لا يسعني سوى أن أتذكر رواية "الأمال الكبرى" رأئعة الأديب العظيم تشارلز ديكينز كلما نظرت لما يحدث في منطقتنا العربية و كلما تمعنت في أحوالنا. لطالما كان يدهشني بطل الرواية الذي كان يعيش وهما من نسج خياله بنى عليه احلاما و طموحات لم تلبث سوى أن انهارت و تبددت بعد سنوات و سنوات من أوهام حياة لم توجد سوى في مخيلته هو وحده و مبنية على قراءة خاطئة للواقع تماما كما هو حالنا كعرب.
في ظل عالم يشهد تراجع الدور الأمريكي الجيوسياسي و الاقتصادي بل و حتى الاجتماعي لا يزال العرب يراهنون على الولايات المتحدة و اللوبي الصهيوني الذي يديرها. في ظل مرحلة مفصلية و دقيقة من التاريخ المعاصر تتبدل فيها القوى و النظام العالمي لايزال العرب يحرصون على تعميق الارتباطات الجيوسياسية بالولايات المتحدة و يفتحون باب التنافس على خطبة الكيان الصهيوني الإقليمي متخيلين أن هذا الخيار هو صمام أمن الأنظمة بالرغم من كل ما جرى في سوريا و برهن عكس تلك النظرية حيث أن الولايات المتحدة و حلفائها العرب و الأوروبيون فشلوا جميعا في اسقاط نظام الرئيس بشار الأسد الذي بات يسيطر على أغلب الأراضي التي فقدها و الذي على حسب تصريحات وزير الدفاع الروسي شويجو و الرئيس فلاديمير بوتين سوف يسيطر على تسعين بالمئة من الأراضي التي فقدها قبل نهاية هذا العام الجاري.
رؤوا – العرب- بأم العين كيف أن الولايات المتحدة و الصهيونية التي تديرها يبتلعون حلفائهم واحدا تلو الآخر بدءا – في المنطقة- بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي أيده الغرب لمحاربة الثورة الإسلامية في إيران و غضوا الطرف عن كل مساوئ نظامه. ابتلعوا الرئيس الراحل معمر القذافي على الرغم من التسويات الليبية الغربية و الصفقات التي صبت لصالح الغرب و الدور المصري في ليبيا إبان حكم الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك. ثم لتعصف بنا الأزمة الخليجية التي تستفيد منها الولايات المتحدة "رايح جاي" تستفيد من قطر و أموالها و المملكة البحرينية و السعودية و الإمارات و أموالهم، هذا بعد أن كادت الولايات المتحدة أن تبتلع المملكة السعودية و أموالها بقانون "جاستا" للإرهاب و الذي كاد أن يفضي بإدارة أوباما إلى أن تستولي عنوة على أموال السعودية تحت ذريعة دور المملكة المزعوم في أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، إلا أن إدارة ترامب وجدت مخرجا أفضل لهذا و لايزال يقود إلى نفس الهدف و هو ابتلاع الأموال السعودية في النهاية لكن بطرق مختلفة أكثر سلمية و دبلوماسية. فبغض الطرف عما أخذته إدارة ترامب عيانا من أموال برضى العائلة الحاكمة و التي بات يتكشف عن أنها لم تكن إلا طريقة و صفقات ثمنها إغماض عين الولايات المتحدة عن تسليم المملكة إلى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رغما عن أنوف أمرائها بمن فيم و ممن كان لابد أن يكون الوريث الشرعي و المقدم للعرش. و ما كانت تلك الأموال إلا صفقة لحث الولايات المتحدة لغض الطرف عما كانت دول المقاطعة تحيكه لدولة قطر و محاولة إدانتها.
لم يدرك العرب جميعا- أو أدركوا- لأكثر من مرة أن الولايات المتحدة ابتلعت أموالهم و ورطتهم في اليمن و سوريا و هناك احتمالية بأن تمتد تلك الورطة إلى لبنان بصورة أو بأخرى، ليحاربوا أو ينفقوا على حروبا الخاسر الأكبر فيها هم العرب أنفسهم و المنطقة، و الرابح الأكبر منها هم اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، و الولايات المتحدة و الكيان الصهيوني على حد سواء. أصبح العرب وكلاء الولايات المتحدة في حروبها كما كان بعضا منهم كذلك في أفغانستان إبان الحرب الباردة ضد الإتحاد السوفيتي لكن مع فوارق خطيرة أهمها أن العرب هذه المرة هم من يحاربون العرب و المسلمين، يخربون بيوتهم بأيديهم و يدمرون آخر أرقى صورة من صور التعاون العربي الحقيقي المحترم و النادر و الذي عرف بمجلس التعاون الخليجي. أصبح العرب أعداء أنفسهم بعد أن انقادت قيادات العالم العربي وراء الطموح الأخرق و حب الذات و التفرد بصناعة القرار على حساب الشعوب، و ليس مستغربا أن الولايات المتحدة حتى هذه اللحظة تحجم عن تصنيف قطر دولة إرهابية داعمة للإرهاب رسميا لتتمادى في حلب كنوز جميع الأطراف الخليجية المتورطة، و التي هدمت بيت مجلس التعاون الخليجي برؤيتها الضيقة و كفاف بصرها السياسي. تغامر دولة مثل الإمارات بمركزها الاقتصادي الدولي و فرصها المستقبلية في أن تصبح قوة اقتصادية عالمية فاعلة و إن كانت ناعمة بعد أن تورطت في إعادة تشكيل المنطقة بقوتها الإقتصادية و تدخلها في دول الربيع العربي، و مباشرة أو عسكريا في اليمن الذي بات يوحي أن دول النفط لن تخرج منتصرة منه أبدا. بات العرب يحاربون أنفسهم و باتت المنطقة التي كان يجب أن تكون أكثر المناطق استقرارا، باتت ساحة لحروب من المرجح جدا أن تمتد إلى نطاق أوسع و قد تجر إيران و حزب الله و الذان قد يجران روسيا و الصين بأكثر مما انجروا بالفعل في المنطقة ليتحول الشرق الأوسط إلى ميدان حرب عالمية نووية.
تتذرع الأنظمة العربية ضيقة الأفق بالتدخل الإيراني في المنطقة لتبرير عدوانية أنظمتها و فشلها الجيوسياسي و الاقتصادي و الاستراتيجي لكن ألم يفتح خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي الباب خلفه تاركا خلف مصر القضية الفلسطينية و الأراضي السورية المحتلة، و الذان أفضى إلى فراغ جيوسياسي إقليمي في المنطقة أدى إلى احتلال جنوب لبنان فيما بعد لتتشكل أولى إرهاصات المقاومة و أذرع إيران في المنطقة و أتحدث عن حركة أمل حزب الله، و نضيف على كل ما سبق تقزم مصر و انكماشها لفترة تناهز النصف قرن و لا تزال أراضي سوريا و لبنان و فلسطين ترزخ تحت الإحتلال الصهيوني! ألم يكن الدور العربي النفطي أحد أهم ركائز التدخل الصهيو-أمريكي في سوريا بذريعة مساندة الثورة السورية ضد نظام الرئيس بشار الأسد! ألم يكن ذلك الدور المنقاد و الأعمى هو سبب رجوع روسيا للمنطقة و بقوة غير مشهودة ليست فقط منذ انهيار الإتحاد السوفيتي بل منذ فترات بريجينيف و جورباتشوف أنفسهم بما لم يكن يحسب له حساب أي من أنظمتنا الفذة لتقلب عليهم روسيا الطاولة و لتخرجهم من سوريا مدحورين بعد إنفاق المليارات و تحمل عار الهزيمة و التآمر ضد بلد عربي مسلم. ألم يكن نفس الدور هو سبب تمكين إيران و حزب الله بصورة غير مسبوقة! ألم ينقلب السحر على الساحر؟! إذا فلماذا نلوم إيران؟ من يلام هم العرب أنفسهم بعماهم الجيوسياسي و الذين يصلحون أخطائهم إلا بأخطاء أفدح و أفجع لأنهم لا يرون بعد كل هذه العقود أن المشكلة هي في طريقة تفكيرهم و آليات صنع القرار و انعدام الديموقراطية و أسس أمنهم القومي وركائزه، لذلك تتكرر الأخطاء و تكون عواقبها وخيمة في كل مرة بصورة أكبر من كل مرة، و ستتكرر كما قلنا حتى تفنى الأنظمة العربيةنفسها بنفسها، و تترك الساحة لنظام عالمي الجديد بدونهم، و لشعوبهم التي ستتحرر في تلك الحالة ليصبح العالم العربي أكثر أمنا و سلاما بدونهم.
الأخطر، أنه لا أحد في العالم العربي له رؤية استراتيجية للعالم العربي أو حتى دولته في عصر مابعد الولايات المتحدة -و الكيان الصهيوني- التي باتت قاب قوسين أو أدنى من أن ترسم نهايتها كقطب أوحد للعالم أو أنها لم تعد قطب العالم الأوحد بالفعل و أن هناك معسكر بديل بات رابحا و يصعد بقوة أمام أعين الجميع عدى أعين الأنظمة العربية التي لا ترى سوى الولايات المتحدة، و مجدها الذاتي و استقرارها الزائفين.حكمت تلك الأنظمة منذ عقود نشأت و انهارت و صعدت أمم فيها، و نحن محلك سر. كان فيها الإتحاد السوفيتي قوة عظمى أكثر تعاونا و عونا للعرب و القضايا العربية،و للغريب حاربوه بتوجيه أمريكي، ثم انهار فيها الإتحاد السوفيتي، نمت إيران أمامهم و تعاظم دورها وراهنوا على خسارتها و حاربوها، و حاصروها، على مدار عقود و عقود، حاولوا، أيدت بعض الأنظمة العربية الكيان الصهيوني و حربه على لبنان و حزب الله عام 2006 و فشلت كل المحاولات و لا تزال تفشل. تشكل العالم من جديد اصبحت الصين اقتصاد العالم الأول و تراجعت الولايات المتحدة و تتراجع على كافة الأصعدة كما أشرنا، و سبقتنا أسيا، سنغافورة، و ماليزيا، و حتى أندونيسيا و الهند و أصبحوا قوى لا يستهان بها و نحن لازلنا نحارب أشباحا لا مكان لها سوى عقولنا المتهالكة و لازلنا نصر على ثوابت أخرتنا و استزفتنا و قسمتنا، بينما تقدمت إيران التي لا تعاني إدارتها من الكفاف الجيوسياسي و الاستراتيجي كما هو واضح لأي أخرق، و ماليزيا، و سنغافورة، و روسيا التي انهارت انهيار كامل ثم نهضت لتصبح قوى عظمى من جديد لتهزم الولايات المتحدة و حلفائها في سوريا. إيران و كوريا الشمالية، و سنغافورة و ماليزيا و أندونيسيا و نحن نرجع للوراء و لا نتقدم سوى للإتجاه المعاكس كعرب.
لم تجر علينا الصفقات البترودولارية و الكامب ديفيد سوى الخراب و الشرذمة و التأخر، فهاهي أيران التي تحارب من العالم تقريبا، و التي لا تزال متمسكة بثوابت تحرير فلسطين و المقاومة و الممانعة، أصبحت تمتلك صواريخ متوسطة و بعيدة المدى محرم على دول الكامب ديفيد امتلاكها، صغرت أم كبرت تلك الدول، بل و تمتلك إيران تكنولوجيا تصنيع تلك الصواريخ و تطويرها، هاهي كوريا الشمالية و إيران صامدتين و تراهنان على المعسكر الآخر و فشلت الولايات المتحدة و الكيان الصهيوني في المساس بأي منها. ها هي القاعدة الصناعية في أيران التي ترزخ تحت عقوبات دولية و عزلة و حصار لعقود تطورت بينما انهارت الصناعة و انعدمت في عالمنا العربي و فنت. كانت إيران أولى الدول الشرق أوسطية في امتلاك تكنولوجيا الطاقة النووية أمام مرآي و مسمع الكيان الصهيوني و لوبيه في الولايات المتحدة و العرب و الذين لا مازالوا يفشلون في كبح جماح إيران. لم تحتاج إيران أو روسيا أو كوريا الشمالية و لا الصين لقواعد الولايات المتحدة لحماية أيا منهم مقابل ربط مبيعات نفطهم و مقدرات شعوبهم بالدولار، بل العكس تماما. لم تبع إيران مواردها بخسا للغرب كي يرضى عنها أو يغض الطرف عن ممارسات نظامها لضمان استمراره (سواء اتفقنا أم اختلفنا معه) بل تنفق إيران المحاصرة اقتصاديا على تسليحها و تسليح حزب الله و مأكله و مشربه و ملبسه على حد قول السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله، و ما خفي كان أعظم و إن صح أنها تنفق على الحوثيين و حماس و الذي لا أؤكده أو أنفيه.
أين نحن و أين الكيان الصهيوني منذ الكامب ديفيد الذي لايزال يقسمنا إلى معسكرات أيديولوجية و سياسية،إلى دول الاعتدال و دول شريرة متطرفة! لتتأجج صراعات بين المعسكرين بعيدا عن الكيان الصهيوني و لا تدمر سوى العرب على كافة الأصعدة. أين الاقتصاد الصهيوني و أين اقتصادنا أين نحن من الصهاينة بعد أكثر من أربعين عاما متواصلين من السلام الغير عادل و سلام الاستسلام ، أين نحن منهم على صعيد التنمية الاقتصادية و البشرية و التعليم و الصحة و مستوى المعيشة و الرفاهية، ألم تعلمنا الأنظمة العربية أن الحروب ضد الكيان الصهيوني هي من أخرتنا!!!! إذا لماذا ازددنا فقرا و تخلفا بعد ما يناهز النصف قرن من السلام؟ أليس الاستبداد و سوء الإدارة و الفساد و الانفراد بالقرار هم السبب في تأخرنا عن أمم العالم و الكيان الصهيوني. كيف أدار الكيان الصهيوني ملف الكامب ديفيد و كيف أدرناه نحن؟ الحقيقة هو أنه تم تدجيننا بهذا الكامب ديفيد و شرذمتنا و أوجد فراغا احتلته إيران التي نلومها و لازلنا نهدر الفرص التاريخية المتمثلة في عودة روسيا و نجاحاتها، و تلاشي الولايات المتحدة، و تعاظم الصين لنستمر في ندجين أنفسنا و الانقسام على ذاتنا و تزايد حدة الخلافات إلى أن يذبح منا من سيذبح بعد أن نحول منطقتنا إلى ساحات حروب عالمية بعد أن حولناها بالفعل و بجدارة إلى ساحات حروب بالوكالة. لكن سيبقى جيل جديد من الشباب بعد أن تنهار أنظمتنا التي تروج لنظرية المؤامرة و لا ترى أو تعي أنها هي نفسها المتآمر الأكبر ضد بعضها البعض و على نفسها و شعوبها، و ستزول مع زوال النظام العالمي الحالي الذي أعلم جيدا أنه لن يكون فيه مكان للكيان الصهيوني الذي دجننا ليربح هو القوة و التقدم و الرخاء على حسابنا و حساب ذريعة السلام المدمر الذي دمر الشرق الأوسط و لم يبنيه أو يعمره و الدليل أن كل دول الطوق هي دول معوزة و فقيرة و متأخرة حتى يومنا هذا. أو سنموت موتا بطيئا مع الولايات المتحدة لكني أضمن لك عزيزي القارئ أنها ستبتلع أنظمتنا التي أسلمتها مقدراتنا حتى النخاع قبل أن تزول و ستبقى الشعوب منهكة لعلها مستقبل جديد مشرق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق