تعاني باكستان منذ أكثر من عقدين من الزمن من التفجيرات الإنتحارية شبه اليومية التي يستهدف بعضها البنى التحتية والمواطنين الأبرياء العزل، فيما يتربص بعضها الآخر بالمسؤولين الكبار وقادة الشرطة وزعماء الأقليات الدينية ودور عبادتهم. في الوقت نفسه فإن باكستان نفسها متهمة من قبل جارتها الأفغانية وحكومة الولايات المتحدة بتمويل وإدارة مسلسلات التفجير والعنف على الأرض الأفغانية.
وإزاء هذه التحديات الأمنية وما يوازيها من تحديات معيشية بسبب الوضع الإقتصادي الخانق، وتحديات سياسية داخلية وخارجية تفتق ذهن المسؤولين الباكستانيين عن حل يتمثل في التوصل إلى تفاهمات مع حكومة كابول لإقناع أكبر عدد ممكن من القيادات الدينية في البلدين بإصدار فتوى ضد التفجيرات الانتحارية على أن تغطي تلك الفتوى أراضي البلدين معا. ولهذا الغرض، تحديدا، عقد إجتماع في أكتوبر 2017 بين الرئيس الأفغاني "أشرف غني" ورئيس هيئة أركان الجيش الباكستاني الجنرال "قمر جاويد باجوا" تم الإتفاق فيه على أن يقوم كل جانب بمطالبة قياداته الدينية بإصدار فتوى تقول فيها أن التفجيرات الانتحارية حرام شرعا.
لكن سرعان ما دخل البلدان في خلاف! صحيح أن إسلام آباد نجحت مؤخرا في إقناع نحو 1800 رجل دين باكستاني بإصدار الفتوى المطلوبة، بل وأصدرتها من خلال كتاب بعنوان "الرسالة الإسلامية" تم إطلاقه في احتفالية مبهرة بحضور رئيس الجمهورية الباكستانية "ممنون حسين" الذي قال: "هذه الفتوى أساس قوي لإستقرار المجتمع"، مضيفا: "بوسعنا الاسترشاد بهذه الفتوى للتوصل إلى خطاب وطني يكبح جماح التشدد بما يتماشى مع تعاليم الإسلام السمحة".
لكن كابول شككت في جدوى الفتوى الباكستانية، التي صاغتها "الجامعة الإسلامية العالمية" التابعة للدولة، لأنها تطرقت إلى تحريم التفجيرات الانتحارية بصفة عامة ولم تشر إلى تلك التي تحدث في أفغانستان تحديدا، الأمر الذي حدا بوزير الخارجية الباكستاني "خواجة آصف" إلى امتصاص غضب كابول بالقول: إن التفجيرات الانتحارية تتنافي مع القيم الإسلامية سواء حدثت في القمر أو أي جزء من العالم.
غير أن السؤال الذي يبقى مطروحا هو هل مجرد فتوى، حتى وإن كانت موقعة من 1800 رجل دين بينهم بعض غلاة المتطرفين أو المعروفين بصلاتهم بتنظيم القاعدة أو حركة طالبان مثل دهيانوي وفاروقي وحامد الحق، بامكانها تغيير المشهد الدموي في باكستان أو أي بلد آخر من البلدان المبتلية بالتطرف والتشدد؟.
الإجابة هي لا! وذلك من واقع سوابق كثيرة. حيث سبق وأن أصدرت جهات وقيادات إسلامية مرموقة (مثل مشيخة الأزهر وهيئة كبار العلماء بالسعودية) فتاوي من هذا النوع ضد جرائم تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، فلم تزدها تلك الفتاوي إلا إصرارا على الإستمرار في غيها وحماقاتها الدموية البشعة. بل حتى في باكستان نفسها سبق وأن أصدر علماؤها في ديسمبر من العام الماضي فتوى بأن الصلاة خلف أئمة يؤيدون الإرهاب والهجمات الانتحارية على المسلمين والمساجد والنساء والأطفال وقوات الأمن الباكستانية "حرام" شرعا. فما كان من المستهدفين بالفتوى، وفي المقدمة منهم زعماء حركة طالبان الباكستانية إلا أن ردوا برفض تلك الفتوى زاعمين، أن ما يقومون به من إزهاق للأرواح وتخريب للمتلكات، جزء من "فريضة الجهاد"!
المراقبون للمشهد الباكستاني يقولون أيضا أن الفتوى الباكستانية مجرد إبراء للذمة، بمعنى أن إسلام آباد هي أول المقتنعين بعدم جدواها في بلد تجذرت فيه ثقافة القتل والعنف أو ما يسمى بـ "ثقافة الكلاشينكوف" منذ زمن تحوله إلى منطلق وجبهة للمجاهدين الافغان في ثمانينات القرن الماضي. وهذا يقودنا إلى التأكيد مجددا على أن المشكلة أكبر من أن تجد طريقها نحو الحل بمجرد فتوى. إذ أن هناك مئات الآلاف من الشباب الباكستاني والأفغاني ممن رضعوا المفاهيم الجهادية ووسائلها الانتحارية، وغـُرست في أدمغتهم منذ الصغر أن العنف والقتل والتدمير ضد "الدولة الكافرة" من صحيح الإسلام، ووسيلة من وسائل التقرب إلى الله وبلوغ الجنة والتمتع بنعيمها. وعليه فإن هؤلاء ليس من السهل أن يعودوا إلى جادة العقل والصواب بمجرد صدور فتوى، خصوصا إذا كان مصدر تلك الفتوى شخصيات دينية محسوبة على "الدولة الكافرة" التي يحاربونها.
ولعل ما يعزز كلامنا هذا هو أنه لم تمر سوى أيام معدودة على الفتوى الباكستانية إلا والإرهاب الجبان يضرب أفغانستان من خلال ثلاث عمليات وحشية غير مسبوقة لجهة الهدف وأعداد الضحايا، أولاها تلك التي تبنتها طالبان واستهدفت فندق انتركونتيننتال، أكبر وأفخم فنادق العاصمة كابول، وثانيتها تلك التي تبنتها طالبان أيضا واستـُخدمت فيها سيارة إسعاف مفخخة تم تفجيرها في أكثر مناطق كابول اكتظاظا بالسكان فحصدت أرواح أكثر من مائة قتيل وأكثر من 158 جريحا، وثالثها تلك التي تبناها دواعش أفغانستان واستهدفوا فيها مكاتب مؤسسة "إنقذوا الطفولة" الدولية في مدينة جلال آباد.
في سياق الحديث عن الفتوى الباكستانية كتب صديقنا الأستاذ مشاري الذايدي مقالا تحت عنوان" فتوى باكستانية ضد الإرهاب... ما الجديد؟" في صحيفة الشرق الأوسط (17/1/2018) قلل فيه من الأثر الناجع المطلوب للفتوى المذكورة، متسائلا: "هل يعني هذا كفّ رجال الفتوى الرسمية عن إكمال هذا الجهد والاستمرار فيه؟"، ومجيبا بـ" أكيد لا... فهو واجب ديني وإبراء للذمة، أولا، ثم هو (مرابطة) على جبهة الصراع الفكري والمعنوي مع هؤلاء القتلة ثانياً".
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: فبراير 2018
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
عبارة الهامش:
هل مجرد فتوى، حتى وإن كانت موقعة من 1800 رجل دين، بامكانها تغيير المشهد الدموي في باكستان أو في أي بلد آخر من البلدان المبتلية بالتطرف والتشدد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق