقع حال ملزِم لكل أبناء البلدان العربية حتّى لو رفضوا فكرياً الانتماء لكلّ هذه الهويّات أو بعضها.
إنّ ضعف الولاء الوطني لدى بعض الناس يجعلهم يبحثون عن أطر فئوية بديلة لمفهوم المواطنة الواحدة المشتركة، وربّما لاستخدام العنف من أجل تحصيل "الحقوق"، كما نجد من يراهنون على أنّ إضعاف الهويّة الثقافية العربية أو الانتماء للعروبة بشكل عام، سيؤدّي إلى تعزيز الولاء الوطني، أو من يريدون إضعاف التيّارات السياسية الدينية من خلال الابتعاد عن الدين نفسه.
إنّ الفهم الصحيح والممارسة السليمة لكلٍّ من "ثلاثيات الهوية" في المنطقة العربية (الوطنية والعروبة والدين) هو الحلُّ الغائب الآن في أرجاء الأمَّة العربية. وهذا "الحل" يتطلّب أولاً نبذاً لأسلوب العنف بين أبناء المجتمع الواحد مهما كانت الظروف والأسباب، وما يستدعيه ذلك من توفّر أجواء سليمة للحوار الوطني الداخلي، وللتنسيق والتضامن المنشود مستقبلاً بين الدول العربية.
إنّ الدين يدعو إلى التوحّد ونبذ الفرقة. إنّ العروبة تعني التكامل ورفض الانقسام. إنّ الوطنية هي تجسيد لمعنى المواطنة والوحدة الوطنية. فأين نحن من ذلك كلّه؟.
إنّ ضّعف الولاء الوطني يُصحَّح دستورياً وعملياً من خلال المساواة بين المواطنين في الحقوق السياسية والاجتماعية، وبالمساواة أمام القانون في المجتمع الواحد، وبوجود دستور يحترم الخصوصيات المكوّنة للمجتمع. 
كذلك هو الأمر بالنّسبة للهويّة العربية، حيث من الضروري التمييز بينها وبين ممارسات سياسية سيّئة جرت من قبل حكومات أو منظمات أساءت للعروبة أولاً وإن كانت تحمل شعاراتها. فالعروبة هي هويّة ثقافية جامعة لا ترتبط بنظام أو حزب أو مضمون فكري محدد، وهي تستوجب تنسيقاً وتضامناً وتكاملاً بين العرب يوحّد طاقاتهم ويصون أوطانهم ومجتمعاتهم. 
ما حدث ويحدث في العقود الثلاث الماضية يؤكّد الهدف الأجنبي بنزع الهويَّة العربية، عبر استبدالها بهويّة "شرق أوسطية"، بل حتّى نزع الهويّة الوطنية المحلّية والاستعاضة عنها بهويّات عرقية ومذهبية وطائفية .. وفي هذا التحدّي الأجنبي سعيٌ محموم لتشويه صورة الإسلام والعروبة معاً، من أجل تسهيل السيطرة على الأوطان العربية وثرواتها.
فأن يكون العرب أمَّةً مستباحة لحينٍ من الزمن، فهذا مردّه لضعفٍ وعطبِ في الداخل، ولجبروت الخارج. لكن عدم علاج الضعف وإصلاح العطب هو الذي سيتيح للخارج دوماً فرصة التدخّل والهيمنة وإشعال الفتن الداخلية.
المؤلم في واقع الحال العربي أنّ الأمَّة الواحدة تتنازع الآن فيها "هويّات" مختلفة على حساب الهويّة العربية المشتركة. بعض هذه الهويات "إقليمي" أو "طائفي"، وبعضها الآخر "أممي ديني أو عولمي اقتصادي"، كأنَّ المقصود هو أن تنزع هذه الأمَّة ثوب هويّتها ولا يهمّ ما ترتدي من بعده، من مقاييس أصغر أو أكبر، فالمهمُّ هو نزع الهويّة العربية!.
ما أهمّية الحديث عن "الهُويّة" وعن "الإقليات" في هذه المرحلة؟ وما علاقة هذا الموضوع في تطوّرات خطيرة تشهدها المنطقة العربية؟ الإجابة تكمن في تحليل ظاهرة الانقسامات الطائفية والإثنية التي تعيشها البلدان العربية، والتي هي تعبيرٌ عن عمق مشكلة غياب الفهم الصحيح للدين وللهويّة الوطنية والقومية، وبالتالي فإنّ مسألة "الهويّة العربية" هي قضية معاصرة عنوانها كيفيّة المحافظة على الهويّة الوطنية الواحدة في إطار الثقافة العربية المشتركة، مقابل محاولات الفرز الطائفي والمذهبي والإثني داخل الأوطان العربية.
إنّ مشكلة "الهويّة العربية" نابعة من هذا الانفصام الحاصل بين وجود ثقافة عربية واحدة وعدم وجود دولة عربية واحدة. فشعوب العالم يشترك البعض منها في حضارات، لكن هناك خصوصيات ثقافية لكل شعب، حتّى لو اشترك مع شعوبٍ أخرى في حضارة واحدة، كما هو حال الحضارة الغربية الآن التي تنضوي تحت مظلّتها ثقافاتٌ متعدّدة. 
إنّ معظم شعوب العالم اليوم تكوّنت دوله على أساس خصوصيات ثقافية، بينما الثقافة العربية لا يُعبّر عنها بعدُ في دولةٍ واحدة. ونجد الآن داخل الجسم العربي من يُطالب بدول لثقافات إثنية (كحالة الأكراد والأمازيغيين، وكما جرى في جنوب السودان) بينما الثقافة العربية الأم نفسها لا تتمتّع بحالة "الدولة الواحدة". وصحيحٌ أنّ هناك خصوصياتٍ يتّصف بها كلُّ بلد عربي، لكن هناك أيضاً أزمات يشترك فيها كل العرب أو تنعكس آثارها على عموم أقطار الأمَّة العربية، وهي مشاكل وأزمات تؤثّر سلباً على الخصوصيات الوطنية وعلى مصائر شعوبها. لذلك هناك حاجةٌ ماسَّة الآن للانطلاق من رؤية عربية مشتركة لما يحدث في الأمّة العربية وعدم الانشداد فقط للهموم الخاصّة بكلّ بلدٍ عربي، وبالتالي العمل من أجل نهضة عربية مشتركة، كما هي الحاجة أيضاً لبناء خطاب وطني توحيدي داخل الأوطان نفسها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق