من يواظب على قراءة مسرحية شكسبير الأكثر شهرة " هاملت " قد يخرج بسؤال هو : لماذا كان بولونيوس ( مستشار الملك ) اول ضحية في المسرحية , تلته ابنته أوفيليا ومن ثم ابنه ليريتس ؟ أي اختفاء العائلة
بكاملها . علما أن ثلاثة قتلى يشكل نصف مجموع من سقطوا صرعى في المسرحية , اذا استثنينا مقتل رسولي الملك في انجلترا وليس على أرض الدنمارك , بلد هاملت .
تسلسل سقوط الضحايا : 1- بولونيوس 2- أوفيليا ( ماتت غرقا ) 3- أم هاملت ماتت بالسم المخصص أصلا لأغتيال ولدها هاملت ساعة المبارزة
4- الملك كلوديوس مات بطعنة سيف مسموم ثم أرغم على الشرب من ذات الكأس المسموم الذي فتك بزوجته ( أم هاملت ) 5- ليرتس ابن بولونيوس وشقيق أوفيليا , مات بطعنة سيف مسموم ساعة المبارزة مع هاملت 6- وآخر ضحية هو هاملت نفسه , مات بالطعنة المسمومة أيضا
سددها له ليرتس .
فماذا يعني موت عائلة بأكملها لا علاقة لها ظاهريا بمؤامرة اغتيال والد هاملت , يتتابع الموت عليها على أساس : رجل - امرأة - رجل ؟ ولماذا
تقدم هذه العائلة أول ضحية في المسلسل الدموي للأحداث ؟
اني لأجرؤ أن افترض ان مصرع بولونيوس لم يكن خطأ غير مقصود رغم أن هاملت يسأل أمه لحظة مقتله : ( هل هو الملك ؟ ) وكان قد سمع صوت القتيل , الذي يعرفه جيدا , صارخا قبل أن يلفظ آخر أنفاسه :
O, I am slain ?
يدعم هذا الفرض الفرصة التي سنحت قبل هذا الحادث والتي كان هاملت فيها قادرا أن يقتل عمه الملك الحالي وزوج امه ساعة كان هذا جاثيا يصلي. لقد احجم هاملت - وكان قادرا - عن قتل عمه بدعوى ضعيفة يزعم فيها أنه لو قتله ساعة الصلاة فانه بذلك سيمهد له طريق الدخول الى الجنة .
ان حوارات هاملت مع عمه من قبيل أن رجلا فقيرا قد يأكل ملكا , على أساس أن الأنسان يصطاد السمكة بدودة والدودة تأكل الأنسان بعد موته ودفنه تحت التراب . ثم أن السمكة تأكل الدودة والسمكة بدورها تصبح غذاء للأنسان وهكذا تستمر دورة الحياة . ان هذا النمط من التفكير الجدلي
- المادي يتعارض مع افتراض الفكر المثالي لدى هاملت .
وكذلك حواره الشيق مع حفار القبور حول مصير جثمان الأسكندر (المقدوني ذي القرنين ) حيث يتحول الى تراب ثم الى طين لأحكام غلق برميل بيرة . أو كيف أن القيصر يموت متحولا الى طين يمكن أن يسد به ثقب تأتي منه ريح ! لقد قال أبو العلاء المعري شيئا شبيها بهذا قبل شكسبير بقرون في قصيدته الشهيرة " ضجعة الموت رقدة " اذ قال :
صاح ! هذي قبورنا تملأ الر حب فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ! ما أظن اديم ال أرض الا من هذه الأجساد
سر ان استطعت في الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباد
رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحك من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين في طويل الأزمان والآباد
اجل , ان رأسا يحمل مثل هذا النمط من التفكير الفلسفي لا يمكن أن يكون مثاليا .
أعود الى سؤالي اياه : لماذا يقتل بولونيوس ولماذا يكون أول قتيل في المسرحية ؟ ساتجاوز تأريخ هذا الرجل لأنه غير معروف . أعني من وما كان زمن ملوكية والد هاملت قبل أن يغتاله شقيقه كلوديوس ؟ أكان كذلك مستشارا له ؟ لا جواب عن هذا السؤال في نصوص المسرحية . الجواب هام لا سيما اذا افترضنا أن هذا المستشار كان متواطئا بشكل ما في حادث مصرع والد هاملت . أو أنه في الأقل كان على علم بجريمة القتل بالزئبق مسكوبا في أذنه وليس كما أشاع القاتل من أن الموت كان بسبب لسعة افعى سامة . اذا كان الأمر كذلك فسيصبح من اليسير جدا تفسير مواقف هاملت الساخرة والمهينة منه في كافة المناسبات . يضاف الى ذلك طبيعة هذا الرجل العجوز المفرطة في الغرابة . أبرزما يميز هذه الشخصية :
1- تجسسه على ولده ليرتس في مقر اقامته للدراسة في باريس وجمع المعلومات عنه وعن أصدقائه .
2- التدخل الفظ في الشؤون الشخصية لأبنته أوفيليا وتوجيهها كقطعة شطرنج وتحذيرها من هاملت وأن لا تصدق دعاواه وأدعاءه الحب وما الى ذلك .
3- كان أول من نعت هاملت بالمجنون . فلقد ربط بين غرابة تصرفه مع أوفيليا وذهاب عقله . ثم عاد فعزا جنونه الى صدود أوفيليا عنه ورفضها لرسائله والألتقاء به انصياعا لأمر والدها . لنسمع هذا الحوار بينه وبين ابنته أوفيليا :
Polonius : What , have you given him any hard words
of late ?
Ophelia : No, my good lord . But, as you did command
I did repel his letters and denied his access to me .
Polonius : That hath made him mad .
ثم عاد فأكد ذلك للملكة والملك في مناسبة أخرى اذ قرأ أمامهما رسالة من هاملت لأبنته أوفيليا ثم قال :
Polonius : I will be brief . Your noble son is mad.
4- وكان هو الذي اقترح خطة تدبير لقاء مفاجيء بين ابنته أوفيليا وهاملت
كي يقدم للملكة والملك الدليل القاطع على سبب جنون هاملت المزعوم :
هيامه بأوفيليا . وكان من الثقة اذ تبجح أن لو كان الأمر خلاف ذلك فانه
سوف لن يكون مساعد دولة ( على حد تعبيره ) بل مزارعا وخادما . وبسبب طبيعته غير الودية تجاه هاملت , اقترح أن يختبيء والملك وراء ستارة لمراقبة مثل هذا اللقاء . التجسس مرة أخرى .
5- وحصل بالفعل هذا اللقاء ولكن في غياب أم هاملت . أربعة أشخاص في أبهاء القصر الملكي في قلعة آلسينور.هاملت مع أوفيليا وجها لوجه دون أن يتوقع وجودها . أبوها - المخطط والمدبر - والملك يراقبان هذه المواجهة مختبئين . وفي هذا اللقاء يسخر هاملت من أوفيليا وينفي بشدة أن يكون قد قدم لها هدايا ويسألها أسئلة جارحة ومذلة وغريبة من قبيل ( هل أنت شريفة ؟ ) أو ( هل أنت عادلة ) ومن ثم ينصحها أن تدخل ديررهبنة ( أن تترهب ) . انه هنا يغير مجرى النقاش بشكل فجائي فيسألها أين أبوها ؟ هذا السؤال يستلزم أن نقف عنده قليلا لأنه يحمل في تضاعيفه عدة معان بل وعدة تفسيرات . اني أميل للظن أن هاملت كان لديه الشعور الأكيد بأنه تحت المراقبة وأن أوفيليا المسكينة تلعب دورا خبيثا مرسوما لها بدقة . وأنها ضحية مؤامرة قذرة هدفها اثبات أن هاملت انما لمجنون . ومن المستفيد من هذه المزاعم ؟ عم هاملت القاتل الذي اغتصب التاج وعرش الدنمارك وأم هاملت ( زوجة الملك القتيل ) ثم بولونيوس المنافق العجوز والمشعوذ . ويسير جدا معرفة الدوافع :
كلوديوس الملك الحالي وعم هاملت ثم زوج أمه جيرترود , يسعى للتخلص
من هاملت بأي ثمن , لأنه هو وريث العرش بعد أبيه . ولأنه في سريرته
وفي أعماقه مقتنع أن ما يشغل فكر هاملت في واقع الأمر هو غرابة قصة
موت أبيه وليس هيامه بأوفيليا ولا صدودها عنه حسب اجتهاد أبيها . فمنذ أول مواجهة بينه وبين عمه وأمه يوجه له عمه السؤال الشهير: ( ما للسحب مخيمة عليك ؟ ) فيجيبه : ( ليس كذلك سيدي . انني تحت الشمس أكثر من اللزوم ) . وتتدخل أمه معزية وطالبة منه أن ينحي عنه ( اللون الليلي ) وأن تكون نظرته تجاه الدنمارك نظرة صديق . تقصد طبعا عمه، زوجها وليس الدنمارك حرفيا . أن ينظر الى عمه نظرة صديق . ويعلق العم القاتل أنه لشيء جميل من هاملت أن يحزن على أبيه ويذكره أن أباه قد فقد أباه وهذا بدوره فقد أباً له وأن الحي مربوط بأجل . أما ضلوع بولونيوس في مؤامرة الزعم بجنون هاملت فلكي يتخلص منه ملكا على عرش الدنمارك ولسببين :
أولا - اذا ملك هاملت عرش الدنمارك فلا مكان لبولونيوس العجوز الخرف في بلاطه .
ثانيا - طموحه في أن يؤول العرش بعد كلوديوس الى ابنه ليرتس .
6- وأخيرا انه بولونيوس الذي يجهد في أن يتابع سراً لقاءً بين هاملت وأمه يتم في جناحها . ويقترح على الملك أن لا يدع الأم وولدها وحيدين ، اذ أن الطبيعة - كما قال هو - تجعل كلا منهما جزءا من الآخر . إنه لا يثق حتى بالملكة ويتهمها بالتواطؤ أو التعاطف مع هاملت . يروم من هذا اللقاء اختبار نوايا هاملت وكشف أسراره وخبايا نفسه على أن تقوم الأم بهذا الدور بينا يختبيء هو خلف ستارة . وفي هذا اللقاء يتم مصرعه . الصدفة تلعب أحيانا أدوارا ثانوية في الحياة، لكنَّ الفلسفة تقرر أن الصدفة
هي طريق تجلي الضرورة . فأذا كانت هذه المقولة سليمة يغدو مصرع بولونيوس وفي هذه الساعة أمرا مفروغا منه بحكم الضرورة . كأنما كان قرار هاملت أن يتخلص من هذا الرجل قبل سواه وبأسرع ما يمكن . في لحظة الهجوم عليه متواريا خلف الستائر صرخ هاملت مجردا سيفه : جرذ ؟ ميّت بدوكات، ميت . ( الدوكات عملة نقدية صغيرة القيمة ) إنه لا يثق حتى بالملكة ويتهمها بالتواطؤ أو التعاطف مع هاملت . يروم من هذا اللقاء اختبار نوايا هاملت وكشف أسراره وخبايا نفسه على أن تقوم الأم بهذا الدور بينا يختبيء هو خلف ستارة . وفي هذا اللقاء يتم مصرعه . الصدفة تلعب أحيانا أدوارا ثانوية في الحياة , لكن الفلسفة تقرر أن الصدفة هي طريق تجلي الضرورة . فأذا كانت هذه المقولة سليمة يغدو مصرع بولونيوس وفي هذه الساعة أمرا مفروغا منه بحكم الضرورة . كأنما كان قرار هاملت أن يتخلص من هذا الرجل قبل سواه وبأسرع ما يمكن . في لحظة الهجوم عليه متواريا خلف الستائر صرخ هاملت مجردا سيفه :
جرذ ؟ ميت بدوكات , ميت . ( الدوكات عملة نقدية صغيرة القيمة ) .
لقد أطلق هاملت على عمه شتى النعوت البذيئة من قبيل: قاتل . سافل . نذل . جبان . عاهر ... الخ. لكنه لم يقل له أو عنه ( جرذ ) . ودوكات رمز واضح : أجر زهيد لعملية تجسس خسيسة يقوم بها هذا الرجل لصالح آخر . لذلك يخيل لي انها كانت عملية قتل مع سبق الأصرار كما يقول الحكام والقضاة في أيامنا هذه . انه حكم الإعدام قام هاملت بتنفيذه في بولونيوس في الزمان والمكان المناسبين . في هذا اللقاء تحصل محاورة طريفة بين الأم وولدها هاملت . وكعادته يبرع شكسبير في فن اللعب بالألفاظ تقديما وتأخيرا أو مطابقة الأضداد سواء في المعاني أو الكلمات. تقول له أمه : هاملت، لقد أسئتَ كثيرا لوالدك ( كانت تقصد عمه , زوجها الحالي ) فيجيبها هاملت : أماه، لقد أسئتِ كثيرا لوالدي ( يقصد بالطبع والده القتيل ) !! كيف يجتمع زوجُ أمٍ قاتل ( ووالد بحكم القانون ) مع أب حقيقي مقتول غيلة وغدرا ؟ . تقول له أمه : تعال، تعال، تجيب بلسان أهوج . فيجيب :
إذهبي، إذهبي , تسألين بلسان شرير . ( نلاحظ الجمع بين الفعلين المتناقضين تعال - اذهب وبين النقيضين تجيب - تسأل ) الآن وبعد أن عرفنا شيئا عن سجايا وتصرفات ودوافع بولونيوس , من الواجب أن نقف على طبيعة نظرة هاملت تجاه هذا المستشار . هاملت ومنذ البداية لا يحترم هذا الرجل . بل ويحتقره ويسخر منه حتى بحضور الآخرين . لقد حصل ثاني لقاء بين الرجلين حسب تسلسل أحداث المسرحية في الصفحة 53 من أصل 143 صفحة ( طبعة بنجوين 1980 ) جاء بولونيوس وكان هاملت منصرفا لأستقبال مجموعة الممثلين حيث طلب منهم أن يلعبوا أمام عمه الملك القاتل نصوصا تشبه في جوهرها أحداث مصرع أبيه . لقد تجاهله هاملت حتى أنه لم يرد على تحيته . وحينما قال له : سيدي، لديَّ أخبار لأقولها لك . ردد هاملت هذه الجملة بالنص كلمة كلمة : سيدي، لديَّ أخبار لأقولها لك . ثم اردف سائلا : متى كان روسيوس ممثلا في روما ؟ هاملت يستغل هذا اللقاء فيرمز الى ابنة بولونيوس ( أوفيليا ) تورية اذ يشير الى حكيم اسرائيل في التوراة ( يفتاح ) وأبنته ( ألكنز ) حيث قدمها أبوها أضحية - كما وعد الأله يهوه - بعد أن انتصر على العمونيين . فلماذا السخرية ولماذا الربط بين الرجل وأبنته في أول لقاء مواجهة يحصل بينهما كما سنرى عما قريب . هل كان هاملت بحسه المرهف وذكائه يعلم أو يحدس أن بولونيوس يحمل نوايا سيئة تجاهه كاتهامه بالجنون خدمة لمخطط رهيب يستهدف اقصاءه عن البلاط وعن العرش ووراثة العرش , بل وعن البلاد بأسرها ؟ أمن الممكن افتراض أن والدته الملكة كانت تسرب لولدها بعض الأخبار وما يكاد له في السر من دسائس بغية أن يظل الوارث الوحيد لعرش المملكة ؟ أو ربما تكفيرا عن ذنب جريمة مقتل أبيه التي لم تقترفها هي لكن عرفت بها بعد وقوع ما وقع ؟ أو لأن الأم هي الأم في نهاية المطاف ؟ انها لا شك تراقب ما يدور أمامها وما يحاك من دسائس ضد ولدها الوحيد والوارث الوحيد لعرش الدنمارك . هي كانت تسعى جاهدة أن ترسي الأساس المكين لحياة مستقرة ينعم هاملت بها . وكانت تطمح أن تكون
أوفيليا زوجة له . ولقد قالت ذلك بصريح العبارة ساعة دفن جثمانها اذ ماتت غرقا :
( كان أملي أن تكوني زوجة لولدي هاملت ) أما اللقاء الأول بين هاملت وبولونيوس فلقد وقع متأخرا على الصفحة 47 من المسرحية اذ يدخل هاملت فيطلب بولونيوس من الملك والملكة أن يخرجا كي يتفرغ لإعتراضه وحيدين . وهنا يتهكم هاملت ويسخر من بولونيوس بشكل ليس له مثيل . انه أول لقاء في أول مناسبة يتواجه فيها الرجلان . فلماذا يتهكم هاملت ويسخر من مستشار الملك دونما سابقة تفترض أو تتطلب ذلك ؟ سؤال وجيه ولا بد له من جواب مناسب . كيف كان هذا اللقاء ؟ بعد السؤال عن أحوال هاملت يسأله بولونيوس هل يعرفه ؟ ( هل تعرفني سيدي ؟ ) يجيبه هاملت :
Excellent well .
ثم يضيف : أنت سمّاك . ينفي بولونيوس ذلك فيقول هاملت : إذاً وددت لو كنت رجلا شريفا .
بولونيوس : شريف سيدي ؟
هاملت : إي سيدي . أن تكون شريفا، كما تقتضي سُنّة هذا العالم , يعني أن تكون واحدا في كل عشرة آلاف رجل . ثم يغير هاملت مجرى الحديث بغتة فيسأل الرجل :
هل لديك إبنة ؟ فيجيب بولونيوس : نعم سيدي . فيعلق هاملت : لا تدعها تمشي تحت الشمس . الحِمل بركة . لكن وبما أن كريمتك قد تحمل , أيها الصديق , راقبها .
لماذا يطلب هاملت من بولونيوس أن لا يدع ابنته تمشي تحت الشمس ؟
الجواب في بداية هذا اللقاء :
( الشمس تفرخ الديدان في كلب ميت ) . أليس هذا الكلام يذكرنا بما قال
أبو العلاء المعري :
والذي حارت البريةُ فيه حيوانٌ مُستحدثٌ من جمادِ
أوفيليا إذاً كلب ميت ( فطيس يجيد التقبيل ) وابناؤها ديدان تتغذى على لحم أم ميته . الموت والحياة معا تحت الشمس التي تخرج الحي من الميت ! يستمر هذا النقاش الساخن والساخر ولا يملك القاريء إلّا أن يعجب ويتساءل عن سبب ذلك .
يسأل بولونيوس : ماذا تقرأ سيدي ؟
هاملت : كلمات كلمات كلمات. لقد استعمل هاملت أسلوب التكرار الثلاثي عدة مرات في هذه المسرحية ( أحصيت خمسا ) .
شبح والد هاملت هو المحرك الفعال وراء هاملت . وكان أبلغ وأخطر حضور لهذا الشبح هو الظهور الأخير أمام هاملت ساعة الحوار الساخن مع أمه بُعيدَ مصرع بولونيوس . ظهور وغياب . تجلّي حياة غير حقيقية في صورة شبح في إثر موت حقيقي . الموت والحياة وجهان لعملة واحدة لا يفترقان متلازمان تلازم الليل والنهار . لا نهار دون ليل ولا ليل دون نهار. ساعة التجلي الأخير للشبح تقرر الوالدة أن ولدها مجنون . اعتقدت أنه يكلم الفراغ , لأنها لم تستطع رؤية الشبح الذي يراه هاملت . الإبن قادر أن يرى أباه القتيل حتى ولو على هيئة شبح ( ما أعظمك من شكسبير ! ).
أما المرأة التي قبلت القاتل زوجا قبل أن يبلى حذاؤها ... فلا تستطيع ! أو لعل القتيل غدرا يرفض أن يرى زوجته السابقة وقد تزوجت قاتله. يجتمع الثلاثة اجتماعا كاملا من جهة الأبن هاملت , وناقصا من جهة الزوجة - الأم . الإبن بين والديه وهذا الأمر طبيعي . أما الزوجة السابقة فقد انفصلت عن زوجها السابق لا بموته فقط بل بزواجها من سواه . لكنه ما زال حيا ... شبحا حيا ساخنا يراقب الأحداث ويحض ولده أن يأخذ الثأر ما دام سليم الطبيعة
If thou hast nature in thee ,bear it not
وفي لقائه العاصف مع أوفيليا نصحها أن تترهب أو أن تتزوج من رجل تافه . لأن الرجال العقلاء - كما أفاد - يعرفون حق المعرفة أن النساء تجعلهم مسوخا . لقد تحول هاملت تجاه اوفيليا وأنكر الغرام ورسائل الحب وأشعار الغزل . ثم تهجم عليها مباشرة أو من خلال أبيها . وبعض الهجوم كان بالغ القسوة جارح الكلمات . وغدا شديد الوضوح في عدائه للزواج والإنجاب والنساء في شخص أوفيليا . وأوفيليا هي العنصر النسائي الوحيد في القصر وفي المسرحية اذا ما استثنينا الملكة . فما هو تفسير ذلك ؟ أيجوز القول إنَّ هاملت قد وهب نفسه كلية لمسألة كشف الجناة وتعريتهم
أمام رجال القصر وباقي الملأ تمهيدا للأنتقام وأخذ الثأر لدم أبيه القتيل ؟ لقد اقتنع هاملت برواية اغتيال أبيه وكان أبوه نفسه مصدر هذه الرواية وكان المصدر الوحيد اذ تعذرت المصادر الأخرى وتم التعتيم على الجريمة. وكان شكسبير عبقريا في اللجوء الى هذا الحل . وكان الشبح بليغا وصريحا اذ قال لهاملت :
I am thy fathers spirit
وبعد أن بين له حقيقة مصرعه لا بلدغة ثعبان مزعوم قال له : ( الحية التي لسعت أباك تلبس الآن تاجه ) فعلق هاملت على ذلك فورا قائلا :
O my prophetic soul ?
My uncle ?
العم هو القاتل إذاً ! ولقد جاء الدليل قاطعا من فم الضحية الأعز : الوالد .
أصبح طريق هاملت واضحا وليس أمامه سوى هدف واحد : الإنتقام كما
طلب منه أبوه .
أيطال الأنتقامُ أمَّ هاملت ؟ الجواب كلا . لم يطلب أبوه منه ذلك . بل طلب
منه أن يدعها للسماء :
Leave her to heaven
وقبيل غيابه مودعا طلب من ابنه أن لا ينساه :
Adieu , adieu , adieu . Remember me
.إمرأتان فقط في حياة هاملت ( حسب نصوص المسرحية ) :
أ - أم خانت زوجها اذ اقترنت بقاتله . ولا أحد يعرف أكانت ضالعة في
الجرم أم لم تكن . الوالد القتيل لم يشأ أن يبت في أمرها لمما يدل على عدم
توفر القناعة لديه . طلب من ولده أن يترك أمرها لحكم السماء . فان كانت
جانية ومتورطة في الجريمة فالسماء لا هاملت أولى بالأقتصاص منها .
انه درس بليغ لهاملت أن يحترم أبويه كليهما. أما نهاية هذه المرأة فتستحق هي الأخرى الوقوف طويلا ثم السؤال :
أكان في شكل مصرعها دليل على تورطها في مقتل زوجها السابق ؟ اذ تموت بالسم الذي أعده زوجها الحالي كي يقتل به خصمه الألد : هاملت، ولدها . أم اراد شكسبير أن يقول لنا أن الأم تضحي بحياتها من أجل سلامة أبنائها ... شاءت ذلك أم أبت . وأن هذا هو قدرها ودورها ومصيرها . إنها ما كانت تدري أن الشراب مسموم , لكننا نواجه مرة أخرى مقولات الفلسفة التي لا مفر منها : الصدفة والضرورة، والضرورة في الصدفة . الضرورة تفرض نفسها من خلال مضائق ومعابر ومتاهات الصدف . فموت الأم هو حتم وإنْ جاء عن طريق مخطوء إلّا اذا افترضنا أمرين :
أولا : أن زوجها القاتل أراد أو كان يسعى لقتلها خلاصا منها جرّاء تعاطفها الواضح مع ابنها خاصة بعد انكشاف المخطط الرهيب الذي أعده الزوج لقتل هاملت منفيا الى انجلترا ونجاة هاملت منه .
ثانيا : إنها في جوهرها عملية انتحار تكفيرا عن شعور بالذنب عميق قابع في قرارة نفسها . ولقد صارحها هاملت بعيد مصرع بولونيوس بمسألة قتل والده وزواجها من أخيه القاتل :
Queen : O, what a rash and bloody deed is this ?
Hamlet : A bloody deed - almost as bad, good mother
As kill a king and marry with his brother .
لم تمت بسيف ولدها ولكنها قتلت في مجرى تأريخ أعمى زنيم وأحداث دامية وعصر طغت فيه شهوة الدم والفتك والدسائس والسموم . فاذا قضت عدالة السماء أن يموت القاتل وشركاؤه فلماذا يموت بريء كأوفيليا وهاملت وليرتس ؟
ب- فتاة صغيرة بريئة " اوفيليا " سُخِّرت أن تلعب دورا خبيثا للبرهنة على
جنون هاملت . ولما أحسَّ أو عرف أو تناهى اليه أن هذه الصبية قد ضلعت هي الأخرى في مؤامرة كبيرة دون أن تعي خطورة هذه المؤامرة أعرض عنها موبّخاً شاتما وشامتا وكال لها الإهانات كما رأينا آنفا .
نُكبَ هاملت بإمرأتين وأمامه هدف كبير واضح شديد الوضوح : الثأر لدم أبيه القتيل . فكيف يتزوج ومن سيتزوج ؟
ختام : هل افتعل شكسبير حادث موت أوفيليا غرقا لتصعيد الفعل الدرامي لدى ليرتس كي ينتقم من هاملت مرة لأبيه والأخرى لشقيقته ؟ يصعب الإتفاق وشكسبير حول هذه الأطروحة . فمقتل الوالد - كما هو الحال مع هاملت - يكفي أن يقلب الإبن بركانا للثأر، وأخو الثأر يقظانُ لا يحلم كما يقول بعض الشعراء. ما هو البديل إذاً ؟ البديل هو أن تبقى أوفيليا حية دون أن يؤثر بقاؤها حية على مجمل ما يأتي من أحداث . ليمت من مات . وستكون أوفيليا ملكة على عرش الدنمارك أو النرويج بزواجها من أمير النرويج فورتنبراس
Fortinbras
وعندئذ يكون الختام رائعاً . أوفيليا ضحية بريئة لا مبرر لموتها أبدا وقاريء المسرحية يريدها أن تبقى حية حتى نهاية المسرحية رمزا لإستمرارية الحياة وكمال دورتها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق