الشعراء والحجّاج/ د. عدنان الظاهر

مقدمة :
قرأنا في التأريخ القديم والحديث أنَّ فئاتٍ ليست قليلة من الشعراء غيّرت مواقفها من المستبدين والمسرفين والظّلَمة من الحكام حين رأت حياتها في خطر. مدحوهم بعد أن ذموهم وشتموهم وبالغوا في الحط من أقيامهم. ليس هذا الحال كما نعلم وقفاً على الشعراء الذين يقولون ما لايفعلون ونراهم في كل وادٍ يهيمون، إنما ذلكم حال الكثير من رجال السياسة ومتعاطيها ومحترفيها منذ أقدم الأزمنة. أعني تغيير المواقف وتبديل الولاءات والتنكر للعقائد والإلتزامات، بل والتبرؤ علناً منها كتابةً في بيانات مُشينة ينشرونها على صفحات الجرائد. وكعراقي، أعرف أو عاصرت الكثير من هؤلاء المتقلبين بطناً لظهرٍ ورأساً لعَقِب ويساراً متطرفاً ليمين. كما عاصرتُ آخرين ممن يجيدون فن تغيير أصباغ وجوههم وحالاتهم وألوان أمزجتهم وأهوائهم وتقمّص المصالح سريعة التبدل ولعب الأدوار المسرحية حسب المواسم والفصول وتبدلات حالات الطقس السياسي والأجواء الإجتماعية ومسارات وإتجاهات الرياح. لذا لا أجد في حالة أو ظاهرة الشاعر ( عبد الرزاق عبد الواحد ) شذوذاً أو إنحرافاً عن القاعدة. فُصل من وظيفته التدريسية في متوسطة الحلة للبنين عام 1954 بسبب ميوله السياسية اليسارية. وبسبب قصيدة قرأها زمنَ عبد الكريم قاسم في نادي إتحاد الأدباء العراقيين بإسم (( يا خالَ عوفٍ عجيباتٌ ليالينا / جارى فيها قصيدة الجواهري المعروفة : يا أمَّ عوفٍ عجيباتٌ ليالينا )) أُبعد من وظيفته في بغداد معاوناً لمدير معهد الفنون الجميلة فجاء مدينة الحلة مدرِّساً في ثانوية الحلة للبنين عام  1960 ـ 1961 الدراسي. ولا أدري ما حلَّ به إثر إنقلاب شباط عام 1963 وكان يومها ما زال في الحلة سوى ما سمعتُ من أنه تورط في فضيحة وجده الحرس القومي متلبساً بها في أحد بساتين الحلة. هذا عن شاعر أعرفه جيداً وكانت تربطني به علاقة متينة يومذاك، زمان عبد الكريم يوم كنا نمارس التعليم الثانوي في الحلة. 
تعقيب ضروري : قرأتُ أخيراً كلمةً جيّدةً منشورة في أحد مواقع الإنترنت وجّهها إلى عبد الرزاق عبد الواحد الكاتب والشاعر مفيد عزيز البلداوي وجدتُ نفسي أُخالفه الرأي إذ قال عنه إنه ( شاعر كبير كبير كبير … ). لقد كَبُر عبد الرزاق عبد الواحد بصدام وولده عَديّ شخصاً لا شاعراً، وأفاد منهما إلى الحد الأقصى. إنه ليس بشاعر كبير. لم يكبر بصدام حسين شاعراً كما كًبُر النابغة الذبياني بالنعمان بن المنذر أو المتنبي بسيف الدولة الحمداني. قد يكون ناظماً جيداً والفرق جدَّ كبير بين الناظم والشاعر. ولدينا في الساحة اليوم شخص آخر غيره يحسب نفسه شاعراً كبيراً لكنه كعبد الرزاق ليس إلاّ ناظماً ومصففَ أو مُنَظِّم تفعيلاتٍ لا أكثر. لغة عبد الرزاق جيدة ومتينة لكنه لا يعرف موازين الشعر وبحوره كما أفاد لي مرّةً زمان أنْ كنا في الحلة. هذه ليست مشكلة، إنما المشكلة مع هذين الشاعرين أنهما تخلّفا عن ركب التطور الشعري والحس أو التذوق الفني المعاصر للشعر. تتبدل أذواق الناس وتتبدل أمزجتهم من عقد زمني لآخر، كما تتبدل ( مودات ) السيارات والملابس والأحذية والأجهزة الكهربائية والألكترونية… بل وحتى عالم الكلاب التي يقتنيها الناس في الغرب.
ليس غرضي اليوم أن أتعرضّ أو أقدِّمَ دراسة عن شعر عبد الرزاق عبد الواحد، لكنْ قصدي أن أقدمه للقاريء الكريم أُنموذجاً معاصراً ومعروفاً للتغيّر وتبديل المواقف والولاءات، شأن الكثير من شعراء الزمن القديم كالفرزدق وسواه.

الشعراء والحجّاج بن يوسف الثقفي 
وجدتُ فيما قرأت عن حُقبة الحجّاج يومَ أن كان أميراً لبني أمية على العراق 
( في خلافة عبد الملك وإبنه الوليد / 65 ـ 96 للهجرة ) عدّةً من الشعراء تقلّبَ بعضهم في مواقفه وثَبُتَ البعض الآخر. 
1 ـ الفرزدق 
كان الشاعر الفرزدق من مشاهير من تقلّبَ فمدح بعد أن ذمَّ. كان شعره في زين العابدين عليٍّ السجّاد بن الحسين قد إنتشر كما النار في الهشيم، أعني قصيدته التي قال فيها :

هذا الذي تعرفُ البطحاءُ وطأتَهُ
والبيتُ  يعرفهُ   والحلُّ   والحرمُ 

هذا إبنُ بنتِ رسولِ اللهِ فاطمةٍ
هذا التقيُّ  النقيُّ الطاهرُ  العَلَمُ 

لكنه عاد وإنتكس على أم رأسه فمارس المديح المنافق خلاصاً من جور الحجاج وضماناً لسلامة حياته وكان زعيم عشائر تميم في العراق. ماذا قال الفرزدق في الحجّاج أو سواه من خلفاء بني أُميّة ؟ لنقرأ ما قال في رثاء إبنٍ وأخٍ للحجّاج إسم كل منهما محمد ماتا في يومٍ واحد، وكان أخُ الحجاج والياً له على اليمن 
[ المصدر: الكامل في اللغة والأدب لمحمد بن يزيد المُبَرّد، الصفحة 303 ].
وقال ـ الحجّاج ـ من يقولُ شعراً يسليني به ؟ فقال الفرزدق :
إنَّ الرزيّةَ لا رزيّةَ مثلهُا 
فُقدانُ مثلِ مُحَمدٍ ومحمَّدِ

مَلِكان قد خلتْ المنابرُ منهما
أخذَ الحِمامُ عليهما بالمرصَدِ

فقال ـ الحجاج ـ لو زدتني فقال الفرزدق :

إني لباكٍ على اْبني يُوسُفٍ جَزَعاً
ومثلُ  فقدِهما   للدينِ   يُبكيني

ما سدَّ حيٌّ ولا ميْتٌ مسدَّهما
إلاّ   الخلائفُ من  بعد النبيئينِ

فقال له ما صنعتَ شيئاً إنما زدتَ في حُزني. فقال الفرزدق : 

لئنْ جزعَ الحجّاجُ ما من مصيبةٍ
تكونُ   لمحزونٍ   أجلَّ   وأوجعا

من المصطفى والمُصطفى من خيارِهم 
جناحيهِ   لمّا  فارقاهُ   فودَّعا 

أخٌ كان أغنى أيمنَ الأرضِ كلّهُ
وأغنى أبنهُ أهلَ العراقيينِ أجمعا

جناحا عُقابٍ فارقاهُ كلاهُما
ولو نُزِعا عن غيرهِ لتضعضعا 

لقد كذب الفرزدق ونافق وإفترى إذ قارن فقيدي الحجاج بالخلفاء عامّةً الذين حكموا  بعد وفاة الأنبياء. وإشارة الفرزدق في بيته ( ما سدَّ حيٌّ …) ليست خافية، فإنها الكفر بعينه، ذاك لأنَّ إسمي موتى الحجاج محمدٌ إبنه ومحمد أخوه الذي كان خليفته على بلاد اليمن كما قدّمتُ آنفاً. فتحصيلُ الحاصل أنَّ محمداً بن يوسف الثقفي خليفة ٌوالحجّاج أخاهُ نبي !! هل نقبل مثل هذا الكلام من زعيم بني تميم ؟؟
 2 ـ أعشى هَمَدان / شاعر ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث  عام 82 للهجرة.
نقرأ في الجزء الثالث من كتاب (( مروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعودي / على الصفحتين 131 ـ 132 من الطبعة الرابعة 1981 ، دار الأندلس ، بيروت )) ما يلي [[ خروج إبن الأشعث : وقد كان الحجّاج إستعملَ عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على سجستان وبُستْ والرخج فحارب من هنالك من أمم الترك وهم أنواع من الترك يقالُ لهم الغوز والخلج، وحارب من يلي تلك البلاد من ملوك الهند…فخلع إبن الأشعث طاعة الحجّاج وصار إلى بلاد كرمان فخلع عبد الملك ـ الخليفة الأموي ـ وإنقاد إلى طاعته أهلُ البصرة والجبال مما يلي الكوفة والبصرة وغيرهما. وسار الحجاج إلى البصرة وسار إبن الأشعث إليه فكانت له حروب عظيمة. وفي عبد الرحمن بن الأشعث يقول الشاعر :

خلعَ الملوكَ وسارَ تحت لوائهِ
شَجَرُ العرى وعراعرُ الأقوامِ

وكتبَ الحجاج بن يوسف إلى عبد الملك يعلمه بخبر إبن الأشعث فكتب إليه عبد الملك : لَعَمري، لقد خلع طاعةَ الله بيمينه، وسلطانه بشماله، وخرجَ من الدين عُرياناً، وإني لأرجو أنْ يكونَ هلاكه وهلاك أهل بيته وإستئصالهم في ذلك على يدي أمير المؤمنين…]]. [[ وقائع دير الجماجم وقتل إبن الأشعث : فإلتقى الحجاج وإبن الأشعث بالموضع المعروف بدير الجماجم فكانت بينهم وقائع نيّفٌ وثمانون وقعةً تفانى فيها خلق، وذلك في سنة إثنتين وثمانين وكانت على إبن الأشعث فمضى حتى إنتهى إلى ملوك الهند، ولم يزلْ الحجاجُ يحتالُ في قتله حتى قُتِل، وأُتيَ برأسه فعلا الحجاجُ منبرَ الكوفة فحمد اللهَ وأثنى عليه وصلّى على رسوله صلى الله عليه وسلّم ثم قال : يا أهلَ العراق، إنَّ الشيطانَ إستبطنكم فخالطَ اللحمَ منكم والعظمَ والأطراف والأعضاء، وجرى منكم مجرى الدم،   وأفضى إلى الأضلاع والأمخاخ، فحشا ما هناك شِقاقاً وإختلافاً ونفاقا، ثم أربعَ فيه فعششَ، وباض فيه ففرّخ، وإتخذتموه دليلاً تتابعونه وقائداً تطاوعونه ومؤمَّراً تستأمرونه… يا أهلَ العراق، هل إستنبحكم نابح أو إستشلاكم غاوٍ أو إستخفّكم ناكث أو إستنفركم عاصٍ إلاّ تابعتموه وبايعتموه وآويتموه وكفيتموه ؟ يا أهلَ العراق، هل شغبَ شاغبٌ أو نعبَ ناعبٌ أو دبى كاذب إلاّ كنتم أنصاره وأشياعه ؟ ]]. 
ثم نقرأ في الصفحات 154 ـ 155 من كتاب المسعودي ما يلي
[[ بين الحجّاج وأعشى هَمَدان : ولما إنهزمَ إبنُ الأشعث بدير الجماجم حلفَ الحجاجُ أنْ لا يؤتى بأسير إلاّ ضربَ عنقه، فأُتيَ بأسرى كثيرة، وكان أول من أُتيَ به أعشى هَمَدان الشاعر، وهو أول من خلع عبد الملك والحجاج بين يدي الأشعث بسجستان، فقال له الحجاج : إيهٍ أنت القائل :

مَن مُبلِغُ الحجّاجَ إني
قد جنيتُ عليهِ حربا 

وصفقتُ في كفِ إمريءٍ
جَلِدٍ  إذا ما  الأمرُ  عُبّى 

أنتَ الرئيسُ ابنُ الرئ
سِ وأنت أعلى الناسِ كعبا 

فابعثْ  عطيّةَ   بالخيو
لِ  يكبّهنَّ   عليهِ كبّا

وانهضْ   هُديتَ  لعلّهُ
يجلو بك الرحمنُ كَربا

نُبئتُ  أنَّ    بُنيَّ   يو
سفَ خرَّ من زَلَقٍ فتبّا
قال لا، ولكني الذي أقول :

أبى  اللهُ   إلاّ أنْ  يُتَمِمَ   نورَهُ
ويُطفيءَ نورَ الفقعتينِ فيخمدا 

ويُنزلَ   ذُلاًّ  بالعراقِ  وأهلهِ 
بما نقضوا العهدَ الوثيقَ المؤكّدا

وما أحدثوا من بُدعةٍ وضلالةٍ 
من القولِ لم يصعدْ إلى اللهِ مَصعدا 

قال : لسنا نحمدك على هذا القول، إنما قلته تأسفاً على أن لا تكون ظفرتَ وظهرتَ، وتحريضاً لأصحابكَ علينا، وليس عن هذا سألتك… وأُمِرَ به فضُرِبت عُنُقَهُ ]].
ماذا نفهم من هذه المحاورات، وما نقرأ في شعر الشاعر أعشى هَمَدان إنْ صحَّ لقاؤه هذا بالحجاج بعد هزيمة ومقتل إبن الأشعث ؟؟ في الشعر الأول تمجيد وتأييد لثورة إبن الأشعث وتهديد صريح للحجّاج بن يوسف الثقفي. سلّمَ الشاعر أمره للثورة وقائدها عبد الرحمن (( وصفقتُ في كفِّ إمريءٍ …)) وإنحاز إليها مقاتلاً وشاعراً. ثم خاطب قائد الثورة بإعتباره الرئيس، بل وأعلى الناس كعباً. ثم يسخر الشاعر من حاكم العراق الدموي المستبد الحجاج أيّما سخرية فيهزأ به ويصّغِر إسمه إمعاناً في إحتقاره والتقليل من شأنه فيقول ( بُنيَّ يوسفَ ) بدل إبن يوسف. هكذا كان حال الشاعر وهكذا كانت معنوياته القتالية عالية يومَ أنْ كان منشّقاً وخالعاً للخليفة في سجستان مع إبن الأشعث بعيداً عن الكوفة ودمشق. كانت معه جيوش وأمم وعُدّة ورجال وأموال. أما وقد رأى نفسه أسيراً لا حولَ له ولا قوّة يواجه طاغية العراق مسنوداً بكل جبروت وهيبة وعظمة دولة بني أُميّة، فغيّر مواقفه وسبَّ أهل العراق ومجّد سلطان بني أُمية. كان الشاعرُ حريصاً أن يبقى حيّاً. ما كان الموت عليه هيناً. لذا شرع بمساومة خصومه والتزلف لهم والتنصّل من رفاقه في العصيان والتمرد والثورة. الأبيات الثلاثة الأخيرة لا تحتاج إلى تفسير. كان الرجل فيها واضحاً في تنازله عن مبررات ثورته ودوافعها. لم ينفعه نفاقه ولا تملّقه ولا تنازلاته لأعداء الأمس القريب. نفذَّ فيه عدوهُ الحجاجُ بن يوسف الثقفي حكمَ الموت. هكذا ينكص بعض الرجال ويكبو فيرتدُّ إذ يرى الموتَ أمامه شاخصاً رأي العين. التخلي عن المباديء والقيم والعقائد والإلتزامات السياسية والإجتماعية بإعلان التوبة والندم ثم البراءة !! البراءة المعروفة زمان الحكم الملكي في العراق ( براءة بهجت العطية ) ثم براءة أيام حكم البعث في العراق ( التعهد بترك السياسة وعدم الإنتماء إلى أي حزب آخر ) التي قدمها الكثير من المثقفين وسواهم من العراقيين حفاظاً على سلامة حيواتهم وضمان وسائل عيشهم وعوائلهم وخلاصاً من بلاوي البعث وحكم صدام حسين، حلاّج وجلاّد العراق المعاصر. 
3 ـ  العُديل بن الفَرْخ العِجلي 
قال أبو العبّاس محمد بن يزيد المُبَرَّد في كتابه " الكامل في اللغة والأدب " / الصفحات 298 ـ 299 ما يلي [[ وكان العُديل بن الفَرخ العجلي هارباً من الحجّاج، فجعلَ لا يحِلُّ ببلدةٍ إلاّ ريعَ لأثرٍ يراهُ من آثار الحجاج فيهرب حتى أبعدَ. ففي ذلك يقولُ العُديل :

يُخشّونني الحجاجَ حتى كأنما
يُحرَّكُ عظمٌ في الفؤادِ مَهيضُ

ودونَ يدِ الحجّاجِ من أنْ تنالني
بَساطٌ لأيدي اليعملاتِ عريضُ

فلم ينشبْ أنْ أُتيَ به الحجّاجَ، ففي ذلك يقولُ العُديلُ:

فلو كنتُ في سلمى أجا وشِعابها
لكانَ  لحجّاجٍ   عليَّ    دليلُ

بنى  قبّةَ الإسلامِ حتى  كأنما 
أتى الناسَ من بعدِ الضلالِ رسولُ ]].

فالعُديل أنموذج آخر للتبدّل والتبذّل والخَوَر أمام التهديد بالموت ومفارقة الحياة التي تعزُّ على بعض في حين كانت قد هانت ورَخُصت على رجالٍ عرفناهم في تأريخنا القديم والمعاصر. لحظة حرجة على المرء أن يختار فيها بين الموت عزيزاً أو الحياة ذليلاً. أين ولّت عنتريات الشاعر العُديل وتلويحه بالتحصن بالصحاري هارباً من بطش الحجاج على ظهور الجمال، سفائن الصحراء ؟ كيف غدا جلاّد العراق الدموي رسولاً أو كالرسول يُعيدُ للإسلامِ هيبته ومكانته بين الأمم ويؤسس الهُدى بعد الضلال ؟! إنه الحرص على مواصلة الحياة وعلى سلامة الرقبة من أن يُطاحَ بها ضرباً بسيف الجوْر والتعسف. تلك هي المسألة التي واجهناها ولم نزل نواجهها في أيامنا هذه. 
(( أجأ وسلمى جبلا طيء )). 
4 ـ جرير بن الخطفي  
هذا شاعر آخر خرج على الحجّاج أو إنشقَّ عليه أو إصطف مع الخوارج فثار معهم كما ثاروا…ليس الأمر واضحاً تمام الوضوح. فالمسعودي، المصدر ، لم يوّضح هذا الأمر ( الصفحات 152 ـ 153 ). لكني أميل إلى الظن أنَّ هذا الشاعر كان قد أيد ثورة عبد الرحمن بن الأشعث. الإنتفاضات الشعبية والثورات الكبيرة تستنهض همم الشعراء وتلهب أخيلتهم فيجدون فيها مُتَنَفساً لخواطرهم وموضوعاتٍ جليلة لإستعراض مواهبهم الشعرية وتجربة فنون القريض وإستكشاف قدراتهم في النظم والتعبير عما يجول في دواخل نفوسهم من عواطف ومشاعر وعقائد سياسية أو دينية وولاءات عشائرية أو مذهبية. لقد عاصرنا العديد من الشعراء الذين رموا بأنفسهم في خضم مثل هذه الإنتفاضات والثورات
وقالوا فيها الشعر الجيد الذي حفظته وأنشدته جماهير الناس وقتاً طويلاً. ولعل الشاعر محمد مهدي الجواهري هو المثل الأجود والأكثر شهرة في هذا الشأن. شاعر الوثبات والإنتفاضات والثورات العراقية. كما برز شعراء آخرون أيام أنْ كان العراق رازحاً تحت قيود الإحتلال البريطاني ( 1917 ـ 1958 ) فلفّهم إعصار
( سايكلوترون أو هاريكان ) الثورة والتمرد على حكم الأجنبي فإنحازوا إلى صفوف اليسار السياسي وقالوا ما قالوا من قصائد مثبّتة في دواوينهم. أقول هذا الكلام وفي رأسي صورة كل من عبد الوهاب البياتي وبدر شاكر السياب والكثير من شباب شعراء تلك الحُقبة العصيبة من تأريخ العراق المعاصر. 
أعود لصاحبنا الشاعر جرير بن الخطفي. أراد الحجاج قتله ـ ربما لتأييده  لثورة عبد الرحمن بن الأشعث ـ لكنَّ قومه من مضر تشفعوا له لدى الحجاج، فضلاً عن طلب هند بنت أسماء، زوج الحجّاج، في أن يبقّي عليه حياً. يسوق المسعودي محاوراتٍ طريفة بين هذا الشاعر وبين هند بنت أسماء نكتشف فيها فحولة هذا الرجل شاعراً، ثم شاعرَ غزلٍ عالي المقام. كانت هند إذن تعرف مكانة جرير الخطفي بين الشعراء ولا سيّما الغزليين منهم. وكانت على ما يبدو من المعجبات بشعره ومن الحافظات له. بلغ الهوان والذُل بهذا الشاعر ـ وقد ضُمِنت له 
الحياة ـ  حدَّ تنكّره لشعره الجميل في الغزل بما يشبه التبرؤ منه، والحيود عنه إلى قول شعر يمتدح فيه الحجاج. مراوغة الثعالب الجبانة. كلما واجهته إمرأة الحجاج بشعر جميلٍ قاله في النساء تهرب منه وصار ينشد أمامهما أشعار التمجيد والإسراف المُفرِط في مديح الجلاّد. نقرأ في الصفحات التي ذكرتُ توّاً ما يلي 
[[ الحجّاج وجرير بن الخطفي : وأخذ الحجّاجُ جريرَ بن الخطفي فأراد قتله. فمشى إليه قومه من مضرَ فقالوا : أصلحَ اللهُ الأميرَ ! لسانُ مضرَ وشاعرُها، هبهُ لنا فوهبه لهم. وكانت هند بنت أسماء زوج الحجاج ممن طالب به فقالت للحجاج : أتأذن لجرير عليَّ يوماً أستنشده من وراء حجاب ؟ فقال لها : نعم، فأمرتْ بمجلسٍ لها فهُيّءَ فجلست فيه والحجاج معها، ثم بعثت إلى جرير فدخلَ عليها يسمع كلامها ولا يراها، فقالت : يا ابن الخطفي، أَنشدني ما شبّبتَ به في النساء، فقال لها : ما شبّبتُ بإمرأةٍ قطُّ، ولا خلقَ اللهُ شيئاً هو أبغضُ إليَّ من النساء. قالت يا عدوَّ اللهِ، وأين قولك :

طَرَقتكَ صائدةُ القلوبِ وليسَ ذا
وقتَ   الزيارةِ  فارجعي بسلامِ 

تُجري السواكَ على أغرَّ كأنّهُ
بَرَدٌ  تحدَّرَ  من   متونِ  غمامِ 

سرت الهمومُ فبِتنَ غيرَ نيامِ 
وأخو الهمومِ يرومُ كلَّ مرامِ 

قال ما قلتُ هذا، ولكني الذي أقول : 

لقد جرّدَ الحجّاجُ للحقِ سيفَهُ
ألا فاستقيموا  لا  يميلنَّ  مائلُ 

وما يستوي داعي الضلالةِ والهُدى
ولا حُجّةُ  الخصمينِ حقٌّ  وباطلُ 

قالت دعك هذا، فأين قولُك :

خليليَّ لا تستغزرا الدمعَ في هندِ
أُعيذكما باللهِ أنْ تَجِدا  وجدي 

ظَمئتُ إلى شُربِ الشرابِ وحسنهِ
كذي فريةٍ يرجو هُداها وما يُجدي

قال لها ما قلتُ هذا ولكني أنا الذي أقول :

ومن يأمنِ الحجّاجَ ؟ أما عِقابهُ 
فمرٌّ،   وأما  عَقدهُ   فوثيقُ 

يُسِرُّ لكَ البغضاءَ كلُّ منافقٍ
كما كلُّ ذي بِرٍّ عليكَ شفيقُ ]]. 

أكتفي بهذا القْدر من المحاورات. الشاعر يتهرب من شعره الغزلي الجميل خوفاً ونفاقاً وجبناً. تواجهه إمرأة من وراء حجاب بما شَهُر من شعره في النسيب، فينكره وينقلب مدّاحاً رخيصاً يتملق الطاغية الذي عفا عنه ولم يسفك دمه بعد أن توسط له قومه المُضريون وتشفّعت له زوج الحجاج التي كانت على ما يبدو أثيرته من بين باقي أزواجه. كانت تحفظ شعر الغزل والنسيب والتشبيب بالنساء.
لم تطلب من الشاعر المستخذي والمستسلم والجالس كالجُرذِ خلف حجاب أن يقرأ شعر المديح في زوجها. إنما هو كان المبادر دون أن يطلب ذلك منه أحدٌ… ولا حتى الحجاج نفسه. (( من يهُنْ يسهلِ الهوانُ عليهِ ـ ما لِجُرحٍ بميّتٍ إيلامُ / 
أبي الطيب المتنبي )). 
5 ـ محمد بن عبد الله بن نُمير الثقفي
هذا شاعر آخر من شعراء الغزل، هرب كذلك من الحجّاج بن يوسف الثقفي لكنَّ المصدر ( كتاب الكامل للمبرَّد / ص 301 ) لا يذكر سبب هروب هذا الشاعر . غير أنَّ هذا المصدر يقول عنه إنه كان ( يُشبِّب بزينب بنت يوسف أخت الحجاج ). فهل نستنتج أنْ ما كان هذا الشاعر أحدَ الذين ثاروا وتمرّدوا على حاكم العراق الدموي، وما كان أصلاً أحد رجال ثورة عبد الرحمن بن الأشعث ؟ جائز. لم يذكر المصدر شعراً فيه ذم من هذا الشاعر بحق الحجاج. إنما ذكر أبياتاً يتغزل فيها بزينب أخت الحاكم الدموي المطلق. ثم لمّا قابله الحجاج لم ينفِ ما قال في أخته من شعر ولكن شرع يكيل له المديح. فلنستمع لما قال وما دار من حديث بينه وبين من تغزّل بأخته، حجّاج العراق : 

تضوَّعُ مِسكاً بطنُ نعمانَ إنْ مشتْ
به  زينبٌ   في   نسوةٍ    عَطِراتِ 

يُخبِّئنَ أطراف البنانِ من التُقى
ويَخرُجنَ شطرَ الليلِ مُعتَجِراتِ

ولما قابله الحجاج صار يداجي ويتملق ويمدح فقال :

هاكَ يدي ضاقتْ بيَ الأرضُ رَحْبَها
وإنْ كنتُ  قد طوَّفتُ  كلِّ  مكانِ 

فلو كنتُ بالعنقاءِ أو بأسومِها 
لَخِلتُكَ  إلاّ  أنْ  تصدَّ   تراني 

ثم قال الشاعر للحجاج : واللهِ أيها الأمير إنْ قلتُ إلاّ خيراً إنما قلتُ : 

يُخبّئنَ أطرافَ البنانِ من التُقى 
ويخرُجنَ شطرَ الليلِ مُعتَجِراتِ

فعفا عنه ثم قال له أَخبرني عن قولك : 

ولمّا رأتْ ركبَ النُميريِّ أعرَضتْ
وكُنَّ   من أنْ   يلقَينَهُ   حَذِراتِ 

ما كنتم ، الحجاج يسأل، فأجاب الشاعر : كنتُ على حمار هزيلٍ ومعي صاحبٌ لي على أتانٍ مثله.
تعقيب لا بدَّ منه : أحسب أنَّ الشاعر محمد بن عبد الله بن نُمير الثقفي كان قد غيَّرَ حرفاً واحداً ليغيّر معنى جملة البيت الثاني الذي تغزل فيه بأخت الحجاج. أحسب أنَّ الشاعر كان قد قال (( ويخرُجنَ شطرَ الليلِ مُعتَجِزاتِ ))… أراد السخرية والتعريض بأخت الحجاج وصاحباتها إذ كنَّ يُخفين أطرافَ أصابعهنَّ
( من التُقى )… من تقواهنَّ… في العَلَن، ولكنهنَّ يتسكعنَّ في الليالي متبرِّجاتٍ لا تقوى ولا هم يحزنون. ( مُعتَجِزات )… أي واضحات الأعجاز تَبرُّجاً أو سفاهةً أو إغراءً والله أعلم. تقيّات في العَلَن ومتهتكات في جُنح الظلام. تقوى في ضوء النهار وعُهر في الليل. إزدواجية الخفاء والعَلَن. إزدواجية الظاهر والباطن. قال المتنبي شيئاً قريباً من هذا في نساء مصر الحَضريات إذ قارنهنَّ بالبدويات 
(( ولا خرجنَ من الحمّامِ ماثلةً ـ أوراكُهنَّ صقيلاتِ العراقيبِ )).
نعم، بدّل الشاعر حرف الزاي فجعله أمام الحجاج حرفَ راءٍ فأنشد البيت إياه كما يلي :

يُخبّئنَ أطرافَ البنانِ من التُقى
ويخرُجنَ شطرَ الليلِ مُعتَجِراتِ 
    
6 ـ سَوّار بن المُضَرَّب 
كان  هذا أحد الشعراء الهاربين من الحجّاج. لكنه يختلف عمّا سبقه من شعراء متقلبين منافقين مارسوا الدجلَ والشعوذة فمدحوا الطاغية الجبّار بعد أن ذمّوه وبالغوا في شتمه وناصبوه العداء وإصطفوا مع خصومه وثاروا مع من ثار ضد حكمه الجائر بل ورفع بعضهم السلاح ضده. هذا شاعر ثابت المواقف والجِنان. لم يتنازل عن مواقفه ولم يساوم ولم يمدح. كان مع خوارج العراق في ثوراتهم المعروفة ضد حكم الأمويين في بلاد الشام. كان مع شاعر الخوارج المعروف 
" قَطَري بن الفُجاءة " حسب أبيات شعره الآتية :

أقاتليَ الحجّاجُ  إنْ لم  أزُرْ لهُ
درابَ وأتركْ عندَ هندٍ فؤاديا 

فإنْ كان لا يُرضيكَ حتّى تَرُدَّني
إلى  قَطَريِّ ما  إخالُكَ   راضيا 

إذا جاوزتْ دربَ المُجيزينَ ناقتي
فباستِ أبي  الحجّاجِ  لمّا   ثنانيا 

أيرجو بنو مروانَ سمعي وطاعتي
وقومي   تميمٌ    والفلاةُ  ورائيا 

لقد سبَّ الشاعرُ الحجاجَ بأبيه سبّاً فاحشاً ( إست أبي الحجّاج )… أي مؤخرته أو مخرجه. كان قوياً أو مستقوياً بعاملين هما حماية قومه له من بني تميم، الشوكة والعصبية بلغة إبن خلدون، ثم الإمتداد الصحراوي الذي يوفّر له ولأمثاله ملاذاً ممتازاً (( قومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا )). ليس في الوسع التكهن أو معرفة موقف هذا الشاعر فيما لو تمكّن منه خصُمه الحجاج وجاءوا به إليه مُقيَّداً أسيراً وقد شارك في ثورة عارمة ضده وضد من أمّرَهُ على العراق. هل كان سيتنازل ويتبرأ فيمدح لإنقاذ حياته من موت مُحَقق ؟ هل كان سيتحدى جبروت الحجاج فيسخر منه في مجلسه ويهزأ به ويقبل الموت صَبراً أو بحد السيف ؟ لا أحد يعرف الجواب. كان هارباً ولم يظفر الحجاج به. 
7 ـ مالك بن الريب المازني 
شاعرٌ هاربٌ آخر ولكنه يختلف في موقفه عن مواقف من ذكرتُ من باقي الشعراء. إنه لا يُعادي حكام دمشق من آل مروان لكنه عدو لدود لأميرهم على العراق الحجّاج بن يوسف الثقفي. شاعر وسياسي ذكي حاول أن يدقَّ إسفيناً ويفرّقَ بين المروانيين في دمشق وعاملهم الحجاج على العراق. فرِّقْ تَسُدْ. لم يذمَّ أولئك لكنه صبَّ جام غضبه على هذا. لنقرأ ما قال في الحجّاج وأسياده آل مروان خلفاء المسلمين في دمشق ( المصدر : كتاب الكامل / الصفحات 301 ـ 302 ) : 

إنْ تنصِفونا يالَ مروانَ نقتَربْ
إليكمْ   وإلاّ   فأذَنوا    ببعادِ 

فإنَّ لنا عنكمْ مَزاحاً ومَرحَلاً
بعيسٍ إلى ريحِ الفلاةِ صوادي 

ففي الأرضِ عن دارِ المذلّةِ مذهَبٌ
وكلُّ   بلادٍ   أُوطئتْ   كبلادي 

فماذا تُرى الحجّاجُ  يبلُغُ   جُهدَهُ 
إذا   نحنُ   جاوزنا   حفيرَ   زيادِ 

فلولا بنو مروانَ كانَ اْبنُ يوسُفٍ 
كما كان  عبداً من  عبيدِ   إيادِ 

زمانَ   هو  العبدُ   المُقِّرُ   بذِلِّةٍ 
يُراوحُ صبيانَ  القُرى   ويُفادي
لم يذم الشاعر ـ كما سبق وأنْ قلتُ ـ بني مروان ولا الخليفة عبدَ الملك بنَ مروان. كل ما طالبهم به هو النُصفة أو الإنصاف. ومع النصفة يأتي القرب أو الدنو منهم. وضع شرطاً عادلاً للمصالحة وتصفية الخلاف وتنقية الأجواء المشحونة بالبغضاء والعداوة والتحريض. وإلاّ فلسوف يبقى الشاعر وقومه على خلاف مع آل مروان، وستبقى الشقة بعيدة بين الطرفين ولا مجال لوئام وتطبيع للمواقف. وكما هدد الشاعر الذي سبقه ( سوّار بن المُضَرَّب ) بالإحتماء بالصحراء ملاذاً آمناً وملجأً حصيناً لا يناله عدو ( وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا )، كرر شاعرنا مالك بن الريب المازني هذا التهديد بالرحيل إلى البوادي إلتماساً للأمان والسلامة من المكاره. إنْ لم يُنصف الخليفةُ الأموي، فسوف يُضطَرُ الشاعرُ وقومه إلى النزوح ( مَزاحاً ) والرحيل ( مَرحَلاً ) على ظهور جمالٍ ظمأى لريح الصحارى والفَلَوات ( بعيسٍ إلى ريحِ الفلاةِ صوادي ). كان ثوّار الماضي يلتجئون إلى الصحراء تقيهم من شرور الحكّام، أما ثوّار عصرنا الراهن فيلتجئون   
إمّا إلى الجبال الشاهقة والتحصّن بشعابها وصخورها ومسالكها الوعرة، أو إلى قصبِ وماء وحلفاء الأهوار يموهون بها العدو ويختفون فيها عن أنظاره. رمل وحرُّ الصحراء … ماء وحلفاء الأهوار… قمم الجبال الشاهقة. هذه هي سبل ووسائل التخفي والهرب من الأعداء. موانع وخطوط دفاع طبيعية وقواعد للكر والفر يجدها المقاتل والثائر والهارب من جور السلاطين في الطبيعة نفسها، وهي أمِّ الإنسان. الطبيعة ـ الأم. الرَحِم والدفء والأمان والطعام. الطريف أن الشاعرَ مالكاً بن الرَيْب يسخر من الحجّاج ويحط من قدره إذ يقارنه أو يقارن قساوته وشدة بطشه بما عرف العراقيون من بطش وإسراف حاكم العراق الأسبق زياد بن أبيه. إرتفع شأنُ ومقامُ زياد بمعاوية أخاً ثم أميراً على العراقين. أما الحجاج فلم يرتفع قدره وشأنه إلاّ بعبد الملك بن مروان. وشتّان ما بين معاوية وعبد الملك. كان ذاك مَلِكاً وخليفةً ومؤسساً لدولة الأمويين في بلاد الشام. إغتصبَ الخلافةَ من الخليفة الرابع . أما عبد الملك فلم يكن إلاّ خليفةً مروانياً إغتصب أبوه الخلافةَ من ضِعاف سلالة خلائف بني أُميّة. فقدْرُ زياد من قدر معاوية، وقدر الحجّاج من قدر عبد الملك و (( على قدر أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ / للمتنبي )). يبدو لي أن مالك بن الريب كان سياسياً محنَّكاً ومفكِّراً فذاً وداهيةً من دهاة الشعراء. ما نهاية هذا الشاعر ؟ لا أعرف. هل مات حتفَ أنفه أم ظفرَ به الحجاج فقتله أو عفا عنه ؟؟ هل إنكفأ وتردّى فمدح الحجاج وآل مروانَ ؟؟ لا أدري. ألا مّن يزوّدني بالخبر الدقيق مشكوراً ؟؟ 

8 ـ سُميرة بن الجَعْد وقَطَري بن الفجاءة 

عن سُميرة وقَطَري قال المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر مار الذكر ( الصفحات 136 ـ 137 ) ما يلي : 
[[… فإتخذه الحجّاجُ سميراً، فلم يكُ يطلب شيئاً من الحديث إلاّ وجد عنده منه عِلماً وكان يرى رأي الخوارج وكان من أصحاب قَطَري بن الفجاءة التميمي، والفُجاءةُ أُمّه وكانت من بني شيبان، وإنما هو رجلٌ من تميم، وكان قَطَري يومئذٍ يحاربُ المُهلَّب، فبلغ قَطَرياً مكانَ سُميرة من الحجّاج فكتب إليه بأبياتٍ منها :
لَشتّانَ ما بين إبنِ جَعدٍ وبيننا
إذا نحنُ رُحنا في الحديدِ المظاهرِ

نجاهدُ  فرسانَ   المهلَّبِ   كُلُنا
صبورٌ على وقعِ السيوفِ البواترِ

وراحَ  يجرُّ  الخزَ   عندَ   أميرهِ
أميرٍ   بتقوى   ربّهِ   غيرِ   آمرِ

أبا الجعدِ أين العلمُ والحِلمُ والنُهى
وميراثُ    آباءٍ   كرامِ  العناصرِ 
فراجعْ  أبا جعدٍ  ولاتَكَ  مُفضياً
على ظُلمةٍ  أعشتْ جميعَ  النواظرِ

وتُبْ توبةً تَهدي إليكَ شهادةً
فإنَّكَ ذو ذنبٍ  ولستَ بكافرِ ]]. 

أكتفي بهذا القْدر من شعر أحد زعماء الخوارج وشعرائهم وأبطالهم الذين قاتلوا عبد الله بن الزبير وأخاه مُصعباً، ثم سلطان بني أُميّة لعدة أعوام دون كلل أو ملل أو هوادة. ذلكم هو الثائر قَطَري بن الفجاءة. عاتب في شعره هذا صديقه ورفيق الثورة والسلاح الشاعر سُميرة بن الجعد الذي [[ فلما قرأ كتابه بكى وركب فرسه وأخذ سلاحه ولحق بقَطَري. وطلبه الحجّاجُ فلم يقدر عليه. ولم يشعر الحجّاجُ إلاّ وكتاب قد بدر منه فيه شعر قَطَري الذي كتب به إليه، وفي أسفل الكتاب إلى الحجّاج أبياتٌ منها : 

فمَن  مُبلِغُ  الحجّاجَ أنِّ  سُميرةً
قلا كلَّ دينٍ غيرَ دين الخوارجِ ]]
… إلى باقي الأبيات.
ما زلت أحفظُ بيتاً واحداً من قصيدة لقَطَري بن الفجاءة بقيَ في ذاكرتي منذ سني الدراسة الإبتدائية أو المتوسطة. البيت هو :

أقولُ لها وقد طارت  شُعاعا
من الأبطالِ ويحكِ لا تُراعي 

يستحق هذا الشاعر الثائر دراسات معمَّقة عن شعره وحياته وليس بين يديَّ ما يكفي من المصادر لشديد أسفي. 
ختام وسؤال إفتراضي : ما كان سيحدث لو تحالف إبن الزبير مع خوارج العراق ( صفرية وأباضية وأزارقة وبيهيسية ) ضد حكم يزيد بن معاوية ثم عبد الملك بن مروان ؟؟ لو تم هذا الحلف لأمكن أن يؤدي إلى واحدة من نتيجتين إفتراضيتين : إستقلال الحجاز ونجد والطائف، والعراق وبلاد فارس وبلدان ما وراء النهر عن حكم خلفاء بلاد الشام. أي إنشطار الخلافة الإسلامية إلى خلافتين. واحدة مركزها في دمشق، والأخرى في الكوفة أو البصرة أو الأهواز. النتيجة الثانية هي سقوط مُلك آل أُميّة ومن بعدهم آل مروان وتبعية بلاد الشام ومصر والشمال الإفريقي برمته إلى دولة الحلف الثنائي الجديد، حلف الزبيريين وخوارج العراق. تقاتل هذا الطرفان فيما بينهما فخسرا وآلَ الحكمُ بشكل مطلق لدولة الشام فظلَّ العراق وما وراءه من أصقاع وبلدان مفتوحة تحت سيطرة حكام دمشق. كذلك خضع الحجاز لهؤلاء وكل الشمال الإفريقي. 
لم أكدْ أغلق أجهزتي حتى أطلَّ صاحبي المتنبي بوجهه الباسم الساخر والعريض مالئاً شاشة الكومبيوتر. البسمة في الوجه والسخرية في العيون. سألته عمّا به فقال أخشى إنْ قلتُ الحقيقة أن تغضبَ مني. ومتى غضبتُ منكَ يا صاحبي ؟ قال إنما أردتُ أن أقول لك بصراحتي وصَلَفي الذي تعرف إنك لم توفِ الموضوعَ حقه. أحسنتَ أبا الطيّب. أعذرني والعذرُ عند كرامِ الناسِ مقبولُ. كيف أستطيع إيفاء هذا الموضوع المتشعب حقه، جزءاً أو كلاًّ ؟ ظروفي صعبة يا أعزَّ رفيق، ومصادري شحيحة والصحة ليست على ما يُرام. قال معك حق. قام اللهُ في عونك وعون أمثالك وممن هم في مثل حالاتك وأحوالك. معك حق. سيعذرك القرّاء الكرام. ولعل فيهم من يقوم بعدك بالمهمة ويواصل البحث والتقصّي. أهل الجود والكرم كُثرٌ. وأصدقاؤك ما شاء الله. أقفلت أجهزتي مردداً :

وما أكثرَ الأخوانِ حين تعدّهمْ
ولكنهمْ   في   النائباتِ   قليلُ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق