فى خطاب طويل خيم عليه البعد التاريخى للصراع؛ ومشاعر الإحباط من الموقف العالمى والعربى من أعدل قضايا الانسانية، قد أرسل الرئيس الفلسطينى رسائل عديدة للداني قبل القاصي؛ بأن الفلسطينيين لم يعد لديهم ما يخسروه، وأن ما تريده الإدارة الأمريكية وإسرائيل لن يستطيع أى فلسطينى تقديمه لهم، ورغم أن الرئيس لم يحرق السفن؛ واكتفى بسكب البنزين عليها دون إشعال عود الثقاب؛ وتعهد بالاستمرار فى السكب مستقبلاً على ما تبقى من سفن التسوية، والتي لم يعد بمقدورها الإبحار إلى شاطئ السلام؛ إلا أن عود الثقاب قد أشعله ترامب سلفا عندما أعلن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ورغم أن ألسنة اللهب بدت خافتة فى العالم العربى والاسلامى وفى الأراضى الفلسطينية المحتلة؛ إلا أن تلك الألسنة تحجب خلف خفوتها الظاهر المخادع وقوداً من الظلم والقمع يكفى لإحراق الشرق الأوسط؛ وليس سفن التسوية المهترئة فحسب؛ إذا ما وصلت ألسنة اللهب إليه، والجميع يدرك أن استمرار الحال على ما هو عليه سيجعل من وصول ألسنة اللهب لذاك الوقود مسألة وقت لا أكثر .
ورسالة الرئيس الأهم فى الخطاب بأنه لن يوقع الفلسطينيون على صفقة القرن، لأنها صك عبودية طويل الأمد لهم وللمنطقة العربية بأسرها، ولن تفلح الضغوط الأمريكية والعربية على إرغامهم على التوقيع، فهذه رسالة الشعب والقيادة. وهنا علينا أن ندرك أن كل الأطراف الإقليمية التى ارتبطت بتلك الصفقة، والضغوط مع الإدارة الأمريكية على الطرف الفلسطينى باتت اليوم فى أزمة كبيرة بسبب الرفض الفلسطينى، ولكن الأزمة الأكبر هى تلك التى أوقعت الإدارة الأمريكية إسرائيل فيها عندما أعطتها القدس كهدية عيد الميلاد، ورغم أن إسرائيل أدركت أنها هدية مسمومة إلا أنها قبلتها؛ وراهنت على ما يبدو على قدرتها وتفوقها الاستراتيجى؛ وتحالفاتها السرية الاقليمية؛ فى تلافى أخطار سُمها؛ رغم شعورها بأعراض السم تسرى ببطئ فى داخلها، وتنعكس عليها خارجيا بزرقة عنصرية كولونيالية يرفضها العالم .
وفى المقابل وإن كان يبدو فى المشهد؛ أن الشعب الفلسطينى بات وحده، وإن إسرائيل وإدارة ترامب قد استفردت به، إلا أن حقيقة المشهد البانورامية ليست كذلك قط، فهم ليسوا وحدهم؛ لأن عدالة قضيتهم قادرة على استصراخ الضمير الانسانى وإيقاظه، علاوة على قدرتها على استصراخ الضمير العربى الاسلامى.
وتدرك جيداً إسرائيل وإدارة ترامب أن استفاقة تلك الضمائر ستحدث ما لا يحمد عقباه على الصعيد الاقليمى والدولى، وأن أخطر ما يواجه إسرائيل اليوم هو الرفض الفلسطينى لصفقة القرن؛ رغم ضعفهم وفقرهم وحصارهم وإنقسامهم، إلا أنهم يمثلون نموذج فريد فى الصمود الانسانى أمام طغيان القوة، وهذا الصمود هو ما يخيف إسرائيل؛ فهو فى نهاية المطاف سوف يستثير الضمير القومى والعقائدى والانسانى؛ عندما تشتعل ألسنة اللهب، ويحدث الإنفجار فى وجه الظلم وتنفلت الأمور من عقالها .
وقد أسست قرارات المجلس المركزى لمرحلة جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات، مضمونها الاعتماد على النفس والصمود أمام محاولات تصفية القضية، ويجب أن يُبنى على تلك القرارات إستراتيجية فلسطينية جامعة وجديدة يشارك فيها الكل الفلسطينى، والكل الفلسطيني لا يعنى الفصائل الفلسطينية فقط ، بل الشعب الفلسطينى برمته؛ وذلك عبر تفعيل المشاركة الشعبية فى اتخاذ القرار؛ وهذا يتطلب إتمام المصالحة بإرادة فلسطينية، والذهاب فى أسرع وقت ممكن إلى الانتخابات لتجديد الشرعيات؛ وتفعيل المجلس الوطنى الفلسطينى المنتخب باعتباره برلمان الدولة الفلسطينية، وصياغة دستور فلسطينى وعرضه للاستفتاء الشعبى؛ وإقراره باعتباره البديل للقانون الأساسى القائم حاليا، وذلك فى إطار تحويل مؤسسات السلطة إلى مؤسسات دولة للخروج من بوتقة اتفاقات أوسلو، وعلى الشعب أن يحمى هذا التوجه بتفعيل المقاومة الشعبية على أى ردة فعل إسرائيلية على تلك الخطوات الفلسطينية المتقدمة فى طريق الاستقلال الطويلة .
لن تكون المهمة سهلة ، ولكنها ليست مستحيلة، فالشعوب الحرة لا تعرف المستحيل والأقدار دوما رهن إرادتها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق