بعد تصويت الكنيست بالقراءة التمهيدية على ما أسمي "قانون اعدام الإرهابيين" صرح إيفيت ليبرمان، رئيس حزب البيت اليهودي، وصاحب فكرة تشريع هذا القانون معلنًا أن "هذا هو يوم هام للردع الإسرائيلي وللحرب على الإرهاب. نفذنا ما قطعنا على أنفسنا من وعد. هذا هو التزامنا القيمي والأخلاقي للعائلات الثكلى"، وأضاف موقفًا يشي بما يخطط له كوزير للدفاع، فيما اذا اعتمد القانون بشكل نهائي، فقال "يدل تصويت الكنيست اليوم على تغيير دراماتيكي في السياسة. لدينا الآن حق بمطالبة النيابتين، العامة والعسكرية، أن تلتمسا إنزال عقوبة الإعدام على إرهابيين".
رأي ليبرمان بخصوص "تغيير دراماتيكي في السياسة" وربط ذلك التغيير المأمول بعملية تشريع القانون لا يتعدى كونه محاولة مكشوفة منه لتفنيد اتهامه الصحيح من قبل كثيرين بأنه وحزبه يسخّرون الكنيست لإجازة قوانين ديماغوغية مبنية على مواقف شعبوية هوجاء غير قيمية وغير أخلاقية وذلك بهدف كسب أصوات غلاة المتطرفين من المواطنين اليهود، في وقت بات يراهن فيه البعض على دنو حل حكومة نتنياهو والذهاب إلى انتخابات عامة في القريب.
لم يكن رفض المؤسسة الإسرائيلية، طيلة العقود الماضية، تخصيص قانون منفرد يقضي بفرض عقوبة الإعدام على من يعتبرون إرهابيين، شانًا عرضيًا أو سهوةً أو تعبيرًا عن حسن أخلاق تجاه الفلسطينيين والعرب، لأنهم، بطبيعة الحال والواقع، أهداف هذا التشريع، "فالارهابي اليهودي" هو ابن لشعب ليس بحاجة إلى ردع، وذلك كما كتب قاضي المحكمة العليا "سولبرغ" عندما علل عدم وجود حاجة لهدم بيوت من حرقوا الطفل محمد أبو خضير .
هنالك خيار قائم، قبل هذا القانون، وفقًا له تستطيع المحاكم المدنية والعسكرية الحكم بعقوبة الإعدام ضد من يدانون بعمليات قتل أو تجسس أو مخالفات عسكرية محددة، مع ذلك امتنعوا حتى في أهم القضايا التي وصفت بالإرهابية الكبرى من المطالبة بهذا الحكم، وذلك تمشيًا مع سياسة رسمية معلنة وسائدة تدعمها أوساط أمنية وفي مقدمتها جهاز الأمن العام ومثلهم الجهاز القضائي ممثلًا بالمستشار القانوني للحكومة وغيرهم من العناوين ذات التأثير مثل بعض الحاخامات.
رئيس جهاز الأمن العام أعلن موقفه المعارض لهذا التشريع، علمًا بأنه الجهة المتخصصة في "محاربة الارهاب"، فهذا الجهاز وبعد دراسات معمقة ومهنية توصل إلى نتيجة نفت كون هذه العقوبة رادعة، بل قد تصير، في ظروف معينة، حافزًا للشباب الفلسطيني خاصة بعد أن يحتسب "المعدم" شهيدًا يبجله شعبه ويستقطب أثره أجيالًا تتمنى أن تتمثل طريقه في النضال.
أما المؤسسة القضائية فلقد رفضت إنفاذ سياسة الاعدام لاعتمادها طبعًا على موقف الأجهزة الامنية، ولاعتبارات أخلاقية وقيمية محلية تتمشى مع مواقف ومفاهيم "المجتمعات الحديثة" التي بدأت تتبنى مواقف تقضي بضرورة إبطال هذه العقوبة، حتى في الدول التي تجيزها قوانينها، فإماتة الانسان بقرار من إنسان آخر أمر محظور بشكل قطعي لأن سلب الحياة البشرية يبقى حقًا لمعطي الحياة وباريها وليس لبني البشر، كما يجزم أيضًا بعض الحاخامات ذوي التأثير والمسموعي الرأي في حالتنا.
إذًا يستطيع ليبرمان اليوم كمن يقف على رأس الهرم الأمني، وبدون حاجة لهذا التشريع، إلزام المدعي العسكري باتباع سياسة "جديدة" تتبنى الإعدام عقابًا بحق من يدانون في المحاكم العسكرية على الأقل بالمشاركة في عمليات أوقعت عشرات الجثث والجرحى، لكنه لم يفعل ذلك في الماضي كما لم يفعل من سبقه أيضًا؛ فبعيدًا عن شعور بعض السياسيين بضرورة إرواء غوغائية الرعاع، أو خضوع "سياسيي الكازينوات" لضغوط مَن حسموا خياراتهم تجاه وجود وبقاء الفلسطينيين، يعرف أصحاب الشأن والخبرة أن استحداث هذه العقوبة وتفعيلها لن تردع الفلسطينيين بعد أن أعلنوا مرارًا رفضهم العيش عبيدًا في وطنهم وأهدافًا للمهانة والذل ولعربدات الجيش والمستوطنين.
قد تتغير الأحوال وينجح ليبرمان أو غيره بتسيير قواعد مغامرة، ففي إسرائيل تتفشى في السنوات الأخيرة حالة من "الصعر القومي"، أدت إلى إنتاج فكر متوحش يؤمن حاملوه بضرورة شيطنة جميع الفلسطينيين، ونزع إنسانيتهم ونفي شرعية وجودهم ونضالهم ضد الاحتلال. أكثرية مطلقة من اليهود تؤمن بجواز طرد العرب من البلاد وأكثرية راجحة تؤمن أن العرب لا يفهمون إلا لغة القوة والضرب.
فحتى "وردة " الفتاة ابنة الأربعة عشر خريفًا تعتبر عند أكثرية المجتمع اليهودي وإعلامه المجند، مخربة مطبوعة ولدت وربيت لتكون قاتلة. لن يشفع لها ما قرأته في إفاداتها، لأنها ليست ككثيرين قتلوا بقيت على قيد الحياة.
هي صبية تحب النرجس وتعشق زهر الليمون. تنام بقلب أعياه الذل وتصحو بكبد قطعته الحواجز وأسوار الباطون والقهر.
يومًا بعد يوم فقدت حسها بمداعبة الريح واشتهت غمزات أقواس قزح، فقررت الرحيل إلى بعيد، وفي ليلة كلها جنون طفولي "تسلحت" بما يشبه السكين، وتركت بيتها، على ايقاع الندى الساهي في الحاكورة ، واقتربت من حاجز محاذ و"هجمت "على مجموعة من الجنود الذين كانوا يستعدون لنهار صيدهم.
لم تصرخ، فهي أصغر من مفاجأة. تسمرت في موقعها. بينها وبين الجنود مسافة أذان فجر وتهليلة أم حزينة. أحد الجنود صاح لكنها لم تفهم عليهم. حاولت أن تبكي فتذكرت حلمها. رمت "سلاحها" وهوت كنجمة لتصحو في المستشفى بعد ان اخترق الرصاص ساقيها.
في ملفاتنا، نحن المحامين الذين نعمل في المحاكم العسكرية، عشرات من عينات هذه "الأساطير العصرية". لم يسمع عنها نتياهو ولا وزراؤه.
ف"محمد" الذي نام طفلا وديعًا أفاق على صوت كالعواء. في الخارج مملكة للفحم وخطوط حمراء وخضراء دقيقة تخترق صدر الليل وتتنقل كالضفادع، من نافذته لاحظ أشباح تتحرك وبريق في وجوهها يلمع كعيون القطط. كانوا يدقون بقبضاتهم الأبواب وبأعقاب البنادق يهشمون النوافذ.
اقتحموا البيت وبعد دقائق أخرجوا مجموعة من الأولاد، عصبوا عيونهم وصفدوا معاصمهم، وجروهم كصف من خراف تائهة. في البداية علا صوت صراخ وولولات، وبعد لحظات خفت الصوت واختفى. حدق في الجيب العسكري الذي وقف أمام البيت واستطاع أن يرى جيرانه وهم ملقون على أرضية الجيب وبساطير الجنود تضغط على رقابهم بلا رحمة.
جاء أبوه وبهدوء أبعده عن الشباك. ساد سكون مريب وكأنهم فقدوا حناجرهم وعادوا بروتينية باردة إلى فراشهم الذي كان كله من وجع ونار.
لم ينم كما ينام الأولاد. أفاق ولم يعرف انه صار منذ تلك الليلة مشروع "شهيد". في الصباح لم يصل إلى مدرسته الاعدادية. اصطحب جارًا له وعرجا على دكانة القرية. تزودا بنصلين يابانيين وانتظرا على حافة الطريق من دون أن يعرفا كيف ينقض الدوري على الذئاب النهمة.
بعد دقائق سمعا صوت جيب عسكري يقترب فوقف محمد ينتظره بينما التزم صديقه نصر حضن شجيرة رؤوفة.
لم تمض لحظات حتى سقط محمد مضرجًا بالدم، فشعر صديقه بعدم القدرة على الحراك.
في السجن حاولت أن أفهم ما لا يمكن استيعابه في الحقيقة. سألته لماذا لم تتراجعا وأنتما تعرفان أنكما على حافة العدم. لم يجبني وبحدقتين مجمرتين وقطرتين من بلور حملني السلام لأم محمد.
على باب الغرفة التفت الي، وكأن الطفولة غادرته في لحظة ورحل من صدره الخوف، وقال: من ليس عنده أمل لا يعرف طعم القلق، ومن يعش في مرجل من ذل ستبقى روحه على "راحة يده". بلعت ريقي وهو يردف، متى يا أستاذ سيفهم العالم أن شعبًا لا يعيش أبناؤه الطفولة في أحراجهم وساحات بلداتهم سيبحثون عنها بين الغيوم وفي الصلوات والقصائد. قال وانسحب.
حاولت أن أأخره قليلًا لكنه ودعني رافعًا يده وقال سنلتقي في المحكمة.
جيلًا وراء جيل ولدوا في غرف التحقيق. آمنوا بما قيل لهم: صالحوا تصلحوا وتسلموا وتغنموا من السماوات أفقها القريب ومن البحر السمك واللآلئ والمرجان.
مرت السنين فصار رصاص الجيش هدايا تملأ شوارعهم والعلب توابيت وتحولت المقابر إلى أماني ولأسلم المواقع.
فليسأل ليبرمان من قرأوا مثلنا شهادات هذه الأجيال ليعرف عن أي هراء يتكلم وأي ردع سيكفله قانون الاعدام الأهوج وضد من؟ فالردع، هكذاعلمتنا تراتيل الكرامة، جائز اذا كان المردوع رافلًا في العسل ورابحًا دنياه حتى لو على حساب نقاء الجباه والوطن! والردع، مثلما سجل تاريخ الحرية الأحمر، ممكن اذا أحس المردوع أنه سيخسر نصف قلبه عند حافة النبع أو مع "وردة" في كرم العنب، فالردع مستحيل، كما جاء في القصائد التي لم يحفظها محمد، ما دام في الأرض قهر وموت ويأس.
قانون ليبرمان هو واحد من سلسلة القوانين "السياسية" التي تعكس عنجهية النظام الإسرائيلي وما يخططه للمستقبل القريب، فالمسألة لن تتوقف عند عتبات قانون يشرعن ما كان يقوم به منذ سنوات بعض غلاة المستوطنين وأفراد من الجيش الإسرائيلي، لم توزع بنادقه على الفلسطينيين زنابق، بل قصص إعدامات ميدانية سيشهد عليها التاريخ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق