يقولون إن الحرب هي السياسة لكن بأدوات عنيفة. ومحصلة هذا القول أن الحرب أو السياسة يجب أن تؤدي إلى نتائج وأهداف محددة، وإلا فإن البديل هو مجرد هدنة مؤقتة تختزن في ذاتها صراعات كامنة ستعود إلى التفجّر سياسياً أو عسكرياً فور توافر العوامل المناسبة لذلك. إن عدم الحسم الميداني يعني ببساطة تأجيل القضايا الإشكالية إلى مراحل لاحقة. والسبب في ذلك أن أياً من الأطراف المتصارعة غير قادر على الحسم... أو هو ممنوع من الحسم نظراً إلى حسابات واعتبارات خارجة عن إرادة تلك الأطراف.
سياسة اللاحسم في لبنان، هذا الكيان الذي قام على قاعدة توازنات طائفية شديدة الحساسية، عُرفت على مدى عقود بصيغة "لا غالب ولا مغلوب". ويمكننا العودة بتلك الصيغة إلى منتصف القرن التاسع عشر عندما اندلعت الحرب الأهلية الطائفية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان بين 1840 و1860، قبل أن تنتشر في المناطق المجاورة ضمن ولاية سوريا العثمانية. وتواصلت تلك السياسة منذ ذلك الوقت وصولاً إلى تفاهمات جمال عبد الناصر والأميركيين سنة 1958 ثم اتفاق الطائف وبعده اتفاق الدوحة... وغير ذلك. وفي جميع الأحوال، ظلت نيران الخلاف والصراع تتأجج تحت رماد توافقات محلية وإقليمية هشة تعكس توازنات المرحلة المعنية.
إن استعادة صور اللاحسم في الكيان اللبناني، والنتائج التاريخية المترتبة على ذلك، تفيدنا كثيراً في تفهّم خلفيات العوائق المماثلة التي تعترض اجتماعات جنيف في ما يخص "حل الأزمة السورية". فالجولة الثامنة بدأت بخطوات عرجاء بسبب عدم توافق الأطراف المدعوة على الحد الأدنى من برامج العمل، بغض النظر عن المبررات التي صدرت في الإعلام من هذا الطرف أو من ذاك. وقليلون جداً هم الذين يتوقعون أن تنجح الجولات القادمة في إقناع "الأطراف السورية" المختلفة على كل شيء تقريباً بتحقيق خرق يمهد الطريق للبدء في معالجة المسائل الجوهرية وفي مقدمها "الدستور السوري الجديد". وفي مثل ذلك الوضع، سيصبح القرار بيد القوى الخارجية التي ستعيد لملمة الساحة السورية بأقل الخسائر الممكنة، وبما يتناسب مع مصالحها القومية الاستراتيجية.
وقائع الميدان السوري، من حيث انعكاسها على الإنجازات السياسية، لا تبشر بالخير. صحيح أن القوات الحكومية النظامية والقوى الرديفة المدعومة بإسناد قوي من الحليفين الروسي والإيراني حققت نتائج باهرة على الصُعد العسكرية في المواجهات الكبرى، إلا أنها لم تصل بعد إلى الانتصار الناجز الذي يتيح لها فرض إرادتها على طاولة المفاوضات في جنيف. وفي المقابل، مُنيت "المعارضة السورية" بتراجعات عسكرية وسياسية متتالية إلا أنها لم تتلقَ الهزيمة الساحقة التي تجعلها ترفع الراية البيضاء سواء في الآستانة أو جنيف أو سوتشي لاحقاً. وهنا بالضبط تكمن معضلة الحل السياسي الذي يُفترض أن يعكس الحقائق الميدانية.
أزمة مفاوضات جنيف، وبالتالي أزمة الحل السياسي في سوريا، تتعلق بسعي الجهات الدولية والإقليمية المؤثرة إلى صياغة حل لا يقتل الذئب ولا يفني الغنم... أي "لا غالب ولا مغلوب" على الطريقة اللبنانية المقيتة. وهو حلٌ، كما أثبتت التجارب في أنحاء مختلفة من العالم العربي، لا يعالج المرض بحد ذاته وإنما يكتفي بأدوية مسكنة للظواهر المرضية العارضة، تاركاً الاحتقان في جسم الأمة يفتك بها من الداخل بلا رقيب ولا حسيب. ويبدو أن الدول الراعية لمؤتمر جنيف حريصة على فرض الحلول التي تناسبها، متجاهلة أن السوريين دفعوا ثمناً باهظاً من أرواحهم ودمائهم وثرواتهم كي لا يعودوا مرّة أخرى إلى المربع الأول حيث لا توافق داخلياً حول بديهيات نشوء المتحد القومي المتناغم.
إن سوريا الشام، بموقعها الاستراتيجي ودورها القومي المفصلي، لا تحتمل صيغة "لا غالب ولا مغلوب". ومما يؤسف له أن الانتصار غير الناجز والهزيمة غير الساحقة لا يعطيان الشعب السوري إلا فشلاً ذريعاً أو حلاً مؤقتاً طالما أن القوى الحية في المجتمع السوري تقف متفرجة على المصير القومي تتلاعب به رياح
مفوضية سيدني المستقلة / الحزب السوري القومي الاجتماعي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق