كثيرة هي الاوضاع التي تمرَّد عليها الدكتور فيليب سالم ايجابياً. أي أن السائد لم يعجبه فتمرّد عليه طارحاً البديل الذي اعتبره أفضل. لم يَكتفِ بالطرح كما يفعل الكثيرون، بل نزل الى المعركة بكل ما يملك من ايمان. وحقَّق الكثير من طروحاته إن كان في مجال البحث العلمي أوالتعليم الجامعي أو في مصارعة المرض المرعب السرطان أو في مجال العلاقة بين الطبيب والمريض. كل هذه المجالات ليست موضوع كلمتي بل موضوعها تمرّده الى حد الريادة في ساحتين هامَّتَين: الساحة اللبنانية وساحة الاغتراب.
بالنسبة للساحة اللبنانية: لو كان الدكتور سالم مسالماً، يخبِّىء رأسه تحت جناح نعامة، ويمالىء الطبقة الحاكمة، لربما أصبح واحداً من كبارها. فبعض المغتربين، إذا ما جمع الثروة بالحلال او الحرام، يضع نصب عينيه الوجاهة. ومنهم من يبذل ماء الوجه ليصل اليها. أما فيليب سالم الممتلىء بلبنان، المتألِّم للحالة التي وصل اليها، فحمل مبضع الجرّاح وراح يشرِّح الطبقة السياسية اللبنانية ليصل الى مكمن الداء. ربما يستطيع أن يُنزِل لبنانه عن جلجلة السرطان التي قاتلت طبقته السياسية، وتقاتل، لابقاء المسامير في يديه ورجليه وقلبه.
عرف أن هذه الطبقة السياسية لا رؤية مستقبلية لها. فقال ص 246: "منذ الاستقلال وحتى اليوم لم يصل الى السلطة في لبنان قيادات سياسية قادرة على بلورة رؤية للمستقبل". وهو لا يستثني أحداً من هذه الطبقة: " لا يُرجى منها أي خير للبنان. جميعهم من مدرسة واحدة اسمها الدولة بقرة حلوب". و "منهم من دفع أموالاً طائلة ليحصل على "شرف" العمالة للنظام السوري ص: 193". ولماذا "منهم" يا دكتور سالم؟ وكم منهم لم يدفع؟ والعمالة لم تقتصر على النظام السوري بل امتدت الى كل نظام. وغالباً ما كانوا يقبضون. أما الدفع فكان عادة من الكرامة وماء الوجه والسيادة التي بها يتاجرون. ولمن تخدعه المظاهر ويتوهم ان لبنان يتجه باتجاه الدولة الموحدة يستيقظ على قناعة سالم التي تقول: ان لبنان ليس "دويلات ميليشيات مسلحة فقط بل دويلات طائفية أيضاً ص: 195". وهو لا يضع المسؤولية على الطبقة السياسية وحدها في الحروب الاهلية التي لا زالت مستمرة بشكل أو بآخر، بل "نحن" كلنا المسؤولون: "لينتصر لبنان يجب أن نقتنع بأن الحرب مسؤوليتنا نحن والسلام مسؤوليتنا نحن ص: 120". إذن يجب البحث في داخلنا عن الحل الذي نريد أولاً. وما الحل الذي يطرحه الدكتور سالم؟ تجده على امتداد معظم مقالاته ومحاضراته ويتلخص بالتالي: "ثالوث قدّوس غير منقسم مساوٍ في الجوهر هو الحريّة والتعددية الحضارية والديمقراطية ص: 195" وللوصول اليه يجب "العبور من طائفية هي سبب تخلفنا الى وطنية تكون سبب تقدمنا ص: 219". وهذا العبور لا يتم الا إذا كانت المعرفة سلاحنا "فليس من عبودية أشد وأقوى من عبودية الجهل ص: 230". ولا يتعب الدكتور سالم من التأكيد على "فصل الدين عن الدولة وفصل الدين عن التعليم والتربية ص: 230". وكما حمّلنا مسؤولية ما وصلنا اليه يحمّلنا أيضاً مقيمين ومغتربين "مسؤولية قيامة لبنان ص:264". ومَن لهذه المهمة؟ هل هم السياسيون الذين "أنزلوا بلدنا الى الحضيض ص: 234؟" أبداً. لا يمكن للذين دمّروه أن يتولوا هم عملية بنائه. انها مسؤوليتنا جميعاً. "فليس كالمجتمع المدني في لبنان والانتشار اللبناني في العالم للمطالبة باسترجاع سيادة لبنان ص: 162". إذن يحملنا الدكتور سالم، نحن المغتربين، مسؤولية موازية لمسؤولية المقيمين في عملية انتقاله من الدويلات الميليشياوية، الطائفية، المذهبية، ومن دولة البقرة الحلوب الى دولة المواطنة وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.
أما تمردّه الريادي الثاني فكان على الساحة الاغترابية. لقد فهم ألأهمية الحقيقية للإغتراب. وشعر بطاقاتهم الهائلة التي لو أُحْسِنَ الاستفادة منها لغيَّرت وجه لبنان. "المنتشرون طاقة لا حدود لها. ثروة لم تُسْتَكشف بعد. من دونهم لا يرتفع لبنان الى العظمة ص: 262". انه يضع على عاتقنا مهمة يجب أن نرتفع الى مستواها. وهي قيامنا " بعمل تاريخي منظَّم لتحرير لبنان وبناء لبنان الحديث ص: 125". ولا يتركنا فيليب سالم للتخمين. يصحح أولاً الهدف من الاغتراب: " لم يأتوا ليأخذوا بل ليعطوا أيضاً ص: 209". كم من المغتربين تفاعلوا مع محيطهم؟ أخذوا وأعطوا؟ وعندما نتفاعل تصبح عملية التأثر والتأثير أقوى وأفعل. ففي توجّهه الى المثقفين الاميركيين العرب يطلب منهم "أن ينخرطوا في الحياة السياسية الامريكية وأن لا يعيشوا على الهامش بينما اليهود يعيشون في قلبها. والعمل مع مثقفين اميركيين لدعم قضايانا وعدم الخجل بتراثهم ودعاهم للالتزام بالقضايا الوطنية ص 178". وهذا ينطبق علينا في استراليا أيضاً وعلى كل المغتربات. هذا التفاعل يتمركز في "بيت لبناني خارج الجامع والكنيسة ص:190" يمتد على امتداد الانتشار في عواصم القرار. ورغم ايمان سالم العميق بمعتقداته الدينية إلا أنه على قناعة تامة أن الدين يفرِّق، بينما الوطن يجمع. ولا يكفي أن يوحِّد المغترب طاقاته، ويتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه، ويؤثِّر في عواصم القرار بل له مهمة اخرى لا تقلّ اهمية وهي: "الحق في انتخاب ممثليهم في البرلمان وأن يكون لهم مَن يمثّلهم في الحكم ص: 218". فهذه الطبقة السياسية التي فشلت في تمثيل المقيم وقادته الى هذا الافلاس لا يمكن لها، بأي شكل من الاشكال، أن تمثل المغترب.
فيليب سالم الطبيب الانسان لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين وأمامه مريض يتوجَّع. فكيف إذا كان هذا المريض هو الساكن الدائم في القلب والعقل والخيال؟ هو حبيبه الدائم لبنان؟ وما يجعل المفكر في فيليب يثور ويتمرّد هو أنه شخَّص المرض، لا بل وضع الاصبع عليه، عرف مسبباته ويعرف عوارضه والنتائج الكارثيّة الواضحة وضوح الشمس. ورغم ذلك رفضنا السير معه على طريق الخلاص. رفضنا الشفاء. ونصرّ، بعناد لا مثيل له، أن نتمترس في الزواريب المذهبية / الميليشياوية بدل ان نخرج، معه، الى رحاب الوطن.
دكتور سالم، القيامة في المفهوم المسيحي لا تأتي إلا بعد نهاية العالم. أتمنى أن نصل الى قناعاتك، بقيامة لبنان، قبل النهاية. أم أنها معجزة لو حصلت؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق