النار فاكهة الشتاء/ سماح خليفة

"النار فاكهة الشتاء" عبارة رددها والدي رحمه الله على مسامعنا كثيرا، وفي كل مرة تضرب هذه الجملة طبلة أذني حتى تترك رنينا قويا يدفعني إلى سؤال والدي: "كيف يعني النار فاكهة الشتاء؟!!"، فيرد والدي بابتسامة: طبعا النار فاكهة الشتاء، ثم يشير إلينا ونحن نتحلق حول الكانون، نمد أيدينا بحماس، نغرف الدفء بحب ونلتهمه بلذة، فيقول: "شوفوا حالكم كيف مجمعين على الكانون، رح توكلوا النار كمان شوي".
نضحك بصوت مرتفع، ثم ننتشر بخفة كالفراشات، نحضر الخبز والزيت والزعتر، ونبدأ بقرمشة الخبز بعد دهنه بالزيت والزعتر على النار، فتفوح رائحته في كل ركن في البيت، مما يدفع أمي للاحتجاج: "كيف رح تتغدو وانتم عبيتم معدتكم خبز مقرمش؟!"، فنرد بصوت واحد :"ما تخافي علينا رح نتغدى".
كان والدي يخطف منا الملل ويطرد برد الشتاء بحكاياته الجميلة ونكاته اللطيفة، وأما نحن لا نفتأ نتوقف عن السؤال المعتاد :"ليش ما بتتلج عندنا في طوباس؟! والله نفسنا نلعب بالتلج".
أذكر كيف نمنا ذاك اليوم في شتاء عام 1992 على صوت زخات المطر القوية وهي تنقر صفيح الزينكو كسرب طيور غاضبة، وعلى نقيض هذا النقير القوي استيقظنا صباحا متفاجئين لحجم الهدوء الذي اجتاح المنطقة، مما دفعنا لنكتشف الوضع في الخارج، لم نصدق أعيننا، الأرض تكتسي ثوبها الأبيض، وأخيرا حل الزائر الأبيض ضيفا على طوباس، هرع الجميع من بيوتهم إلى شوارع الحي فرحين، وبدؤوا يصنعون كرات الثلج يرمون بها بعضهم البعض، كانت كرات الثلج تتطاير في فضائنا الصغير كأنها مشاعل نور لأحلامنا البسيطة قيد النضوج.
كان صدى ضحكاتنا يدوي في الأرجاء مما حجب عن مسامعنا صوت والدتي وهي تطلب منا الدخول حتى لا نصاب بالبرد.
أنهكنا من فرط السعادة التي تلبستنا حتى ارتمينا على الأرض يغشينا صمتنا ليعلو صوت والدتي فيخترق مسامعنا.
"جايين انت روحي واحنا وراك" أجبنا بصوت واحد.
تبعناها فعلا ولكن لا لندخل ونلتهم فاكهة الشتاء بل تسللنا بخفة إلى السطح عبر الدرج الصاعد للأعلى، عقدنا صفقة فرح جديدة مع هذا الزائر الأبيض وبدأنا نصنع رجلا من الثلج، وضحكاتنا يتردد صداها في كل الأرجاء.
لم يغفل والدي رحمه الله عن تلك اللحظات الجميلة، بل أتى إلينا يحمل كاميرته الخاصة ووثقها بكل الحب.
**
ان شاء الله النار تاكل نص اسرائيل
.......
"ان شاء الله النار تاكل نص اسرائيل" جملة قالها صدام حسين على شاشة التلفاز، في نشرة أخبار الثامنة مساء، على قناة فلسطين على ما أعتقد، فلا أذكر وقتها غير قناة فلسطين وعمان والإسرائيلية، أما القنوات الفضائية الأخرى لم يكن ليسمح لنا والدي بمشاهدتها؛ فلم يكن لدينا ساتالايت، كان فقط متوفرا في محل أخي المتواجد في الطابق الأول لبيتنا القديم والمخصص لتصليح الأجهزة الإلكترونية بحكم عمله الذي تطلبه مهنته ألا وهي هندسة الكترونيات.
كان صدام حسين يرتدي بزة وربطة عنق سوداء، بشعر ولحية أيضا سوداء داكنة. كانت هيبته تطغى على الجلسة، كنت أشعر أنه رجل عظيم وخاصة أن الجميع يهتف باسمه باعتباره المخلص من جبروت إسرائيل.
كانت أحاديث الجميع تدور حول الغاز والقنابل الذي سيضرب بها صدام تلأبيب، حتى أخذ الجميع يتأهب لتوخي الحذر خوفا من وصول الغاز إلينا.
أذكر أخي سعيد عندما أحضر الأشرطة اللاصقة ومختلف أنواع المعلبات وأكياس الفحم، وطلب من أمي أن تحتفظ بها داخل الغرفة التي تتوسط البيت، كنت أتساءل دائما في سري: "طيب المعلبات وافهمنا ليش نحبسها معنا في الغرفة بس الفحم لشو بلزم والدنيا صيف!!!"
تساعدنا جميعنا في وضع اللاصق على حواف الشبابيك والأبواب استعدادا لليوم الذي سيضرب به صدام تلأبيب.
ذات يوم مساء بدأت صفارات الإنذار تدوي في الأرجاء؛ فهرع الجميع إلى الغرفة وأغلقنا الباب خلفنا، كنت أنظر إلى كيس الفحم وأسائله: ماذا تفعل هنا؟ ولكنه لا يجيب. حتى أجاب أخي نيابة عنه قائلا: "نفسك تعرفي شو لزوم الفحم، صح؟" فأجبته: صح، فاسترسل في الحديث وكان بعض ما فهمت من حديثه أنه بسبب تواجدنا في الغرفة لفترة طويلة وإغلاق كل المنافذ التي تدخل الهواء الذي يحتوي الأكسجين الضروري لعملية التنفس، وخوفا من نفاذ هذا الأكجسين، علينا أن نعوض ما نسحبه من أكسجين بالأكسجين الذي ينتجه الفحم.
بقينا على هذا الحال فترة لا بأس بها حتى اقتنعنا في النهاية أن الغاز لا يصل بلدتنا طوباس، فأصبحنا كلما سمعنا سفارات الإنذار نهرع إلى السطح نراقب صواريخ صدام في السماء وهي تتجه صوب إسرائيل فنهتف بصوت عال: "ضربها ضربها هيييي..عاش صدام حسين عاش"، فلم نكن ندري أن دعواتنا له بطول العيش جعلته يلقى حتفه بأسوأ حالاته شنقا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق