جولة على بيادر الفكر للاستاذ كامل المر/ جورج الهاشم

جولة، مع الاستاذ كامل المر، على بيادر الفكر تعود منها متعطشاً لمزيد. وككل جولة تكون سريعة وتفقديّة في المقام الاول. تحرِّضك على المزيد من الاستقصاء والتحرّي عمَّن عرَّفنا اليهم بشكل سريع. لقد مرَّ في جولته هذه على كثيرين. منهم من أشتهرشرقاً وغرباً كجبران. ومنهم من هو معروف على نطاق العربية  كعبد الوهاب البياتي.  ومنهم من هو معروف ومغبون لبنانياً وعربياً كعمر فاخوري. ومنهم من هو محدود الشهرة لبنانياً كعصام حدّاد والأب طانيوس منعم. كما خصَّص مساحات واسعة من الكتاب لتسليط بعض الضوء على أقلام عربية استرالية كالمبدع الراحل الشاعر نعيم خوري والاكاديمية سمر العطّار والشاعرين الناشطين، كلٌ في مجاله، مريم شاهين رزق الله وشوقي مسلماني.                  
 أحد أهداف الاستاذ كامل المر من هذه الجولة أن يمسكنا أول الخيط، وعلينا نحن أن نتابع الاستقصاء والتعمق. وبعض من سلَّطَ عليهم الضوء هم من المنسيين الذين يستحقون ان يتصدروا المشهد لمواقفهم الوطنية والقوميّة المتحررة. فعمر فاخوري مؤلِّف "الفصول الاربعة"، و "الباب المرصود" وكتاب "كيف ينهض العرب" وغيرها،  مات فقيراً منسياً بعد أن باع مكتبته (*) ليشتري الادوية التي كان بأمسّ الحاجة اليها.  ألانظمة التي كان يستنهضها ويدافع عن كرامتها،  أبعدته  عن كتب التاريخ والادب وعن المناهج الدراسيّة. هذه الأنظمة تستبعد المصلحين، المتحررين، اللاطائفيين، من التداول في حياتهم وبعد موتهم وتعطي الصدارة في مناهجها للسّفاحين، القتلة، من الامراء والملوك والحكّام وتسمّي العصور باسمائهم،  بدل تسمية العصور على اسم المتنورين الذين أغنوا الحضارة العالمية أمثال ابن سينا أو ابن الهيثم أو البيروني. وعمر فاخوري، المسلم الديمقراطي كما كان يوقِّع مقالاته، هو القائل "على العربي أن يشد أواصره بالعربي قومياً وأن يقطع الاواصر الدينية بالتركي" عندما كانت تركيا أميركا اليوم. ومن المؤسف يا عمر أن أخبرك  أن العربي شدَّ أواصره، ليس فقط بالتركي، بل بكل الامم الطامعة بأرضه وخيراته. وابتعد بشكل مأساوي عن أخيه العربي. وسؤالك يا عمر: كيف ينهض العرب؟ لا زال يقلقنا ويقلق كل المخلصين.              
أما المنسي الآخر، والذي اضهدته الكنيسة حياً وميتاً، والذي لم ينصفه المجتمع، فهو الأب، والمعلم، والكاتب والشاعر المناضل طانيوس منعم. لقد أجاد الاستاذ كامل المر باعطاء فكرة واضحة عن الأب منعم المضطهَد، المدافع عن حقوق الفقراء والمعدمين والمضطهدين. عن الشاعر الذي استخدم الشعر منبراً لجلد المتسلطين كقوله ص 29: عُصبةٌ تنصرُ الدخيلَ/ لتبقى/ تلثمُ الارضَ دونه والحذاءَ/ وادَّعَتْ حُبَّنا/ فكان ثراءَ / وادّعت خيرَنا / فكان شقاءَ... فمعظم حكامنا العرب، أيها الأب المتنبىء، تدّعي حبنا حتى الموت. موتنا نحن بالطبع. وتدعي خيرنا وكلنا يرى "الخير" الذي ننعم به في هذه الاوطان المنكوبة بحكّامها الذين يقبلون، كما قلت،  الحذاء ليبقوا، وأكثر من الحذاء إذا لزم الامر. وقد لزم.                   
                                                     
    ألاستاذ كامل المر، الذي عرف الأب منعم عن قرب، رسم خطوط صورته العريضة التي تظهر فكرَ هذا الكاهن  وأدبَه ونضالَه وتدفع المهتمين الى متابعة البحث لابراز وتوضيح معالم هذه الصورة الانسانية النبيلة . هناك ملفات ووقائع مبعثرة عن الاب منعم، احدى هذه الوقائع ذكرها القاضي يوسف جبران المتوفي سنة 1999 .  والقاضي جبران كان الرئيس الاول لمحكمة التمييز ووزير العدل في عهد الرئيس سركيس، والذي كان حاكماً منفرداً جزائياً في البترون في خمسينيات القرن الماضي، تعطيكم فكرة اضافية عن الاب منعم الذي كان كاهن رعية البترون. كان يبدأ الصلاة بمباركة المصلين راسماً اشارة الصليب قائلاً: باسم الآب والابن والروح القدس ثم يتابع قائلاً: وباسم الله الرحمن الرحيم. مما أثار حفيظة رؤسائه فقاموا بتفتيش غرفته في الدير الذي يقيم فيه. فعثروا، ويا للهول!  على كتب مسيحية وكتب اسلامية وعلى كتب ماركسية. فادعوا عليه بتهمة تحقير الشعائر الدينية والتجديف على اسم الله. كما اتهموه بالشيوعية لحيازته على كتب ماركسية.                                          
تمَّت محاكمتُه أمام القاضي يوسف جبران فحكم عليه بالبراءة مستنداً الى أن باسم الله الرحمن الرحيم لا تُعَدُّ تجديفاً بل تؤكِّد على وحدة الاديان واعترافها باله واحد. أما الكتب الماركسية  فهي من حق المعرفة والثقافة والعلم والاطلاع على الافكار الفلسفية وهي من صميم شرعة حقوق الانسان وهي من صلب كافة الدساتير في الدول المتحضرة.                              
  رحم الله القضاء النزيه الذي نفتقده اليوم في الكثير من انظمتنا العربية المتخلفة التي لا زالت تحاكم ابن سينا والحلاج  ونصر حامد ابو زيد وفرج فودة وكل المتنورين في عالمنا العربي التعيس.                                                                                               
ما أحوجنا اليوم الى فكر أمثال عمر فاخوري والأب طانيوس منعم. وما أحوجنا أكثر الى أمثال الاستاذ كامل المر الذي يعمل على الكشف عن المثقفين الحقيقيين الذين يستحقون أن يتصدروا الصفوف الامامية في ثقافتنا، بعد أن احتل معظم مقاعدها الكثير من مثقفي السلطان.                                                                                                         
تُشكر استاذ كامل على هذه الجولة الموَفَّقة والى جولات وجولات. والسلام.                      

جورج الهاشم – 20/03/2018   (كلمة ألقيت بمناسبة اطلاق الكتاب)                                                
                                                               
(*) يقول الاستاذ كامل ص 45 نقلا عن الصحافي قيصر الحايك في جلسة خاصّة ان رئيف خوري وبعض اصدقاء عمر أمَّنوا له الدواء من مالهم الخاص ولم يسمحوا ببيع مكتبته. بينما يقول مارون عبود، صديق عمر المقرّب والذي كتب عنه الكثير حياً وميتاً، في كتابه في المختبر ص 149  -  المجموعة الكاملة – المجلّد الرابع ما يلي: "فاضطر (عمر)  الى بيع أعزّ المقتنى، وكانت مكتبته كبش المحرقة".                                                                                  
                            
                                

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق