أخيراً تأكد ما ذكرناه مراراً في أكثر من مقال سابق من أنّ الزعيم الصيني الحالي «شي جيبينج» لديه طموحات شخصية لا سقف لها، على رأسها أنْ يخلـّد ويبلغ مصاف المعلم «ماو تسي تونج» مؤسس الصين الشيوعية وقائدها التاريخي. ومن هذه اللحظة وخلال السنوات الخمس المقبلة ــ وربما إلى الأبد ــ سيسبق اسمه لقب المعلم ليصبح "المعلم شي".
ولئن استمد «المعلم ماو» شرعيته من الإطاحة بجمهورية الصين الوطنية بقيادة حزب الكومينتونج المصنف في الأدبيات الصينية المعاصرة في خانة الإمبريالية الرأسمالية، ومن تأسيس نظام شيوعي راديكالي على أنقاض النظام القديم وإحداث تغييرات جذرية في حياة الإنسان الصيني معمدة بالدم والقهر والبطش على نحو ما حدث في منعطفات «الزحف الكبير» في الأربعينيات و«القفزة الكبرى إلى الأمام» في الخمسينيات و«الثورة الثقافية» في الستينيات، فإن «المعلم شي» يستند على شرعيات منها نقل البلاد في السنوات القليلة الماضية من اقتصاد يعتمد على تصدير سلع استهلاكية رخيصة منخفضة الجودة إلى اقتصاد يركز على الصناعات والخدمات المتقدمة. ومنها تحويل الصين من قوة مهمومة باستراتيجيات إقليمية ضيقة الحدود والمعالم إلى قوة يهابها الجيران، وتتطلع إلى التوسع والتمدد في الجوار وأعالي البحار، هذا ناهيك عن شرعيته المستمدة من ضربه للفساد في مفاصل الدولة والحزب الحاكم والجيش الأحمر.
لكل هذا لم يكن غريباً أن يُجدد له المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي اختتم أعماله مؤخراً، كي يبقى خمس سنوات أخرى في قيادة البلاد قد تتجدد مراراً وتكراراً دون أخذ السن في الاعتبار، إلى أن يغيب عن الساحة بالوفاة على نحو ما حدث مع «المعلم ماو». ومن هنا أيضاً لم يكن مستغرباً أنْ يـُدرج فكره وخططه وفلسفته، علاوة على برامجه ذات الصلة بطريق الحرير(مبادرة أطلقها «المعلم شي» عام 2013 أمام جمع من الطلبة في كازاخستان تضطلع بكين بموجبها بدور أكبر على الساحة الدولية من خلال تمويل وتشييد شبكات مواصلات ونقل وتجارة في أكثر من 60 بلداً مع تخصيصها مبلغ 124 مليار دولار لتنفيذ الخطة) ضمن ميثاق ودستور الحزب الشيوعي الحاكم وهو لا يزال على قيد الحياة، ويجلس على رأس السلطة، وذلك في سابقة لم تحدث حتى مع مهندس التغيير والإصلاح الراحل الزعيم «دينج زياو بينج» وخلفائه من أمثال الزعيم الأسبق «جيانج زيمين» والزعيم السابق «هو جينتاو» إلا بعد وفاة الأول وتقاعد الأخيرين.
ومعنى تضمين مانفيستو (ميثاق) الحزب الشيوعي الصيني أفكار وبرامج ونظريات «المعلم شي» هو أنّ هذه الأمور ستـُدرس في المعاهد والمدارس والجامعات الصينية كجزء أصيل من مناهجها، وبالتالي سوف تتربى الأجيال القادمة عليها. ومرة أخرى هذا ما فعله المعلم ماو بعيد ثورته الثقافية المجنونة في ستينيات القرن الماضي والتي حصدت خيرة علماء ومبدعي البلاد وأرسلت الملايين منهم إلى معسكرات إعادة التأهيل النائية.
وجملة القول إنّ «المعلم شي»، خريج كلية الهندسة الكيميائية في جامعة شينخوا ببكين، استطاع من خلال المؤتمر الحزبي الأخير الذي حضره نحو 2300 من المندوبين الممثلين لمختلف المقاطعات الصينية أن ينتزع زعامة لا حدود لها مثلما كان يطمح، علماً أنه كان قد مهـّد لذلك بعملية لمكافحة الفساد أبعد من خلالها نحو 1.5 مليون من المسؤولين المشكوك في ولائهم له. كما استطاع «المعلم شي» أن يحقق شيئاً آخر مهما هو أن يحيط نفسه بسبعة أشخاص من الموالين كأعضاء في المكتب السياسي الجديد للحزب الشيوعي الذي يـُعتبر أعلى أجهزة السلطة. وهؤلاء هم: «لي تشان تشو» المستشار المقرب منه؛ «وانج يانج» نائب رئيس الوزراء؛ «وانج هونج» الخبير في الشؤون الأميركية؛ "تشاو لي تسي" رئيس لجنة مكافحة الفساد في الحزب الحاكم والخبير في شؤون مكافحة الإرهاب، علاوة على «لي كه تشيانج» رئيس الوزراء وهو الوجه الوحيد من المكتب السياسي السابق الذي حافظ على موقعه في التعيينات الجديدة.
لكن ماذا سيفعل «المعلم شي» في السنوات المقبلة؟ هل سيعمد إلى الإمساك بالسلطة بقبضة حديدية على غرار ما فعله «المعلم ماو»؟ أم أنه سيعمد إلى منح الصينيين جرعات صغيرة متدرجة من الحريات السياسية؟ يجمع المراقبون على أن الزمن قد تغير، وبالتالي ليس أمام «المعلم شي» إدارة الصين بطريقة «ماو» القمعية وخطابه الثوري الراديكالي العقيم. كما يجمعون على أن شخصيته التي تمقت الضغط أو اقتسام السلطة لا تعطي أملاً في حدوث انفراجات سياسية. أما دليلهم فهو حرصه على التبشير بـ«عصر جديد من الاشتراكية على الطريقة الصينية» دون التطرق إطلاقاً لمسألة إدخال قدر من الليبرالية على النظام السياسي. وعليه فإن المتوقع منه أن يعمل على تحويل الصين إلى مجتمع مزدهر آمن بحلول العام 2021، وتحويل البلاد إلى قوة عالمية عظمى تحظى بالاحترام بحلول العام 2050 طبقاً لما قاله بنفسه أمام رجال الصحافة والإعلام في قاعة الشعب الكبرى في بكين في 25 أكتوبر المنصرم. ولتحقيق هذا، ومن أجل كسب ثقة المواطن الصيني عليه تعزيز وحدة البلاد من خلال مواجهة الحركات الشعبوية والانفصالية، والمضي قدماً في ضرب الفساد بالتزامن مع تفعيل مبادرة طريق الحرير، واقتحام ميدان تكنولوجيا الذكاء الصناعي، ومعالجة التفاوت الكبير في الدخل.
د. عبدالله المدني
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: نوفمبر 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق