التشكيل الجمالي في الصورة الشعرية لمحاكات (إمرأة من نار) للشاعرة اللبنانية سمر نادر/ نزار حنا الديراني

أقصد بالتشكيل الجمالي القوة المنتجة لعلاقات متماثلة بين أنسجة القصيدة كي تؤهلها لتكوين صور جميلة تجسد وتقرب الموضوع المعبر عنه للمتلقي بصور حسية تتدفق - مثلما يتدفق الدم من الشريان - ما خزنه الشاعر من خبرات وتجارب وتزويقات فنية لأحاسيسنا الداخلية المتراكمة والتي هي محصلة الحالات الشعورية التي يمر بها المرء في حياته اليومية، عبر ذاكرة تحتفظ بالعديد من الصور الحسية الممزوجة بالحلم والناتجة بفعل الحدس والطاقة الكامنة في داخله، فتولد القصيدة وهي جامعة بين عروقها ما أنصهر من المتناقضات في مزيج واحد يحوي الحسي والمجرد والذكريات والمستقبل لتعبر عن قلق الذات الفردية ، وذلك من خلال حركة الشاعر النفسية، ومدى تفاعله الداخلي مع الصورة. فحين يعبر الشاعر عن مشكلة خاصة يكون قد عبر بطريقة أخرى عن مشكلة مجتمع بأكمله، فتشاكلت القصيدة مع النص النثري، وغدت وكأنها سيرة ذاتية  .
أما الصورة الشعرية ، فهي حياة القصيدة كما يقول درايدن   ، ولان تقديم صورة شعرية واحدة كما يقول ازرا باوند هي خير من انتاج كتب عديدة  ..  لذا أحتلت الصورة الشعرية ركناً اساسيا في الاعمال الشعرية للشاعرة سمر نادر كونها الوسيلة الاولى التي تستعين بها الشاعرة في صياغة تجربتها الشعرية الاولى ... لتكون قادرة على اثارة عواطف القارئ لجعله قادرا على الاستجابة لرؤيتها .. 
قراءة اولية في مجموعة الشاعرة سمر نادر (أمرأة من نار ) الصادرة من مركز عشتار للطباعة والنشر سنة 2008 والتي تحوي بين دفتيها (46) قصيدة يوقفك العنوان (الذي هو عنوان لاحدى قصائدها ) كونه من الوسائل الجمالية والدلالية المهمة في بناء النص فهو يؤدي دوراً فعالاً في العملية الأدبية ، لإرتباطه بنصوص المجموعة ، فيغرينا بقراءتها ... وبه تبدأ عملية التواصل مع متن العمل الأدبي، إذ يشكل مفتاح النص الدلالي الذي مما يفترض بنا حين قراءة العنوان وتأويله أن ننظر إليه – أولاً - في بنيته اللغوية والدلالية المستقلة، ثم نربطها بالنص ونتابع تأثيرها في إنتاجه ... فلغويا : النَّارُ عنصرٌ طبيعيٌّ فَعَّالٌ ، يمثلِّه النُّورُ والحرارة المحرقة ، والمرأة هي الاخرى عنصر طبيعي فعال يمثلها الدفئ والحنان والتمرد في أحيان اخرى ... 
وكما تقول في قصيدتها (إقترب ) :

إقترب وأشعل النار
في موقد الحب ...
فأنا أخاف البرد ...
أخاف العاصفة
لذا شكل العنوان مفتاح الدلالة لتتساءل ما الرابط بين المرأة والنار ؟؟ أتريد الشاعرة ان تجمع صورتين منسجمتين أو ربما متناقضتين !! ...  
ففي الصورة الاولى نتلمس صورة المرأة الرقيقة بحنانها وعطفها لما لها من حضن دافي يأويه الحبيب والطفل ليشعر بأمان والمرأة أحيانا من شدة حبها لنصفها الاخر تكون كالنار سريعة التفاعل والأتقاد وفي المقابل نجد ان النار تعطي للجميع الدفئ والضياء فيحوم من حولها الانسان ليتدفئ .... وهذا ما تكشف عنه في قصيدتها ( امرأة من نار ) وهي تقول :
إمرأة أنا ...
ألتهب شغفا بك ...
 أذوب نشوة ...
فتجن العواطف ....
ويئن باطن الارض ...
تدور كل الدنيا ...
ألمس حنايا قلبك ...
فيكون الوجود
هكذا هي المرأة حقا فهي المفعمة بالحب والحنان حين تشعرها باخلاصك وحبك لها . 
وفي الصورة الثانية تجسد الشاعرة صورة النار بلونها الصارخ والقاتم ولهيبها الحارق ... وصورة المرأة المتمردة والعبوسة حين تريد ان تفترسك وأنت تهين كرامتها أو تذلها ... وكما تقول في مقطع آخر من قصيدتها ( امرأة من نار ) : 
أمرأة من نار أنا ...
قادمة اليك ...
من طقوس آلهة الاغريق
ووحشية البربر ...
قادمة اليك من جنوني ..
وعشقي ... 
وهستيرية الحياة ...
من هنا جاءت قصائد المجموعة وهي منحازة الى مايشبه الهاجس اليومي ، حيث يحضر الآخر / الحبيب في قصائدها بوصفه رمزا نابضا وتحضر الشاعرة بوصفها إنعكاسا لتصرفات ندها الآخر عبر سيل من الصور الشعرية الجميلة والتساؤلات الموحية والتي ترتفع فيها النبرة الغنائية ، وكما تعرف نفسها في قصيدتها (همسات ) :
نار أنا ... وأرتجف بردا ...
وله أنا ... وأستجدي حبا ...
عشقا ...
شغفاً ...
لوعة ...
من أتا ؟؟؟
حب دفن قبل أن يولد ...
جنين ينظر النور ..
أنا من أنا ؟؟؟
وفي الوقت نفسه حاولت الشاعرة توظيف بعض ملامح البنية السردية في قصائد المجموعة لتعطي لصورها الحركة والاستمرارية ، لذا أخذ الكلام الشعري لديها سياقًا سرديًّا معتمدا في تشكله على اليات السرد والتى ساهمت بدورها فى حركية النص وتترك نوافذ الانشغال والتأويل مفتوحة فأبعدت بذلك نصها الشعري من الروح الخطابية والغنائية الفجة إلى روح الاحتفاء بصوت النص في تعالق وثيق مع الذات مما وسع لديها الشبكة الدلالية التي تسعى إلى تعميق فاعليتها من خلال الاّتكاء على البنيات السردية، وبهذا أختلف خطابها بعض الشئ عن الخطاب الغنائي . وكما في قصيدتها (جناح الشوق ) :
قادمة اليك ...
قادمة على جناح الشوق
الى منتهى العشق
فابسط ذراعيك ...
وضمني ... ضمني ...
ليزغرد قلبي
من نشوة اللقاء
قادمة من أعماق الحنين ...
الى منتهى الحنان ..
فابسط ذراعيك ...
وضمني ... ضمني ...
لأنتشي من عطرك ...
وأنسى عمري
بين يديك
لذا جاءت الصورة الكلية لديها مبنية على حكاية أحداث متسلسلة، وتتابع معقول في الأحداث، أو في طريقة تقديمها مكونة لوحة بانورامية تتحرك على ايقاع نبضات القلب ، لتنقل لنا ما يجول بخاطرها من معان وأفكار في أثناء عملية الكتابة ، معتمدة على خبرتها ومشاهداتها الخاصة ، وتجاربها الشخصية ، وموروثها الثقافي والتراكمات التي صقلت نفسيتها .... فجاءت قصائد المجموعة تارة تجدها مسكونة بالهاجس الأنثوي فترسم البسمة على الشفاه ، وفي الأخرى تجد آثار النار وهي تاركة السواد والرماد لتعكر بياض الثلج .. وكما تقول في قصيدتها (همسات) :
أتيت كما البحر
غمرتني بحنانك
أدفأتني أنفاسك
وتستمر بسرد قصتها مع نصفها الآخر فتقول .
أنت ... وانا ...
كالماء والنار ...
لا أمل لنا باللقاء
تشتغل الشاعرة على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري فترسم لنا مجموعة من الصور الشعرية الجزئية ذات محاكاة وتشكيل جمالي تحاكي بها الشاعرة هواجز أناها كي تفَجِر طاقتها في مجموعتها هذه عبر لعبة الوصف، والتلمّس، وعبر التصاق القصيدة وملفوظاتها بهاجس الأنثى ليمتد صداها الى حيث المتلقي فأتسم سردها الشعري بالحدث والإخبار، ليبتعد عن السكون فالحركة بحد ذاتها هي عماد الدراما، وهي حركة تقود إلى العمل. فثمة حركة فكرية أدت إلى حركة على أرض الواقع، وتصادم وصراع وهذا ما جعلها تقترب بعض الشئ من الدرامية والحكائية ، وكما في قصيدتها (صغيرة ) :
عندما كنت صغيرة
شربت حبك نهرا
من اللبن الصافي
قضمت قلبك قرضا من الشهد
....
عندما كنت صغيرة
تعلمت كيف أنطق هواك
أفسر فقط ما تقول عيناك
....
واليوم ...
كبرتُ
أكثر من اللزوم
تعلمت كيف أمشي
درب الحب وحدي
فقد روت الشاعرة بصوتها مراحل حياتها من مراهقتها الى حيث النضوج  ... فأثبتت قدرتها على التحليق بمتخيلاتها الشعرية، بعيداً عما هو مألوف أو متوقع . 
صورها حين نقرأها تتشظى وتتناثر في ذهننا على شكل مشاهدات تترك لدينا تخييلا تصوريا لتقوم مخيلتنا بدورها ووفق إدراكها باعادة تشكيلها من جديد من خلال ربطها ووضعها داخل إطار حسي ترتبط فيما بينها بخيط ذهني داخل اللوحة الواحدة لتتحول هذه الصور الجزئية الى صورة فسيفسائية جميلة تامة ومتكاملة مما يسهل علينا استيعاب تشظياتها مكونة بذلك مجموعتين من القصائد الأولى تدخل ضمن قصائد الحب والدفئ  واخرى هي من نتاج صراعها مع الاخر ... 
الشاعرة في المجموعة الاولى تحاول ان تؤسس لنفسها عالما جميلا يفوح منه الحب والحنان ورحيق فمها يمطر الأناشيد وقلبها يأوي العالم  .. طفولة تحلم بحب ابيض لا يزول حتى النهاية كقولها في قصيدتها (جناح الشوق) : 
قادمة اليك ..
قادمة على جناح الشوق
الى منتهى العشق
فأبسط ذراعيك ...
وضمني ... ضُمني ..
ليزغرد قلبي 
من نشوة اللقاء
وفي المجموعة الثانية تجد فيها أنعكاسا لصورة الآخر المشوهة التي تجعلها تتردد وتخاف من الحب كقولها في قصيدتها (البحر) :
هذا البحر لا يهدأ
يموج في داخلي
يقتلع مده وجذره
كل شئ
تتغير أمواجه كتغير وجه الكون
....
وهذا البحر لا يهدأ
يبدو ساكنا وممتعا للغوص
لكنه يحمل الف الف تيار
وهكذا في قصائدها الاخرى ....  
الصورة الشعرية لدى الشاعرة تبدو وكأنها في تحرك دائم لتكون في عمليّة تفاعل متبادل بينها والمُتلقِّي لأفكارها وحواسها، من خلال قدرة النص على التعبير من خلال ايجاد علاقات متماثلة بين صورها الجزئية من جهة ومن جهة أخرى بين كلماتها وحلمها المحسوس وعاطفتها الجياشة  لتمكن القارئ من ادراك تاويلاتها التفاعلية بلغة شعريّة تستند مثلاً إلى المجاز، والاستعارة، والتشبيه؛ بهدف استثارة إحساس المُتلقِّي واستجابته، كقولها في قصيدتها (كلمات) :
لا تتلاعب معي بالكلمات
لأن الكلام
في أكثر الأحيان
محرق كالنار
....
ويصبح قلبي نارا
ودمي نبيذا
وتصبح عيناك وجداً
ويداك حناناً
تلغي بعد المسافات
ولا بدّ من الإشارة إلى أنَّ الصورة الشعريّة لديها مُرتبِطة بالخيال والخيال كما يصفه الفيلسوف جورج غوردييف في كتابه (الجميع وكل شئ ) :
( الخيال ليس أنفعاليا فقط أو عقليا فقط وانما هو متضمن في كل الوجود ، في الجسد والافعال والعقل ، مرتبط بحمقه وعذابه بل أنه مرتبط بعذابه أكثر من أرتباطه بأي شئ آخر .)
لذا كان الخيال مصدر صورها الشعرية ، بمعنى كانت صورها تتشكل في الخيال قبل ان تتشكل في اللغة ؛ فخيالها يستمد عناصره الاولية من الحياة نفسها ومن ثم يعيد تركيبها بشكل جديد ومغاير .
إذ أتيح الخيال للشاعرة الدخول الى عمق الحدث واستخراج أبعاده ووضع صوره داخل الاطار الحسي ؛ ومن ثم تقوم مخيلتها بتفجير مدلولاته عبر صور شعرية تقذف بها الى ذهن المتلقي ليقوم هو الآخر بدوره في تكوين وتشكيل الصورة لتعطي شكلا وروتقا وعمقا مؤثرا على ضوء ابراز علاقات جديدة بين عناصر متضادة او متنافرة في الصورة ...
الشاعرة سمر نادر في مجموعتها ( إمرأة من نار ) تطرح ملامح صورها السردىة من ناحية والشعرية من ناحية أخرى والمتشكلة بفعل الاحتكاك الفعلى مع الاخر عبر تقنيات سردية ساهمت بدورها فى حركية النص مما جعل نصها يعج بالموازنات بين طرفين متناقضين ، الطموح والواقع ، اللقاء والفراق ، العودة واللاعودة وفي الوقت نفسه تترك نوافذ الانشغال والتأويل مفتوحة ....
كما نراه في قولها في قصيدتها (أنت وأنا ) :
أنت وأنا ...
أنت جبل ثلج سئم الأنتظار
وأنا موقد حب يشعل نارا بنار
....
أنت وأنا ...
ليل ونهار ... صمت وأنفجار
بحيرة ساكنة ... نهر هدار
.....
أنت وأنا ...
حياتك لمحة حب
وحياتي إعصار
فكيف نلتقي ؟؟؟
بالله عليك ... بدون تحطم وأنهيار ؟؟؟
إن الإسقاطات النفسية على مظاهر الطبيعة في نصوصها الشعرية أفرزت صورا مشخصة لتشير إلى حالة من التأمل والفرح تارة وفي الأخرى الضياع اللتين يلفان تجربتها الشعرية معبرة عن حركة وجدانية مضطربة مصورة لنا حالتها النفسية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق