لقد غَيَر الشعب الفلسطينى بمسيرة الاستقلال السلمية فى يوم الأرض المشهد السياسى؛ وأعاد الاعتبار للقضية الفلسطينية، وجعلها على صدارة قضايا الساعة خلال ساعات معدودة؛ بعدما طوتها أحداث الشرق الأوسط الملتهبة، وظن أعدائها واهمين أنها تحولت لجزء من الماضي؛متجاهلين قوة وعمق عدالتها ومدى ملامستها للضمير الانسانى !
وزهور فلسطين التى تفتحت فى هذا الربيع المبارك؛ كان لها رأى آخر أصدق وأكثر عمق عندما تصدروا الحشود بأجسادهم العارية، وبكل سلمية وتحضر؛ عُزل يطالبون بحقوقهم المسلوبة ويقولون للعالم الحر نحن جزء أصيل منك؛ نتشارك جميعنا الإيمان بحقوق الإنسان والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية وبمبادئ القانون الدولى والشرعية الدولية، وها نحن نضحى بأرواحنا فى سبيل تلك المبادئ الانسانية السامية أمام أولئك المدعين الفاشيين الذين يقابلون رسالة الحرية والسلام والتحضر الإنسانى بالرصاص القاتل.
هذا المشهد الفريد فى صدقه وإنسانيته وصل مجسدا إلى العالم، ولقد فهم العالم لغتنا، ولامس المشهد بقوة ضميره، وهو ما تجلى فى ردة فعل العالم التى أدانت إسرائيل وعلى كل الأصعدة، والأخطر أنه لامس ضمير الأحرار والإنسانيين من اليهود داخل إسرائيل، وهو ما يعنى أننا نخطو أول خطواتنا على الطريق الصحيح.
ولقد أعطت تلك الحشود التى خرجت أول أمس حلاً عملياً لأزمة القيادات الفلسطينية فى التعامل مع فشل مسيرة السلام ومسيرة المقاومة المسلحة؛ والتى وصلتا إلى طريق مسدود بعد ربع قرن من المحاولة، وقدم الشعب الفلسطيني بدمه الحل للجميع للخروج من أزمته السياسية، وعلى الجميع التقاط هذا الحل وتطويره ومنهجته وتحويله إلى مسيرة استقلال شعبية سلمية جماهيرية، وهذا يتطلب أن يسير الجميع وراء الشعب تماما كما كان الحال قبل ربع قرن فى الانتفاضة الأولى عام 1987.
لقد هزت مسيرة العودة إسرائيل داخليا وأربكت أنصارها خارجيا، وخلطت كل الحسابات والخطط التى بدأ تنفيذها على الأرض لتصفية القضية الفلسطينية، وأظهرت إسرائيل اليوم أمام كل العالم وأمام سكانها من اليهود بوجهها الحقيقى العنصرى الاستعمارى والفاشي الآخذ فى التعاظم داخليا؛ والمتجلي بصم آذان حكومتها عن دعوات التحقيق فى المجزرة التى خطط لها وارتكبها جيشها يوم الجمعة الماضية بحق مدنيين عزل يطالبون بحقوقهم فى مظاهرات سلمية، علاوة على تخوين كل تلك الأصوات الانسانية، وهذا السلوك تحديدا هو أبرز سلوكيات الأنظمة الفاشية عبر التاريخ .
إن استمرار المقاومة السلمية الشعبية سوف يؤذى إسرائيل حتماً، لأنها فى حقيقة الأمر تمثل خطرا استراتيجيا حقيقيا؛ خاصة إذا ما انتقلت بنفس الزخم والعنفوان إلى الضفة الغربية والداخل الاسرائيلى؛ وعندها ربما يقتنع الناخب الاسرائيلى أن اليمين الاسرائيلى يقود دولته إلى الجحيم، وهو ما سيؤدى حتما إلى إدراك إسرائيل استحالة أن يقوم سلام مع الفلسطينيين بشروط اليمين وخارج قرارات الشرعية الدولية، ولكن الوصول إلى هذه المرحلة منوط بقدرة الفلسطينيين على الحفاظ على الطابع السلمى الحضارى لهذا الحراك الوطنى، وإدراك أن الوضع القائم هو أخطر ما يواجه إسرائيل، وأنها ستحرص على عسكرة هذا الحراك، وجر الفلسطينيين إلى مربع المواجهة العسكرية عبر استفزاز الأجنحة العسكرية فى غزة بالمزيد من الشهداء؛ أو حتى بتنفيذ اغتيالات لشخصيات سياسية أو عسكرية وازنة فى غزة، ولكن التحدى الحقيقى سيكمن عندها فى قدرة الفصائل فى امتصاص أحداث كهذه؛ والرد عليها عبر مزيد من تفعيل الاحتجاجات بمزيد من السلمية، فهى السم الحقيقى الذى سيقتل عنجهية إسرائيل ويجبرها على الإقرار بكل مقررات الشرعية الدولية فى أى تسوية قادمة.
وهنا علي كل القادة الفلسطينيين أن يستفيقوا من وهم تناحر خياري المفاوضات أو العسكرة؛ فثمة خيار ثالث أكثر فعالية، والشعب الفلسطينى الأعزل هو السلاح الحقيقى الفاعل لقضيتنا، وهو الذى حقق المعادلة المستحيلة فى تحويل الضعف إلى قوة وتحويل الهزيمة إلى نصر؛ والشعب أولاً وقبل أى شئ آخر هو الذى ينبغى أن يتصدر المشهد السياسى لأنه قادر على الانتصار ومستعد لأن يضحى بدمه وروحه لتحقيق النصر، ووجب الآن إنهاء عشرية العبث السياسى التى تسمى الانقسام، فشعبنا ليس من وقد آن الأوان أن توحدنا دمائنا وتضحياتنا فشعبنا ليس منقسم بل موحد وهذا ما أكده أول أمس فى مسيرة العودة يوم الأرض.
علينا أن لا نعيد تجاربنا الخاطئة؛ وأن نستفيد من أخطائنا وأن لا نتعجل قطف الثمار قبل أن تنضج كما فعلنا سابقا، وعلينا إعادة صياغة كل شئ طبقاً لإرادة الشعب، وذلك بدءً من نظامنا السياسى الذى يجب أن يكون الانسان الفلسطينى جوهره وصولاً إلى كل فقرة فى أى وثيقة تسوية قادمة .
نحن اليوم أمام فرصة تاريخية إن أضعناها فعلينا أن لا نحلم بمصير أفضل من مصير الهنود الحمر فى القارة الأمريكية، فالشعوب دوما تتقدم بفكرها السياسى والنضالى على قيادتها وبوصلة الشعوب لن تخطئ الاتجاه أبداً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق