"ان ما يتعارض مع الحداثة ليس مابعد الحداثة وانما العصر الكلاسيكي"
- جان فرنسوا ليوتار- اعادة كتابة الحداثة-
لقد انتهت الأزمنة الحديثة على الصعيد الفلسفي حينما بدأ جان فرنسوا ليوتار (1924-1998) يتكلم عن المعرفة مابعد الحديثة بعد مشاركته مع كلود ليفور وكورنوليوس كاستورياديس في حركة اشتراكية أو بربرية التي حاولت نحت بديل ثالث عن الرأسمالية التي تحمل في ذاتها بذور فنائها والشيوعية المنغلقة. لقد تأثر في بداية تكوينه الفلسفي بفنومينولوجيا الإدراك الحسي عند موريس مرلوبونتي ولكنه ما فتئ أن شد الرحال إلى فانسان لكي يخوض مغامرة البحث في المركز الجامعي التجريبي إلى جانب جيل دولوز وميشيل فوكو وجاك دريدا. لقد اشتغل مدرسا للفلسفة في فرنسا والولايات المتحدة وخلف دريدا في رئاسة المعهد الدولي للفلسفة في باريس بعد أن كان قد حاد سنة 1972 عن ماركس وفرويد في كتاب انحراف وألف سنة 1974 الاقتصاد الليبيدي وعانق الإبداع سنة 1979 عندما كتب الوضع مابعد الحديث في تقرير حول المعرفة ثم أضاف بعد ذلك كتاب البينونة سنة 1984 ودروس في تحليلية الرائع عام 1991 وانتهى به الأمر إلى إصدار كتاب عن العمل بعنوان أخلاقيات مابعد حديثة في سنة 1993 ولكن ما نشر بعد وفاته بعامين من تشكيك في جدوى التفلسف تحت عنوان بؤس الفلسفة بقي أمرا فارقيا.
لم تعد المعرفة ما بعد الحديثة الوسيلة التي تستعملها السلطات لكسب المشروعية وتمارس الهيمنة بل يتم تكريرها من أجل توجيه شعورنا بالفوارق وتقوية قدرتنا على تحمل ما لا يمكن قياسه وحسابه وتحمله.
لقد اقترح ليوتار فكرا فلسفيا يناسب وضعنا مابعد الحديث ولكن نظريته حول المشروعية والسرديات يصعب تصنيفها وفق المقولات الكلاسيكية وتوجد في نقطة تقاطع بين الفلسفة والأدب والفن والألسنية.
لكن كيف قادته نظرته الفنية الجمالية الى التخلص من سردية العقلانية والتقدم والقول بالقطيعة الكارثية؟
في هذا الإطار تأتي جهود رفيقه كورنوليوس كاستورياديس (1922-1997) الفيلسوف من أصل يوناني والذي استقر في فرنسا منذ 1945 وساهم معه ومع كلود ليفور في بعث إشتراكية أو بربرية بالرغم من تلقيه لتكوين قانوني واقتصادي الا أن تفكيره قطع مع الماركسية التي تربى عليها في صغره بسبب نفوره من الدغمائية والميكانيكية وانخرط في المقابل في تطوير فلسفة سياسية تهتم بمعنى الواقع وتبقي على الطموح الثوري ضمن تركيز كبير على الفعل البشري والحرية والاستقلالية التي تقود المشرع الثوري.
لقد ألف سنة 1975كتاب التأسيس التخيلي للمجتمع ومنح شهرة كبيرة بسبب الافكار الجريئة التي تضمنها وخروجه المفاجئ عن التحليلات الجدلية المادية وبعد ذلك ظهر له في ستة اجزاء موسوعة مفترقات المتاهة كان قد انطلق في كتابتها منذ 1978 وأتمها سنة 1998 وكان قد أصدر كتابي العالم المجزأ سنة 1990 وصعود التفاهة عام 1996 وبعد وفاته بسنة ظهر له كتاب حول السياسي عند أفلاطون ومؤلف ما يكون الإغريق في ثلاثة مجلدات تم إصدارها على مراحل من 2004 إلى 2011.
لقد بحث كاستورياديس عن شروط التحرر وسبل الانعتاق من الحضارة الرأسمالية ووجد في المتخيل السياسي والاجتماعي الإطار المعرفي والآلية التنظيمية للثورة ودفع بالمجتمع إلى الانتقال إلى وضعية مستقبلية مفتوحة من كل الجهات على العديد من الاحتمالات وتظل متجهة نحو المجهول وغير المبرمج. لكن ما أهمية الفكر السياسي الذي أبدعه كاستورياديس وجعل كلود ليفور يتفاعل مع في فلسفته السياسية؟
واصل كلود ليفور (1924-2010) حركة اشتراكية أو بربرية التي تأسست على نقد الانحراف الذي قامت به البيروقراطية السوفياتية ولقد أثمرت نتائجها انهيار جدار برلين وتفكك المعسكر الاشتراكي ودخول العالم زمن القطب الواحد وصعود أصوات الفكر المحافظ الجديد والتصورات النيولبيرالية. لهذا السبب اعتنى تلميذ موريس مرلوبونتي بالنظرية السياسية واشتغل باحثا في المركز الوطني للبحوث العلمية وصار أستاذا في المدرسة العليا للدراسات في العلوم الإنسانية وظل حذرا محترسا من الأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية والمنعطفات التاريخية التي عاصرها ومثل فكره السياسي شهادة عليها. لقد ظهر له سنة 1978 كتاب أشكال التاريخ، محاولات في الأنثربولوجيا السياسية، وبعد ذلك أصدر عام 1981 كتاب الاختراع الديمقراطي بين فيه حدود الهيمنة الشمولية وفي سنة 1986 ألف محاولات في السياسي حول القرن التاسع عشر والقرن العشرين وأضاف إليه سنة 1992 الكتابة على مختبر السياسي. لقد ركز ليفور في فكره السياسي على نقد الشمولية وطور مسألة الديمقراطية والحرية السياسية في ظل التعددية واحترام الاختلاف وعقلنة الصراع وتوجيهه نحو تطوير المؤسسات القانونية وتنمية المجتمع.
لقد أدخل العديد من المكتشفات التي حدثت في الأثنولوجيا والتاريخ والعلوم الاجتماعية في الإشكاليات التي كانت تثيرها الفلسفة السياسية الماركسية وجعل انشغالها الأبرز متمحورا حول الرغبة للتخلص من العبودية المتأتية من الاعتقادات الجماعية وشجع على حرية التفكير والنقد وإبداء الرأي في المجتمع وقام بوضع جملة من المعايير التي تساعد على التفريق بين مجتمع حر ومجتمع يحكمه الطغيان والاستبداد.فكيف يمكن الانتقال بالفضاء العمومي من شبح الهمجية المخيم عليه إلى أنوار الديمقراطية والحرية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق