ما تحتاجه الآن القضية الفلسطينية هو أكثر ممّا يحدث من ردود فعلٍ شعبية وسياسية على قرار ترامب بشأن القدس، وأيضاً أكثر من الحراك البطولي الشعبي الفلسطيني في القدس وفي الضفّة الغربية وغزّة، فهي تحتاج إلى انتفاضة شعبية فلسطينية شاملة تضع حدّاً لما حصل في ربع القرن الماضي من تحريفٍ لمسار النضال الفلسطيني، ومن تقزيمٍ لهذه القضية التي كانت رمزاً لصراع عربي/صهيوني على مدار قرنٍ من الزمن، فجرى مسخها لتكون مسألة خاضعة للتفاوض بين "سلطة فلسطينية" في الضفّة الغربية وبين "الدولة الإسرائيلية" التي رفضت الاعتراف حتّى بأنّها دولة محتلّة، كما رفضت وترفض إعلان حدودها النهائية.
وكما كان من الخطأ تصغير حجم القضية الفلسطينية في مجال العمل السياسي والمفاوضات، سيكون كذلك من الخطأ الآن تحجيم ردود الفعل ضدّ قرار ترامب بحصرها على جبهة القدس فقط. فالمطلوب فعلاً هو وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة برنامج العمل على مستوى كلّ المنظّمات الفلسطينية الفاعلة داخل الأراضي المحتلّة وخارجها، ففي ذلك يمكن أن يتكامل أسلوب العمل السياسي ومسار التفاوض، مع أسلوب المقاومة الشعبية الشاملة في كلّ المناطق الفلسطينية، ومع أسلوب المقاومة المسلّحة حينما يضطرّ الأمر إلى ذلك.
إنّ مشكلة الانقسام الفلسطيني ازدادت حدّةً بعد توقيع اتفاقيات "أوسلو" والتي ثبت، بعد أكثر من عشرين عاماً، عجزها عن تأمين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وتستفيد إسرائيل طبعاً من تداعيات الحروب الأهلية العربية، ومن الموقف الأميركي الذي يساهم الآن في دعم حكومة نتنياهو وسياستها في التعامل مع الملفّ الفلسطيني.
فالتصريحات التي تصدر عن "البيت الأبيض" وأعضاء في الكونغرس بشأن القضية الفلسطينية، كلّها تكرّر ما يقول به نتنياهو من تشويه لحقائق الصراع العربي والفلسطيني مع إسرائيل. فموضوع "الاحتلال الإسرائيلي" مغيَّب عن المواقف الرسمية الأميركية ومهمَّش كثيراً في الإعلام الأميركي، كما هو الظلم أيضاً في مساواة مسألة "الإرهاب" بالمقاومة ضدّ الاحتلال.
لكن المصيبة ليست في الموقف الأميركي فقط أو في بعض المواقف الدولية الأخرى، فالأوضاع العربية مسؤولة أيضاً عن حجم المأساة التي عاشها ويعيشها الشعب الفلسطيني. فعناصر المواجهة العربية والفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي ما زالت حتّى الآن غائبة، ووحدة الشعب الفلسطيني هي العنصر الأهمّ المفقود حالياً، وكذلك الحدّ الأدنى من التضامن الرسمي العربي ضدّ إسرائيل والسياسة الأميركية الداعمة لها. كلّ ذلك هو الواقع الآن، إضافةً إلى استمرار حروبٍ أهلية عربية بأشكال مختلفة، وتزايد عوامل التفكّك لا التوحّد في المجتمعات العربية. فكيف لا تستفيد حكومة نتنياهو وإدارة ترامب من هذا الواقع العربي المزري، وكيف يأمل البعض بتغيير المواقف الأميركية والدولية لصالح الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني؟!.
ربّما أهمية ما يحدث الآن بشأن القدس هي إعادة الحيوية لقضية فلسطين، التي جرى تهميشها عمداً في السنوات الماضية، وبالتالي تصحيح "البوصلة" العربية، بعدما تسبّبت "معارك التغيير الداخلي" بفقدان معيار معرفة الصديق من العدوّ!.
لقد أدانت السلطة الفلسطينية قرار ترامب، لكن ما البديل الذي طرحته؟ هل أعلنت مثلاً التخلّي عن نهج التفاوض لصالح أسلوب المقاومة المشروعة ضدَّ الاحتلال؟ هل تّمت إعادة بناء "منظمة التحرير الفلسطينية" لكي تكون "جبهة تحرّر وطني" شاملة توحِّد الطاقات والمنظمّات الفلسطينية المبعثرة؟ ثمَّ ماذا لو لم يعلن ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، هل كان الاستيطان قد توقّف؟! وهل كانت المنطقة تعيش برداً وسلاماً؟! وكيف تجوز المراهنة التي عمرها سنة الآن على إنّ إدارة ترامب ستصنع التحوّل في حكومة إسرائيلية قامت على التطرّف ورفض الاتفاقات مع الفلسطينيين، بحيث تقبل هذه الحكومة بدولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس، وبإنهاء المستوطنات وإعطاء اللاجئين الفلسطينيين حقوقهم المشروعة؟!.
فالمراهنة كانت فقط على أسلوب التفاوض مع إسرائيل وعلى دور "الوسيط الأميركي"، وهي كانت مراهنة على سراب، وعلى أضغاث أحلام لا جدوى فلسطينياً وعربياً منها. فما هو قائمٌ على أرض الواقع هو وحده المعيار في أيِّ مفاوضات أو عدمها. وتغيير الواقع الفلسطيني والعربي هو الكفيل حصراً بتغيير المعادلات وصنع التحوّلات المنشودة في الموقفين الإسرائيلي والأميركي.
لقد كانت مسألة المستوطنات رمزاً لمدى العجز العربي والضعف الأميركي من جهة، وللاستهتار الإسرائيلي من جهةٍ أخرى بمن يمدّ إسرائيل بالسلاح والمال والدعم السياسي لعقودٍ طويلة. فإذا عجزت إدارة أوباما - الإدارة الأميركية السابقة ومعها كل أطراف اللجنة الرباعية- على إجبار إسرائيل على وقف بناء المستوطنات، فكيف ستجبرها إذن إدارة ترامب على ذلك وعلى إخلاء الأراضي الفلسطينية المحتلّة وتسهيل بناء الدولة الفلسطينية المستقلّة؟!
ولقد كانت السنوات القليلة الماضية مناسبة جداً لمحاولة فرض أجندة إسرائيلية على المنطقة كلّها، الهدف الأساسي فيها هو التشجيع على الصراعات الطائفية والإثنية، وتكثيف الإستيطان، وإخضاع الفلسطينيين لمشيئة المحتلّ الإسرائيلي، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى إدارة مدنية ترعى شؤون الخدمات وتشكّل امتداداً أمنياً لإسرائيل وسط المناطق الفلسطينية، مع توطين الفلسطينيين خارج الأراضي المحتلة.
لكن الرؤية واضحة جداً الآن لكيفيّة الخروج من المأزق الذي هي عليه الآن السلطة الفلسطينية وعموم الوضع العربي. فالسلطة الفلسطينية هي أمام خيارين: إمّا التحوّل إلى إدارة مدنية تخدم إسرائيل وأمنها واحتلالها، أو الانتقال الفعلي إلى صيغة "جبهة تحرّر وطني" تجمع وسطها كل التيّارات والقوى التي تنسجم مع إستراتيجيةٍ واحدة، تطالب بالحدّ الأدنى من حيث الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس الشريف، وبناء دولة فلسطينية مستقلّة على هذه الأراضي (وعاصمتها القدس)، ثمّ تفاوض هذه الدولة حين قيامها على مصير اللاجئين الفلسطينيين دون التخلّي عن حقوقهم المشروعة التي نصّت عليها القرارات الدولية.
وحينما تتحوّل السلطة الفلسطينية إلى "جبهة تحرّر وطني"، فسيكون من واجبها - كما هو من حقّها- تحديد أساليب المقاومة وأمكنتها والجهات التي تقوم بها لكي لا يحدث أي خلل سياسي وأمني في الساحة الفلسطينية، ولمنع إسرائيل من استغلال أي عملياتٍ فردية قد تسيء إلى معركة التحرّر الوطني الفلسطيني. عند ذلك، سيجد الإنسان الفلسطيني أملاً في قيادة تسير على طريقٍ سليم يجمع بين وضوحٍ في الرؤية، وبين أسلوبٍ سليم في التعامل مع مسألتيْ المقاومة والتفاوض.
المشكلة الأساس كانت وستبقى بما هو حاصلٌ فلسطينياً وعربياً من مواقف وانقسامات وصراعات يبني عليها العدو الإسرائيلي ومن يدعمه. المشكلة هي في تنازلات عربية وفلسطينية جرت وتجري في المحافل الدولية وفي المفاوضات والاتفاقيات مع إسرائيل. المشكلة هي في انتقال الصراع العربي/الإسرائيلي من تقزيمٍ له أساساً بالقول إنّه "صراع فلسطيني/إسرائيلي" إلى تقزيمٍ أكبر بوصفه صراع إسرائيل مع "منظمات مسلّحة"!. كذلك، فإنّ المراهنة على دور أميركي "نزيه ومحايد" لم يرافقه أيضاً تحسين الواقع التفاوضي الفلسطيني والعربي، وتغيير للنهج المعتمد منذ عقود. وبداية الطريق السليم تكون في رفض أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلّة وتحرير الأراضي المحتلّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق