الحَاجِز/ محمد زكي يوسف عيادة

     "أَخرِجوا بطاقاتِكم الشخصيةَ"، قالها بحَنَقٍ سائقُ الحافلةِ حينَ لاح له ذلكَ الشيءُ. أشهَرَ الركَّابُ بطاقاتهم؛ ليثبتَ كلٌّ منهم - للمرَّةِ الألف- أنَّهُ هوَ، ولا أحدَ سواهُ، فيعبُرَ إلى بيتهِ منكسرًا كالمشبوهِ. امتدتْ أياديهم نحوَ الملثَّمِ، نظرَ فيهم، يجولُ ببصرهِ الحادِّ بين القابعين في الصمتِ، يفتِّش عن ذِبحٍ جديدٍ يقدِّمه لمملكةِ الخوفِ. وكأنَّي بهِ يُحدِّقُ في ذلكَ المسكينِ اللَّابدِ قُربَ البابِ على بقايا كرسيٍّ أسود.
أعرفهُ جيِّدًا، إنَّهُ جاري في الحيِّ، أخذَ يؤنِّبهُ على لقبهِ المكتوبِ في البطاقةِ؛ ويطعنهُ بكلامٍ ونظراتٍ يأنفها الآدميّ. حاولتُ ألَّا أسمعَ أو أرى شيئًا، تعالتِ الأصواتُ والتوسُّلات، فتحتُ عينيَّ لأراهُ يُسحَبُ من بقايا شعرهِ المغبرِّ كما تُسحَبُ الشاةُ، أيقنتُ أنَّهُ سيغيبُ كسابقيهِ خلفَ الأسوارِ، تراءتْ ليَ صورةُ ابنتهِ التي لم يتركْ لها القصفُ سوى هذا الأبِ المفجوعِ، أصمَّتْ دموعي المتحجِّرةُ مسامِعي، وانسحبتُ بفكريَ من وسطِ ذلكَ الضجيجِ والصراخِ إلى عالَمِ تلكَ الأسرةِ المحاصَرةِ بالحرمانِ والألمِ كما هو حالُ معظم سكَّانِ الوطن.
آخرُ مشهدٍ وعيتهُ من ذلك الفصلِ رؤيتي قطراتِ الدَّمِ الكالحةَ تسيلُ على أعتابِ الحافلةِ، وهي تخطُّ بوهنٍ قصَّةً جديدةً من قصصِ الحاجزِ المشؤومِ. عادَ إليَّ سؤالي الأزليّ التائه: إلى متى؟ ...
استجمعتُ ما تبقَّى منَ العزيمةِ، واستدعيتُ من التاريخِ أشلاءَ المبادئ المبعثرةِ، ولملمتُ من دفاترِ الذاكرة آثارَ الكراماتِ المحكيةِ في قصصِ المساءِ، أحاولُ أنْ أجعلَ منْ ذلكَ كلِّهِ لسانًا ناطقًا يُطلِقُ السؤالَ المحبوسَ إلى النورِ، مطلقًا صرختي في تلكَ الأقنعةِ غيرَ آبهٍ بالغيابِ خلفَ الأسوارِ، ولكنْ، ما كلُّ هذهِ الهواجسِ التي تجتاحُني منْ عالَمِ الخوف؟ وما سِرُّ هذا التردُّدِ الذي يخنقُ مروءتي، وكأنَّ الصبرَ يقرأُ على فؤاديَ الثائرِ خُطَبَ الطاعةِ، والعقلُ يهمسُ بينَ الجوانحِ: "ما الذي يُغريكَ بالصرخةِ الحمقاءِ؟ دعْكَ منهم، تكفيكَ همومُكَ الحُبلى وآمالُكَ الثكلى"
 وكأنِّي بروحي الوسنى يمزِّقُها التجاذبُ، تكادُ تغرَقُ بينَ نداءاتِ المجدِ وتراتيلِ الاستكانةِ، ومن بينِ زحامِ الخواطرِ وصراعِ الأزمنةِ أطلقتُها في وجوههم: إلى متى؟ شبعنا موتًا...
كانتْ تلكَ آخرُ كلماتي، لينهالَ سيلُ السُّبابِ والصَّفعِ...، صادروا جسدي، ووأدوا صوتي، أمَّا روحي فغابتْ في سباتٍ طويلٍ، لتعودَ منهكةً بعدَ حينٍ فتجدَ أشلائي الزرقاءَ ملقاةً وسطَ الزحامِ في غياهِبِ الزنزانةِ الصمَّاء، أسلاكٌ تُشعِلُ الآلامَ، وكراسٍ ذاتُ أغلالٍ، وسياطٌ ظمأى للدِّماء تُجرِّعُ الحناجرَ المتمرِّدةَ كؤوسَ الموت.
بدا الزمنُ في ذلك المكانِ مشلولَ العقاربِ، والظلامُ الدامسُ يحتلُّ كلَّ الزوايا والجهاتِ، تأمَّلتُ نفسي، أدركتُ أنَّها تحاورُ رسولَ الموتِ، تساومهُ على بضعِ لحظاتٍ، شيءٌ ما جعلني أقاطعُ تلكَ البيعةِ، وأُردِّدُ كلماتي تلك... تحرَّرتِ الحروفُ والأنفاسُ؛ فحَلَّتِ السكينةُ والرِّضا، وفاضَ البصرُ ليُعانقَ نورَ السماءِ.

هناك 3 تعليقات:

  1. والله المستعان...

    ردحذف
  2. ولا حول ولاقوة إلا بالله

    ردحذف
  3. عتل زنيم ... عليهم من الله مايستحقون ورحم الله ضحايا الظالمين

    ردحذف